مئة عام وما زالت مأساة الأرمن مستمرة

جاك جوزيف أوسي

كتب نعيم بك، السكرتير الأول لدى المدير العام المساعد لشؤون المنفيين الأرمن، في مذكراته ما يلي: أعتقد بأن مسألة النفي والقتل المفجعين للأرمن، تجعل اسم (التركي) خليقاً باللعنة الأبدية للإنسانية، لأنها لا تشبه أياً من الوقائع الرهيبة التي سجلها التاريخ العالمي حتى اليوم. ولدى التفتيش في أي نقطة أو زاوية مظلمة في الأراضي التركية الواسعة، يمكن العثور على الآلاف من جثث وعظام الأرمن الذين ذبحوا بأفظع الطرق.

الجدير بالذكر أن هذه المذكرات وغيرها من الاعترافات التي أدلي بها في المحاكمات التي جرت في تركيا أو أمام مجلس الحلفاء بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى جاءت بعد أن نشر الألمان نصوص المراسلات السرية، التي تتناول الممارسات الوحشية للحكومة العثمانية أثناء الحرب ضد الأقليات، بين السفارة الألمانية وقنصلياتها المعتمدة لدى الباب العالي وبرلين، مع نصيحة لطرفي السلطة في تركيا آنذاك (أنصار السلطة وأتباع مصطفى كمال أتاتورك) بالاعتراف بما حصل والتنصل من المسؤولية باتهام حزب تركيا الفتاة وجمعية الاتحاد والترقي بارتكاب هذه الجرائم.

من هم الأرمن؟

ينتسب الأرمن إلى العرق الهندو-أوربي (الأسيوي) الذي استوطن المنطقة الممتدة من تخوم الهند إلى تركيا الحالية. وأول ذكر للأرمن كشعب يعود إلى حوالي عام 550 قبل الميلاد عندما سماهم المؤرخ الإغريقي هيكاتوس الملتي (أرمينوي) وكانت هذه هي التسمية التاريخية الأولى للأرمن.

ثم وجد أسم أرمينيا، كما نعرفه اليوم، في النقوش المحفورة على صخرة (بيهستون) التي تركها الملك الفارسي داريوس الأول عام 521 ق.م، والتي تشير إلى بلاد الأرمن على أنها أرمينيا. ومنذ ذلك التاريخ، يعتبر معظم الباحثين أن عملية تكون الشعب الأرمني قد تمت، وبدأت مسيرة الدولة الأرمنية عبر الزمن ولا تزال مستمرة حتى وقتنا الحالي.

ويذهب بعض علماء السلالات البشرية إلى اعتبار أن للإنسان الأرمني شكلاً متميزاً تماماً كاللغة الأرمنية، واعتبروه نموذجاً خاصاً للدراسات المتعلقة بهذا المجال. أما نفسياً، فإن الأرمني هادئ بشكل عام، إلا إذا أثير، كثير التحمل للمشاق. وفي أحوال كثيرة يصعب توجيههم وترؤسهم كمجموعة، نظراً للروح الفردية العالية لديهم ولانفراد كل منهم برأي. مهنياً، هم بارعون في المهن اليدوية التي تتطلب الدقة والإتقان، يمتلكون الموهبة التجارية والدماثة الأخلاقية التي كانت من أسرار نجاحهم كأفراد في المجتمعات والدول التي هاجروا إليها بعد مذابح عام 1915.

الأرمن في سورية  

زحفت الهجرات الأرمنية الكبيرة إلى سورية عقب الاضطهادات العثمانية لهم في سنوات 1876 و1895 و1909 ميلادية، ثم بعد وقوع المجازر ضدهم عام 1915 ونكبة كيلكيا 1922. ووفق مصادر أرمنية فقد بلغ عددهم في سورية ولبنان في تلك الفترة 125 ألف أرمني تقريباً، كان 75 ألفا منهم يتمركزون في مدينة حلب وضواحيها. وقد قدم الأرمن السوريون الكثير من الأعمال الجليلة في شتى المجالات، وبرزت منهم أسماء بلغت أوج شهرتها في مجال الصحافة والسياسة والجيش، كالصحفي رزق الله حسون والأديب أديب اسحاق، وآرام كارامانوكيان، القائد العام للمدفعية في الجيش العربي السوري سابقاً، والدكتور ألطونيان، والدكتور جبه جيان وكلاهما كانا من الأعلام الأوائل في الطب في سورية. أما في الجانب الفني فنذكر الممثل سلّوم حدَّاد، والفنانة هاسميك كيومجيان، والمذيعة التلفيزيونية ييرادو كريكوريان، وقائد الفرقة السيمفونية السورية المايسترو ميساك باغبوداريان، والفنان الموسيقي فاهيه تيميزجيان، والموسيقي فاهه ديميرجيان. والأرمن مهما اختلفت أجناسهم وتباينت أقطارهم أمة نشيطة وعاملة، لا تعتمد إلا على نفسها، حريصون على الذهاب إلى عملهم مبكراً، نبغوا في شتى المجالات مثل التجارة والطب والصيدلة والهندسة والفن والكتابة، وكانت لهم اليد الطولى في حرفة صناعة المجوهرات وصيانة السيارات. الغريب أنك لا تجد بين الأرمن عاطلاً عن العمل إلا أصحاب الإعاقات، وليس بينهم متشرد أو متسول، وهم يبادلون العرب عامة والسوريين خاصة الحب والاحترام ويمزجون عرق جبينهم في تعمير هذه البلاد التي تستضيفهم وتطويرها، ويناضلون في سبيل حريتها واستقلالها.

لمحة عن حزب تركيا الفتاة وجمعية الاتحاد والترقي اللذين نفذا المذبحة

عام 1865 ظهرت الجمعية العثمانية الفتاة التي دعت إلى قومية عثمانية-إسلامية، وطالبت السلطان بأن يتقيد بالدستور. وتطورت هذه الحركة وأخذت اسماً أكثر ثورية وعصرية هو حزب تركيا الفتاة الذي تشكل عام 1889 وكان نواته المؤسسة طلاب المدارس الحربية العثمانية إلى جانب مدنيين من الأتراك والعرب والألبان الذين تبنوا فكرة الإطاحة بالسلطان عبد الحميد الثاني هدفاً لهم. اتهم هذا الحزب بتدبير انقلاب 1896 الفاشل فلوحق أعضاؤه، ومن وسط بقيتهم العسكرية الموجودة في مدينة سالونيك تكونت جمعية الاتحاد والترقي التي تمكنت من تنفيذ انقلاب ناجح عام 1908 أطاحت على إثره بالسلطان عبد الحميد الثاني من على عرشه. منذ ذلك الوقت، بدأ قادة الاتحاد والترقي باتخاذ سياسات تدعم القومية التركي التي تنادي بالأصل الطوراني الواحد للشعوب التركية. ترافق ذلك مع محاولات تتريك الجماعات العرقية المختلفة في الدولة بالقوة، ما أدى إلى رد فعل عنيف لدى هذه الجماعات، فبدأت تتجه رويداً رويداً إلى الانفصال عن الدولة العثمانية بعد أن كانت حتى وقت متأخر تعارض نزعة الانفصال عن المركز، وتكتفي بالمطالبة بالإصلاحات الدستورية التي تحفظ حقوق الجميع.

مع نشوب الحرب العالمية الأولى، تبلورت السياسة القومية التركية حيال الجماعات الأخرى في الدولة في أربع خطوات:

1- إحياء النزعة الطورانية التركية القديمة.

2- العمل على تحقيق سيادة العنصر التركي على باقي العناصر المنضوية تحت جناح الدولة العثمانية.

3- اتباع سياسة التتريك للجماعات المختلفة وخاصة العرب والأتراك وهي حالة ما زالت مستمرة حتى اليوم في تركيا.

4- أما الخطوة الأخيرة فكانت خاصة بالأرمن، وقامت على أساس التخلص منهم نهائياً. فتم القضاء على القسم الأكبر في المذابح التي بدأت عام 1915 وهُجِّرَ من بقي منهم، ومن لم يطله القتل أو التهجير تم تتريكه بالقوة، والفئة الأخيرة هي قلة قليلة.

السبب الاقتصادي للمذبحة وتأسيس سياسة الإنكار

حاول حزب تركيا الفتاة إقامة اقتصاد قومي تكون السيطرة فيه للأتراك، بعد أن اعتبروا أن التجار الأرمن واليونان هم امتداد للقوى الأجنبية التي تريد السيطرة على الدولة العثمانية، للسببين التاليين:

1- كان اليونان يحتكرون الأعمال التجارية والصناعية في منطقة الأناضول الغربية.

2- في المناطق الشرقية، كان الأرمن يحوزون على أخصب الأراضي الزراعية.

وفي عام 1913 كانت أحوال الأرمن تزدهر وأرباحهم تتزايد، بينما كانت أعمال الأتراك تتراجع وأحوالهم تتدهور. لذلك كان هذا هو السبب الاقتصادي للصراع العرقي الذي نشاً بين الأتراك من جهة والأرمن واليونانيين من جهة أخرى. وبعد أن انتهت عمليات القتل والترحيل، أصبح بمقدور الأعيان المحليين من الأتراك الاستيلاء على الأعمال التجارية والصناعية ووضع اليد على الأراضي الزراعية التي هُجّرَ منها أصحابها.

هذه البرجوازية الصاعدة التي تأسست في فترة حكم حزب تركيا الفتاة تنظمت خلف حركة التحرير التركية التي أطلقها مصطفى كمال، بعد أن رأت أن التهديد المباشر لمصالحها كان يتمثل في احتمال عودة من تبقى من اليونان والأرمن إلى أراضيهم ومتاجرهم والمطالبة بأملاكهم التي جرى وضع اليد عليها. الأمر الذي شكل العامل الحاسم في حشد برجوازية المدن الصغيرة خلف أتاتورك ووراء ما اعتبرتها القضية القومية التركية المتمثلة في إنكار المذبحة، لما قد يؤدي ذلك إلى إحداث تغييرات جوهرية في بنية المجتمع التركي الذي عمل أتاتورك على تأسيسه.

في الرابع والعشرين من نيسان هذا العام سيحيي السريان والآشوريون والأرمن الذكرى المئوية لأجدادهم الذين سقطوا شهداء على مذبح شهوة السلطة التي انتابت مجموعة عنصرية تركية رأت أن مجد الأمة التركية لا يتحقق إلا بإبادة جميع المكونات التي لا تتقاطع دينياً أو قومياً مع التعريف الذي وضعوه لهذه الأمة. ويستنكرون الصمت أو التجاهل الذي تبديه بعض حكومات دول الغرب ومعظم دول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي لمأساتهم، لأنهم رأوا أن الإهمال والتغاضي عن هذه المجازر والممارسات اللاإنسانية في سبيل ضم تركيا لصفّهم، بما يمثله موقعها الاستراتيجي الهام اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، هو أهم وأنفع لمصالحها من اتخاذ موقف أخلاقي بحق شعوب قررت بعد أن دفنت أمواتها بحسرة وضمدت جراحها بصمت، أن تخرج من ظلام الموت إلى نور الحياة، لتجاهد في سبيل بناء مجتمع إنساني أكثر عدلاً وإنسانية، يُقدّم الحق على المصلحة، وكرامة الإنسان على المنفعة، ويُذكّر الإنسانية جمعاء بأن صمت دول العالم على ما حدث في تركيا في بدايات القرن العشرين هو ما جرّ عليها أهوال النازية ومآسي البلقان والمذابح التي تجري حالياً على امتداد الشرق الأوسط.

صحيفة النور

Share This