ذاكرة شعب : حين تسجل عيون الضحايا ذكريات الإبادة بلغة العدو

اعظم كنز في رحلتي الأرمينية هي لقاءي بواحدة من اعظم العقول الباقية على قيد الحياة في القرن الحادي والعشرين: الأثنوغرافية والفولكلورية الأرمنية البروفسورة فيرجين سفازليان امرأة مفارقة من فولاذ ورقة لا متناهية، تجاوزت عقدها الثامن بوضوح تفكير قل نظيره.

استقبلتني في شقتها المتواضعة بكامل اناقتها وحيويتها، وحرصت على ان اتناول الطعام اثناء حوارنا، وقد تطوعت ابنتها الدكتورة كناريك أفاكيان للترجمة من الارمنية الى الانكليزية. وبالعكس.

كنت غاضبا لأنني تعرفت عليها بالصدفة عن طريق نصيحة رجل دين ارمني، لماذا لم تتم دعوتها لمؤتمر “تحت قدمي ارارات”؟.

استمعت الى تفاصيل حياتها وعملها في حوار سوف اقوم بنشره قريبا، ارتسمت امامي صورة امرأة أسطورية تمثل ذاكرة شعب، اصرارها على العمل الخلاق خلال نصف قرن حفظ التقاليد الشفاهية (الشفوية) لارمينيا الغربية، و سجل قصصا كانت لتختفي وتذوب في حروب النسيان.

ركزت عملها زمنيا خلال فترة الإبادة الجماعية الأرمنية – 1915. على تدوين الذكريات المأساوية والأغاني التي رواها الناجون من الإبادة الجماعية، قصص جمعتها وسجلتها خلال خمسين عاما. تعد التقاليد الشفوية للسكان في ارمينيا الغربية جزء من الثقافة الشفاهية للشعب الأرمني. وهي تقاليد ترتبط في النهاية بخصوصية التحديات التي واجهوها.
ومن دون جهود هذه الباحثة العظيمة وجمعها لقصص الرواة هناك كان تراث شفوي هائل يتلاشى وتختفى مع الابادة قصص فظيعة. تصوروا معي جهود فردية الباحثة تعيش صمن نظام شمولي تصدت لسياسة المحو الثقافي التي اتبعها الاتراك حافظة جزء من الثقافة الروحية لجزء من الشعب الأرمني تعرض للابادة والمحو الثقافي. قصتها تمنحنا الامل وتمدنا بالقوة على ان لا نشعر باليأس ولا نتصاغر امام سياسات دول كبرى تحاول محو العراق اليوم.

ولدت فيرجين سفازليانفي الاسكندرية- مصر في العام 1934، من عائلة ناجية من المذبحة، فحملت طفولتها ذاكرة جريحة، وفي العام 1947، عادت مع عائلتها الى ارمينيا (الجمهورية السوفيتية) انذاك، وبعد ان اكملت دراستها في قسم اللغة الأرمنية والأدب، بدأت مشوارها التاريخي منذ تلك اللحظة لتتحول حياتها الى سجل توثيقي مفتوح.
كانت قبضة ستالين الفولاذية حسبما شرحت لي تمنعها من ان تعمل بحرية، فقد كان الناس خائفين تحت حكم السوفيت من إثارة موضوع الابادة، اخبرتني عن العديد من الصعوبات التي كانت تواجهها لدى مقابلة الناجيات من المذبحة، بالرغم من انها كانت تشرح لهم طبيعة مشروعها لتسجيل شهادات وقصص الناجيات وحفظها من النسيان، فقد كانت تجابه بالشك من كونها جاسوسة تكتب تقريرا حزبيا.
كان النظام الشمولي السوفيتي يسهم في خنق ذكرى الابادة، وتعين عليها ان تنتظر ردحا من الزمن قبل ان يتاح لها هامش من الحرية للشروع بعملها.
وفر ذلك موت القيصر الحديدي ، لذا بدأ مشروعها لتسجيل الفولكلور الارمني المهدد بالضياع، متتبعة المرحلين قسرا من غرب أرمينيا، من كيليكيا والمدن الارمنية في الأناضول، ووثقت روايات الناجين هناك (شهود العيان على الإبادة الجماعية). ورافقها الحماس لمشروعها طوال مراحل عملها في معهد علم الآثار والإثنوغرافيا التابع للأكاديمية الوطنية للعلوم في أرمينيا منذ العام 1961 وحتى العام 1996، حيث اخذت تعمل في متحف-الإبادة الجماعية الأرمنية التابع للأكاديمية الوطنية للعلوم في جمهورية أرمينيا.
وبالرغم من انها قامت بتأليف عدد ممن المجلدات عن الحكايات الفولولكورية الارمنية والتقاليد الشفاهية لارمينيا الغربية وفي القسطنطينية، الا ان سلسلتها لحفظ قصص وروايات الابادة -تبقى من وجهة نظري- العمل الاهم الذي يلخص قضية حياتها. وقد نشرت سلسلة من المؤلفات عما حصل في ارمينيا الغربية بدأت منذ العام 1995 باللغة الأرمنية، مع ملخصات باللغة الإنجليزية والفرنسية والروسية.

توقفت لبرهة اثناء الحوار لاستجمع انفاسي في اجمل لحظات الحوار عاطفية، تكلمت عن عملها في تسجيل الاغاني الأرمنية عن الابادة باللغة التركية، فبما ان الأرمن قد حرموا في تركيا من التحدث بلغتهم، فقد سجلوا قصص المحنة باللغة التركية وحفظوا ذاكرى الابادة من خلال المذكرات والاغاني، وحسب تعبيرها البليغ “لقد سجلت عيون الضحايا ذكرى الابادة بلغة العدو”.

اما كيف جمعت هذه الاغاني داخل تركيا، وكيف سجلت قصص الناجين لدى زياراتها لدور العجزة، وشجاعتها المذهلة للدخول الى المستشفى وادعاء المرض ثم اجراء عملية في البطن، وتحملها الالم في سبيل ان تصبح قريبة من هدفها وتتسلل لمقابلة الناجيات في دار العجزة، فهي تفاصيل سوف اذكرها في حوارنا الذي سأنشره لاحقا.

صدرت لها مجموعة من المؤلفات توثق هذا العمل، منها كتاب عن الإبادة الجماعية في المذكرات والاغاني التركية لارمينيا الغربية في عام 1997 باللغة الأرمنية، مع ملخصات باللغة الإنجليزية والفرنسية والروسية. وفي ذات السياق وفي العام ذاته صدر لها مؤلف عن لإبادة الجماعية للأرمن في مذكرات وألاغاني التركية لشاهد عيان من الناجين في العام 1999 الذي اهدتني نسخته الانكليزية. ثم صدر لها بعد عام مؤلف عن الإبادة الجماعية للأرمن. شهادات من شاهد عيان من الناجين في عام 2000 باللغة الأرمنية.
وفي عام 2003 شاركت في تحرير كتاب مهم عن “الإبادة الجماعية للأرمن والذاكرة التاريخية”. بالغة الارمنية.

وفي العام 2011 صدر مجلدها الضخم 846 من القطع الكبير عن الابادة والمعنون ” The Armenian Genocide. Testimonies of the Eyewitness Survivors”
وهو عمل جبار اضطرت حسبما اخبرتني الى بيع مصوغاتها الذهبية وما تمتلكه من سجاد لكي تسدد ثمن ترجمته للانكليزية وطباعته باللغات الارمنية والانكليزية والتركية.
مشاركتها في الكتاب الذي اعمل عليه الان حول الابادة ستكون شرفا لي، ربما ستكون هذه مساهمتها الاخيرة كباحثة وهي تتجاوز عقدها الثامن، بذهن متوقد وروح صافية، روح ازهرت من ذكرى أليمة، نعمل جميعا على ان لا يعاد انتاجها مجددا، ونحن نشرف على احياء ذكراها المائة.

سعد سلوم 

Share This