أردوغان يخلط أوراق الأكراد بالأرمن

قد يكون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فاشلاً في الاستراتيجية بدليل أنه لم يربح حتى الآن معركة واحدة من المعارك السياسية التي خاضها حول حدوده، لكنه بارع قطعاً في المجالات التكتيكية . فقد أصاب في تحرير “ضريح سليمان شاه” من سيطرة “داعش” و”النصرة” وحفظ لبلاده هامشاً واسعاً للمناورة في التعاطي مع المسلحين المتشددين على حدوده مع سوريا، ونجح أيضاً في تبريد علاقاته مع دول الخليج بعد شهور طوال من الغليان، واستطاع تجميد الخلاف مع مصر عند حدود معينة . . الخ .

لكن الرئيس التركي قد يسجل اختراقاً مهماً على الصعيدين الاستراتيجي والتكتيكي في قضية حزب العمال الكردستاني إذا ما سارت الأمور على ما يرام بين الطرفين، وتم تنفيذ وثيقة التفاهم بحذافيرها . وقد يستخدم هذا النجاح الاستراتيجي بطريقة تكتيكية في الموضوع الأرمني الشائك وهو يرتب المسرح لهذا الغرض في أواخر إنيسان المقبل
في التفاصيل، لا بد من الإشارة إلى أن العام الجاري يصادف ذكرى مرور مئة سنة على معركة الدردنيل التي ربحها الأتراك في الحرب العالمية الأولى عام 1915 وذلك حين كانت بريطانيا وفرنسا ترغبان في احتلال العاصمة التركية إسطنبول والسيطرة على المضائق تمهيداً لتموين الجيش الروسي الذي كان يعاني صعوبات جمة في مواجهة الهجوم الألماني الكاسح، بيد أن الاتراك أعدوا كميناً للبريطانيين وألحقوا بأسطولهم الضخم خسائر فادحة مادية وبشرية وأفشلوا هجوماً برياً واسعاً ما أدى إلى سقوط أكثر من 50 ألف قتيل بريطاني وعشرات الآلاف من الجرحى مقابل أكثر من 90 ألف قتيل تركي ومثلهم من الجرحى، وتعد هذه المعركة حدثاً مهماً في بقاء تركيا الحالية على قيد الحياة لا بل إعادة تأهيلها لتكون لاعباً إقليمياً بعد الحرب .

ولأن أردوغان مولع بالعظمة العثمانية فقد قرر تنظيم احتفالات ضخمة تليق بهذه المناسبة ولاستخدامها في أحد وجوهها ضد القضية الأرمنية التي فشل في إحراز أي تقدم حولها، وذلك عبر نقل تاريخ الحدث من 18 مارس/آذار الجاري يوم وقوع الهجوم البريطاني الفرنسي إلى 24 إبريل/نيسان ذكرى المجازر الأرمنية وعليه فإنه سيضع الأتراك جميعاً في مواجهة الأرمن الذين سيتحدثون في مهاجرهم عن هذه الجريمة المؤلمة ضد الإنسانية في كل مكان في الوقت الذي يتحدث فيه الأتراك عن انتصارهم الأهم في الحرب العالمية الأولى وبالتالي لن تترك الساحة فارغة للأرمن الذين سيحتفلون هم أيضاً بمرور مئة عام على المجازر التي ارتكبها العثمانيون ضدهم والتي وصلت إلى ما يقارب المليون ونصف المليون نسمة وفقاً لحساباتهم .

وسيلعب أردوغان ورقة أخرى في المناسبة نفسها فهو سيأخذ العالم إلى حيث يريد، أي إلى القضية الكردية بدلاً من القضية الأرمنية، أي إلى الحاضر بدل التاريخ، وقد اتفق لهذه الغاية مع عبدالله أوجلان في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي على إنهاء التفاوض حول القضية الكردية خلال خمسة أشهر تختتم في إبريل/ نيسان المقبل، وقد انتهت المفاوضات بالفعل بين الرئيس التركي وأوجلان القابع في سجنه قبالة إسطنبول والقيادة العمالية الكردية المتمركزة في جبال قنديل في كردستان العراقية ووقع الطرفان في فبراير/شباط الماضي وثيقة من 10 نقاط تنص على تمتع الأكراد الترك بكامل حقوقهم الديمقراطية وبقدر لا بأس به من الحكم الذاتي، وقد اختير عيد النوروز لإعلان هذا الاتفاق وبث خطاب تاريخي لزعيم المتمردين الأكراد يدعو فيه أنصاره إلى إلقاء السلاح والاستعداد لإرساء السلام بعد 30 عاماً من المعارك والدماء الغزيرة التي سالت من الطرفين .
وإن كنا لا نعرف بعد كل تفاصيل ما جرى، فالراجح أن الاتفاق يوفر لرجب طيب أردوغان هامشاً مهماً للمناورة في القضايا الشائكة التي تعترضه، ولا سيما في القضية الأرمنية ففي الوقت الذي سينشغل فيه العالم بالحديث عن مظالم الأرمن التي تعرضوا لها في تركيا سيتحدث أردوغان عن الديمقراطية التركية التي أتاحت اتفاقاً تاريخياً بين الأكراد والأتراك .
يذكر هنا أن المفاوضات بين الأكراد والحكومة التركية بدأت في عام ألفين وتعثرت حتى عام 2011 وعادت إلى الصفر عام ،2012 وتم تجميدها حتى عام 2014 الذي شهد نصفه الثاني تقدماً ملحوظاً أفضى إلى النقاط العشر .

والراجح أن الرئيس التركي يراهن على استخدام الملف الكردي ليس فقط للتخفيف من درامية الذكرى الأرمنية على بلاده وخفض أثر التدخلات العالمية في المناسبة نفسها، إنما أيضاً للإفادة من علاقات جيدة مع أكراد سوريا والعراق وتركيا، وإن تم له ذلك يكون الأكراد قد خرجوا من التحالف الوثيق مع جيرانهم العرب إلى حضن حليف تركي، يمكن أن يسهم في إضعاف العرب أكثر، وفي تشتيت بلدانهم وتمزيقها وبخاصة سوريا والعراق فضلاً عن قطع الطريق على إيران القوة الإقليمية الصاعدة والراغبة هي الأخرى في إقامة علاقات قوية مع أكراد العراق وسوريا .

وعلى الرغم من النجاح التكتيكي والاستراتيجي المأمول في هذه القضية، فإن المئوية الأولى للذكرى الأرمنية لن تمر مرور الكرام، ولعلها ستفضي إلى اعترافات أكبر بتلك المجازر وإلى السير على خطى الدول التي أصدرت قوانين بعدم التشكيك بمأساة الأرمن ومطالبة تركيا باعتذار تترتب عليه تعويضات لا تقل اهمية عن التعويضات التي نالها اليهود جراء المحرقة النازية . وبالتالي سيكون من الصعب على الرئيس التركي أن يعيد تظهير عظمة بلاده في احتفالات همايونية وأن يحظى باعتراف دولي مع بقاء الجرح الأرمني نازفاً ومفتوحاً وسيزداد الأمر صعوبة عندما يكتشف أن مناورته الآيلة إلى فتح الأرشيف العثماني وإيكال القضية إلى مؤرخين محايدين والحديث عن ضحايا مسلمين لا يقل حجمهم عن حجم الضحايا الأرمن ستصطدم بحائط غربي منطقه الوحيد أن الضحايا لا يحتاجون إلى مؤرخ بل إلى عدالة وتعويضات مادية ومعنوية .

فيصل جلول  

الخليج

Share This