الدعاية البريطانية ضد الدولة العثمانية 1917-1918 للدكتور محمد رفعت الإمام

عرض: عطا درغام

في دراسة جديدة للدكتور محمد رفعت الإمام ضمن سلسلة الدراسات الأرمنية يكتب دراسته المهمة (الدعاية البريطانية ضد الدولة العثمانية 1917-1918)، وتستعرض الدراسة شكلا من أشكال الدعاية البريطانية ضد الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولي لا سيما إبان عامي 1917-1918. فقد اتخذت بريطانيا قرارا بضرورة إسقاط الدولة العثمانية بسبب تعارض المصالح السياسية بينهما.

والجدير بالذكر أنه منذ أواخر القرن التاسع عشر، تبوأت الدعاية مكانتها المحورية في الأنظمة الحاكمة مستعينة في إنجاز مهامها بمستحدثات العصر من طباعة وفوتوغرافيا ووسائل مواصلات واتصالات. بيد أنها قد ارتادت سبيل التضليل والتزوير وقلب الحقائق وتشويهها لتوجيه الرأي العام فيما تمخض عنه احتقان الأجواء الدولية واندلاع الحروب واقتراف مذابح البشر.

ورغم هذا ظلت عملية الدعاية رهينة التجريب حتي نشوب الحرب العالمية الأولى (1914-1918) التي أسهمت في إنضاج نظرية الدعاية وهياكلها التنظيمية.وإبان هذه الحرب، أنشأت دول الوفاق (بريطانيا وفرنسا وروسيا) وكتلة الوسط (ألمانيا والنمسا- المجر والدولة العثمانية) أجهزة للدعاية ممنهجة لتوجيه الرأي العام والتأثير عليه إيجابا وسلبا سواء داخلها أو في دول الحلفاء والمحايدة والأعداء علي السواء؛إذ أن الدعاية قد أمست جيشا معنويا فاعلا في خط متواز مع القوة العسكرية.

وفي بريطانيا، بلغ جهاز الدعاية أوجه عند منتصف الحرب العالمية الأولى، وتفوق علي نظرائه بإجادته شن الحرب النفسية ضد الأعداء.

ومنذ بداية الحرب في أغسطس 1914، اعتمدت الإدارة البريطانية في دعايتها على الأفراد والمؤسسات الخاصة والجمعيات والاتحادات. ولكن مع اتساع دوائر الدعاية وتكثيفها، أنشأت بريطانيا “مكتب دعاية الحرب” في عام 1916 ، وصار بمثابة الإدارة الرسمية الوحيدة المنوط بها الدعاية البريطانية في الخارج، وحلت تدريجيا محل المنظمات الخاصة والأفراد.

وقد اعتمدت بريطانيا في وسائل دعايتها علي طبع الكتب ومختلف المنشورات المصَورة والكاريكاتور والصور وتوزيعها علي مراكز دعايتها المنتشرة علي امتداد المعمورة. ورغم أهمية الصحافة وتأثيراتها كسلطة رابعة، فقد تبوأ الكتاب مقعده المتقدم في وسائل الدعاية؛ إذ يبقي سجلا منشورا يستلهم منه القراء الوحي، ويستقون العقائد والمبادئ. ولذا حرصت الإدارة البريطانية في هذه المرحلة علي أن تنتهج دروب الدعاية السياسية انطلاقا من وقائع موثقة حتي تؤتي أكلها بامتياز.

والجدير بالذكر أنه حتي نهاية عام 1916، كانت الدعاية البريطانية مكثفة علي ألمانيا والنسا – المجر فقط من دول كتلة الوسط.

وفي مطلع عام 1917 ، صدر في القاهرة كتاب “المذابح في أرمينيا ” باللغة العربية. من تأليف فايز الغصين (1883-1968) الموظف العثماني العربي السوري الهارب آنذاك إلى بومباي بالهند. ولكنه نجح في تهريب مسودة الكتاب مع تاجر هندي ونشره في طبعة محدودة بالقاهرة. عندئذ، التقطته وزارة الحرب البريطانية، واعتبرته وثيقة مهمة ضد الدولة العثمانية.

وخلال ذلك، ابتغت بريطانيا من دعايتها ضد الدولة العثمانية “المسلمة” تأليب الرأي العام “المسيحي” ضدها لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية بغية الضغط عليها لخوض غمار الحرب بجوار دول الوفاق في توقيت شهد تفوقا ألمانيا كاسحا ..

ونظرا لأن هذه العملية ستكون ذات تأثير كبير علي الرأي العام عموما والإسلامي خصوصا، فقد حرصت بريطانيا علي تهيئة الرأي العام لاستقبال نهاية الإمبراطورية العثمانية بأقل ردود فعل ممكنة. ولذا، سعت إلي تشويه هذه الإمبراطورية عن طريق تكثيف الأضواء علي سلبياتها ومساوئها.

وتُركز الدراسة علي كيفية استثمار الإدارة البريطانية ” وثيقة الغصين” في الدعاية السياسية ضد الدولة العثمانية، والآليات التي مرت بها لتوظيفها في التأثير علي الرأي العام خارج بريطانيا.

وقد اعتمدت بشكل أساسي علي الوثائق البريطانية غير المنشورة المتبادلة بين وزارتي الحرب والخارجية البريطانيتين وإدارة “بيت ولنجتون” المنوط به الدعاية البريطانية في الخارج. وكذا، على النص العربي لكتاب “المذابح في أرمينيا” للغصين وترجمته الإنجليزية. كما استندت الدراسة علي طائفة من الصحف البريطانية والأمريكية والكندية التي كانت بمثابة أبواق الدعاية لصالح بريطانيا ضد أعدائها وبالذات ضد الدولة العثمانية.

ومما هو جدير بالذكر أن ثالوث الهيئات البريطانية (الحرب والخارجية وولينجتون هاوس) بذل جهودا حثيثة لترجمة كتيب الغصين عن “المذابح في أرمينية” للإنجليزية وإعادة نشره بلغته العربية علي نطاق واسع ليكون بمثابة دعاية ضد الدولة العثمانية وتأليب الرأي العام ضدها وتهيئة الرأي العام العربي لفكرة إسقاطها..

وثمة سؤال مهم تطرحه الدراسة مؤداه: لماذا اهتمت الإدارة البريطانية بكل ثقلها وأجهزتها السيادية بكتيب صدر باللغة العربية في طبعة محدودة بالقاهرة ؟ .

أجمعت آراء الخبراء والمسئولين البريطانيين علي أن كتيب الغصين، ضم بين دفتيه أدلة مباشرة علي أن المذابح في أرمينيا قد أقتَرفت بناءً علي أوامر من السلطات العثمانية، وهو ما يعني ببساطة أن الإدارة البريطانية ومن سار علي دربها، لم تكن لديهم حتي صدور الطبعة الاولي في شتاء 1917 أدلة علي أن ما جري للأرمن في الفضاء العثماني كان مبنيا علي قرارات رسمية.

وتغوص الدراسة في استعراض وقائع وفظائع وانتهاكات متنوعة ومتباينة اقترفها الأتراك والأكراد بحق الأرمن أوردها الغصين في كتيبه.

ومما يؤكد اهتمام الإدارة البريطانية بكتيب الغصين، أن الوثائق البريطانية المتبادلة بين ثالوث وزارتي الحرب والخارجية وإدارة ولنجتون هاوس أثبتت بارتفاع درجات المصداقية في نص الغصين؛ إذ إنه احتوي علي أدلة مباشرة لوقائع شاهدها بعينيه في آحايين كثيرة. ورغم هذا، قللت الإدارة البريطانية من مصداقيته حينما نقل الروايات عن آخرين.

وفي هذا السياق ثمة سؤال آخر جد مهم يطرح نفسه هنا: ماهي الصورة التي رسمتها الصحافة البريطانية والأمريكية عن المسألة الأرمنية قبل ظهور عمل الغصين عن المذابح في أرمينية ..؟

افتقرت الأخبار والمقالات والتحليلات الصحفية التي تتعلق بإبادة الأرمن إلي المعلومات الدقيقة. ومن ثم خرجت مبتورة ومشوهة ومقلوبة أحيانا. واعتمدت الصحافة علي تسريبات الجواسيس وشهادات المبشرين لا سيما البروتستانت ومشاهدات وانطباعات مغادري الدولة العثمانية إلي أوربا وأمريكا.

وهناك حقيقة جد مهمة وهي أن الصحافة البريطانية والأمريكية والكندية قد استندت في تكوين صورتها عما جري للأرمن وغيرهم في الدولة العثمانية إلى مصادر مجهولة أو تخمينية، وإلى شهادات لم تذكر أسماء رواتها، وإلي شهادات الإرساليين لا سيما البروتستانت المنتشرين في الأقاليم العثمانية.

ومع هذا، فرغم أن بعضا من نصوص هذه الجرائد قد اتفقت مع محتويات عمل الغصين في بعض الجزئيات والكليات، فقد تفوق النص الغصيني عليها جميعا في كونه امتلك شهادات مباشرة وأدلة قاطعة.

اختزلت الصحافة البريطانية والأمريكية والكندية المسألة الأرمنية للقاعدة العريضة من الجماهير المسيحية على أنها نتاج لتعصب الإسلام ضد المسيحية.

وتطرح الدراسة تساؤلا: لماذ كتب الغصين عمله عن المذابح في أرمينيا في ذروة اندلاع الحرب العالمية الأولي؟

يتضح أن دافع الغصين من تدوينه لما جري للأرمن وغيرهم من مسيحيي الدولة العثمانية علي أيدي نظام “الاتحاد والترقي” الحاكم هو تبرئة الإسلام من دم المسيحيين. بيد أن الإدارة البريطانية لم تلتفت إطلاقا إلي هذا الهدف؛ إذ كثفت اهتمامها بالكتاب على زاوية أحادية فقط مؤداها أن المذابح قد اقترفت بناءً علي أوامر رسمية من الحكومة العثمانية. ليس هذا فحسب، بل إنها ركزت فقط علي الغصين بوصفه موظفا عثمانيا، ولم تهتم بهويته العربية الإسلامية.

وكذا يُلاحظ أن الإدارة البريطانية تكاد تكون قد عتَمت في دعايتها علي مؤلف العمل، وأوصت الأجهزة المنوطة بها التجييش الدعائي عدم ذكر أية معلومات عن الغصين عدا كونه بدويا من أعيان دمشق.

ويلاحظ أنه علي الرغم مقدرة الأجهزة البريطانية علي استجماع معلومات وفيرة عن الغصين، إلا أنها آثرت تخفيت الضوء عليه جدا في دعايتها ضد الدولة العثمانية.

وكشفت لنا الدراسة عن عدة حقائق تتعلق بذلك ، فممن منظور عشائري، لا تبتغي الإدارة البريطانية تكثيف الأضواء عليه مما يفقدها تعاون خصوم عشيرته. زد علي ذلك، فمن زاوية عربية، خشيت الإدارة البريطانية تجريح شهادة الغصين وصبها في قالب صراع القوميتين العربية والطورانية.

وكذا، عدم الإفراط في حيادية العرب لا سيما وأن توزيع الكتاب قد امتد في أوساط يهودية في الأمريكتين وغيرها مما يصطدم مع تصريح بالفور لليهود في 2 نوفمبر 1917.

ومن رؤية دينية، حرصت الإدارة البريطانية على استمرارية تكريس الصورة النمطية المختلفة عن صراع إسلام دموي بربري وحشي ضد مسيحية سمحة متحضرة راقية.

وبذا، سارت بريطانيا في تعاملها مع وثيقة الغصين علي الطريق المعاكس تماما لغاية الرجل من تدوين ما ارتكبه الاتحاديون زمن الحرب العالمية الأولي ضد الأرمن والسريان والكلدان والأروام وقبلهم العرب سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين.

وبذا ، نجحت الدعاية البريطانية عبر العالم في استدراج الولايات المتحدة الأمريكية إلي الخروج من شرنقة العزلة والاشتراك في أتون الحرب بجانب دول الوفاق. وكذا، نجحت في تخمير التربة لاستقبال وتقبل إسقاط الخلافة الإسلامية وتفكيكها.

وأثبتت الدراسة أن حصاد هذه الدعاية قد صبت في مصلحة بريطانيا وحلفائها وكرست صورة الدولة العثمانية البربرية والوحشية التي تسير ضد حركة التاريخ.

Share This