خلايا في ذاكرتي

د.شهلا العجيلي

في (الرقّة) مدينتنا الصغيرة الغافية على كتف الفرات، وفي حيّنا حيّ العجيلي، نشأت علاقتي الخاصة مع مجموعة من الناس، الذين لم أشعر في طفولتي المبكّرة أنّهم يختلفون عن باقي أقاربي إلاّ ببعض الكلمات الغريبة التي يطلقونها، ولا أفهمها، فيما بعد عرفت أنّهم الأرمن، وأنهم شعب آخر، وعرق آخر، وأنّهم أتوا إلى الرقّة هرباً من تقتيل جماعيّ لحق بهم، وأنّ جدي الكبير كان قد احتواهم، فأسكنهم بيوتنا، ومنع أحداً من الاعتداء عليهم أو الجور على ممتلكاتهم.

بعد ذلك، وفي عامي الرابع دخلت مدرسة (الحريّة)، التي كانت وما تزال معروفة في الرقة باسم (مدرسة الأرمن)، لأنّهم أنشؤوها، واستمرّوا في إدارتها، تعلمّت الأغاني والرقصات والأكلات الأرمنيّة، لم أشعر يوماً إلاّ بأنّ هؤلاء الناس جزء من مكاني ومن يوميّاتي، ندخل بيوتهم ويدخلون بيوتنا، ثمّة شعور مشترك بالأمن والثقة، وكان هذا الشعور يتعزّز مع إخلاصهم في العمل وإتقانهم له، ومثابرتهم عليه، إنهم جزء مهم من صيرورة المكان، ومن ذاكرتي، وكيف لي أن أنسى العم ليون الذي يزورنا كل صباح، يشرب القهوة في دارتنا قبل أن يتوجّه إلى محله في الحارة، كان يحدثنا عن أجداده الذين عرفهم، وعن شجعان سلالته الذين سمع عنهم، ويحكي لنا عن بلاد لم يعرفها إلاّ عبر الحكايات!

وكيف لي أن أنسى معلمتي لوسين، أو العمّة أم ماري، وماري وسيلفا، وتاكوهي! أو أنسى بيت الزحلاوي جيراننا: مايدا ورافي وخاجيك، الذين طالما حضرنا حفلاتهم وسهراتهم، وكم كنت أشعر بالوجع النوستالجي الذي تحمله موسيقاهم، إنّه حنين عميق ونبيل لماض ما، ولمكان ما!

مايزال وفد من الكنيسة الأرمنية يزورنا في الأعياد والمناسبات، مستذكراً يداً بيضاء مُدّت في يوم له، فالأرمن شعب وفيّ ومخلص ودؤوب، يتمتّع بقدرة على التعايش والانفتاح على الآخر، مع احترام ذاته وخصوصيّته الثقافيّة، إنّه شعب استطاع أن يحافظ على وجوده وهويّته عبر قرون.

استحضرت ذاكرتي التفاصيل كلّها، منذ أيّام، حينما تلقّيت دعوة من نادي الشبيبة السوريّة الثقافيّ، وهو واحد من التجمّعات الأهليّة الأرمنيّة العريقة في حلب، وذلك لحضور اللقاء الأوّل للأدباء والإعلاميين العرب السوريين، أصدقاء الثقافة الأرمنيّة. دارت الأوراق حول تاريخ الأرمن، وحضورهم في المنطقة العربيّة، ومكابداتهم التاريخيّة، ومواطَنتهم السوريّة…

جعلني اللقاء أفكّر في أنّ الشعوب الحيّة المأزومة هي التي تعيد مراجعة وجودها في التاريخ، فالتاريخ، كما يقول غوته، بحاجة إلى من يعيد صياغته من جديد بين الفينة والأخرى، ولاشكّ في أنّ التاريخ في هذه المرحلة، يجب أن يكتب من وجهة نظر الضحايا، فقد كتب مراراً من وجهة نظر المنتصرين! وإذا ما أردنا اختبار مدى العلاقة بين العرب والأرمن في سوريّة، يمكننا بدلاً من أن ننطلق من الأمر الراهن، أن نسأل سؤالاً معاكساً: ماذا لو لم يكن الأرمن في حلب، والرقّة، أو في دمشق، وحمص، والساحل السوريّ؟! لاشكّ في أنّ اللوحة ستكون بألوان أقلّ، ولك أن تضع محلّ اللون الروح، أو الثقافة، أو المعرفة، أو الصناعة…

منذ سنوات احتفل الصينيّون بوجود منتج صينيّ في كلّ بيت في العالم، ليقيسوا مدى حضورهم، ولو فعلنا أمراً مشابهاً، فبحثنا عن الحضور الأرمنيّ في كلّ بيت عربيّ في سورية، فلن يخلو بيت من ذلك الحضور، فأرمن سورية ليسوا خلايا في الذاكرة فحسب، بل نبض مستمرّ في قلب الوطن.

7 تشرين الثاني، 2010

http://www.raqqa.gov.sy/index.php?news=493

Share This