الهولوكوست الأرمني: اعتذار تركيا واجب… د. خالد الحروب

قرن كامل يمر هذا الشهر على وقوع مذابح الأرمن التي يُؤرخ لها بيوم 25 نيسان 1915.

تستدعي هذه المناسبة تأملا مطولا في جوانب المأساة الأرمنية، وهو ما ستحاول هذه السطور وكاتبها القيام به في أربع وقفات في مقالات هذا الشهر (تغطي “اعتذار تركيا الواجب” و”مواقف العرب” و”أرمن العالم” و”أرمن القدس”).

في ذلك العام وما سبقه من سنوات كانت الامبراطورية العثمانية تنهار بتسارع: داخليا وخارجيا. في الداخل كانت سياسات السلطان عبد الحميد الثاني الاستبدادية والانغلاقية والمديدة قد أدخلت الدولة مترامية الأطراف في طور التجمد والتكلس.

كان بإمكان الامبراطورية الآيلة إلى الأفول تفادي طور التجمد أو على الاقل تخفيف وطأته وشدة الارتطام اللاحقة له عبر تبني اصلاحات دستور 1876 الذي اعده مدحت باشا، والتي كان من المفترض ان تقيد اليد المطلقة للسلاطين وتؤسس لحياة برلمانية. لكن السلطان عبد الحميد كان له رأي آخر!

في الخارج، كان اعداء السلطنة، في الشرق روسيا القيصرية وفي الغرب دول اوروبا التي سيضمها لاحقا محور الحلفاء، يراقبون عن كثب تهالك الحصان العثماني وشيخوخته المُتعبة، منتظرين فرصة الانقضاض على اطرافه.

على الحدود الشرقية تحديداً استعرت حروب ومعارك شنتها روسيا كي تستعيد اراضي كانت ترى أن الدولة العثمانية احتلتها منذ القرن السادس عشر، ومنها أرمينية المسيحية، ومع روسيا ثار الارمن مطالبين بالتحرر والاستقلال.

كان ذلك في نفس الوقت والزمن الذي ثار فيه العرب في الحجاز وبلاد الشام على الدولة العثمانية مطالبين ايضا بالتحرر والاستقلال. الأرمن، وكالعرب تماماً، طالبوا بالانفصال عن امبراطورية لم يبق فيها عنصر قوة سوى سياسة التتريك القائمة على اقصاء كل ما هو غير تركي (سواء أكان مسلما أم غير مسلم)، توازيا مع اشتداد قوة حزب الاتحاد والترقي وتهميش «الباب العالي» تماماً.

في سعار المعارك الحدودية والاستقلالية (أو الانشقاقية من وجهة نظر سياسيي الاتحاد والترقي وبقايا سياسيي العثمانية) ثار الارمن على الحكم التركي الطويل لبلادهم واراضيهم، ومع ازدهار فكرة القومية في اوروبا تبلورت مطالبهم القومية بالتحرر والاستقلال، وتحالفوا مع روسيا.
كان الرد العثماني التركي صارما وقاسيا ولا هوادة فيه، وقام على اعتبار الارمن، وهم نظرياً واسميا من رعايا الدولة العلية، خونة وعملاء للغازي الاجنبي، روسيا، وكان التعامل الوحيد المطروح مع «الخونة والعملاء» بحسب الاتراك هو القتل والإبادة، وهو ما شرع الحكم التركي في تطبيقه بشكل وحشي ومذهل.

فعلى مدار سنة 1915 حيث بلغت مذابح وسياسات إبادة الأرمن ذروتها وما سبق وما تلا تلك السنة، تعرض الارمن لواحد من ابشع فصول التوحش والقتل البشري الجماعي في التاريخ.
تقول الشواهد التاريخية المثبتة ان عشرات الالوف من المدنيين كانوا يُساقون من قراهم ومدنهم كالخراف ويقتلون أما ذبحا أو رميا بالرصاص.

وكان عشرات الوف آخرون يجبرون على الهجرة الفورية تاركين وراءهم كل شيء، ويجبرون على التوجه الى الصحراء والاراضي المفتوحة التي لا تنتهي وليس لهم امل في الخروج منها احياء. المحظوظون منهم وهم قلة استطاعوا اختراق المساحات الهائلة والوصول الى شمال العراق او سورية وارتموا منهكين وجائعين بين ايدي العرب، سواء في البوادي او المدن.
ومنهم من واصل رحلته جنوبا وغربا وصولا الى لبنان وفلسطين، وفي المدينة المقدسة احتضنوا الصليب برعاية مستضيفيهم المسلمين وكثير منهم اقتحم الحي الأرمني في قلب القدس القديمة وصار جزءاً منه.

طلعت باشا (١٨٧٤ – ١٩٢١) هو الاتحادي (والعثماني في آن معاً) الذي يُعتبر تاريخيا المهندس الأهم للإبادة الأرمنية.

الباشا كان من قيادات حزب الاتحاد والترقي كما وصل إلى منصب الصدر العثماني الأعظم سنة ١٩١٧، وكان وزيرا للداخلية في سنة ١٩١٥ وما بعدها.

ترك طلعت باشا تقارير مفصلة وموسعة تضمنت آليات تهجير وإبادة الارمن ليس فقط في منطقة الحدود الشرقية لتركيا، بل وفي كل ارجاء الدولة. كان الهدف هو إنهاء الوجود الارمني الجمعي وهو امر يتحقق بالإبادة الجسدية، او التهجير القسري، او الإدماج الفعلي والقسري في المجتمع التركي، او الحاق ابنائهم واطفالهم الى عائلات تركية او ملاجئ ايتام تشرف عليها الدولة.تشير تقارير طلعت باشا إلى انه تم التخلص من مليون الى مليون ونصف المليون أرمني عبر اتباع تلك السياسات خلال سنوات ١٩١٥ الى ١٩١٧.

طلعت باشا، على ذلك، هو التجسيد الرمزي المُكثف لتلك اللحظة التاريخية الفارقة التي كانت تنهار فيها الامبراطورية العثمانية وعلى انقاضها تقوم تركيا الحديثة. واهمية تلك اللحظة بالنسبة للهولوكوست الارمني تأتي بسبب السجالات الحادة التي تدور حوله إن لجهة المسؤولية المباشرة عنه، وفي ما إن كان إقرار سياسات الإبادة يعود إلى الامبراطورية المنقضية ام الى تركيا المتشكلة.

تركيا الحديثة والمتشكلة انكرت دوما حدوث الإبادة الارمنية ووقوعها نتيجة لسياسة تركية مرسومة سلفاً.

ما يتبناه الموقف التركي الرسمي والى حد كبير الاكاديمي والاعلامي هو ان «مقتلة» الارمن كانت نتيجة غير مقصودة من نتائج الحرب العالمية الاولى، وتحديدا مع روسيا القيصرية في الشرق.
بيد أن كل الادلة والشواهد من ذلك التاريخ وحتى الآن، او على الاقل في معظمها، اكدت وجود سياسة قصدية كانت تهدف الى القضاء على الارمن العثمانيين باعتبارهم «طابورا خامساً» داخل الامبراطورية. الموقف التركي التقليدي قام على التوتر من مراجعة الماضي والخشية من فتح ملف مرير قد يفتح ملفات لا حصر لها، اولها التعويض المادي الذي قد يلحق بأي اعتراف واعتذار سياسي ورسمي.

لكن تركيا اليوم وصلت مرحلة النضج والثقة بالنفس ومستوى من المكانة السياسية تؤهلها لمواجهة اية حقب مظلمة من ماضيها، والإبادة الارمنية تأتي في مقدمتها.
الاعتذار عن المذابح الارمنية هو استحقاق طال انتظاره من تركيا، ولا بد أن يأتي في يوم من الأيام مهما تأخر التوقيت، لذلك فإن الحكمة تقضي بأن يتم استثمار الذكرى المئوية لحدوث الهولوكوست الارمني وتقديم الاعتذار الرسمي التركي للارمن واحفادهم.
لن يقلل ذلك من شأن تركيا بل سيعمق احترام الآخرين لها. الاعتذار يرقي مكانة المُعتذر ويؤشر على ثقته بنفسه، والإنكار يخفض مكانة المُنكر ويؤشر على اهتزاز ثقته بذاته … وتوتره وهشاشته!

“سما نيوز” – وكالة أنباء فلسطينية مستقلة

Share This