اعتذار يليق بتركيا

الاعتذار هو علامة الثقة بالذات فرداً كان المُعتذر أم جماعة أم دولة. والتخوف من الاعتذار علامة هشاشة تلك الذات وانعدام ثقتها. آن لتركيا أن تعتذر للأرمن عن مذابحها بحقهم في ربع القرن الأخير من عمر الدولة العثمانية، والعشرية الأولى من حكم جمعية الاتحاد والترقي. ضحايا تلك المذابح تتراوح التقديرات في إحصائهم لكنها تحوم في أقلها حول المليون. وهذا الشهر من هذه السنة يشهد مرور مائة عام على تلك المذبحة.

ليس ثمة توقيت أفضل من هذه اللحظة كي تقدم أنقرة اعتذارها للأرمن، وتطهر ذاتها الجماعية، وتطوي هذه الصفحة، ثم ترفع رأسها بما يليق بموقعها وثقلها. قبل قرن من الزمن وفي قلب اضطرابات ومعارك وهزائم الحرب العالمية الأولى كانت النخب الحاكمة في إسطنبول، سواء أكانت من عثمانية آيلة إلى الزوال، او اتحادية وأتاتوركية راكضة إلى النهوض، تعتبر الأرمن الخاصرة الرخوة للمجال التركي الحيوي. صُنفوا كـ “أحصنة طروادية” في الداخل وعلى الحدود، منشقين متعاونين مع العدو الأهم للدولة على حدودها الشرقية: روسيا. خيارات الأرمن السياسية والعسكرية في تلك السنوات كانت شبيهة بخيارات العرب وهي الاستقلال عن الدولة العثمانية التي عصف بها التتريك الشوفيني والتهالك السياسي. والذي يلوم الأرمن على خيارهم وبالتالي التسبب في المذابح، يلوم العرب ونزعتهم الاستقلالية والتحررية أيضا. لكن حتى لو كان قادتهم مخطئين فلا مسوغ لإبادة مدنييهم.

أرمن الشرق مثل أكراده يتصدرون آلام أقليات في المنطقة تحالفت على دوسها السياسات الدولية وتقسيمات الاستعمار وجهل السياسات المحلية وتوترها. التهمة الجاهزة والدائمة للأقليات هي الولاء للخارج. وهذه يفيض استخدامها في كل وقت لكن تقل في مقابلها مساءلة الذات عن انتهاك حقوق هذه الأقليات وتعاظم الإقصاء والعنصريات تجاهها بما يدفعها للبحث عن سند خارجي. ليس هذا تبريرا للاستقواء بالخارج أو الاحتماء به، بل دعوة للرصانة في موضعة أي فعل والرد عليه. دعوة تركيا إلى تقديم الاعتذار للأرمن هذا الشهر تأتي في سياق مساءلة الذات ومواجهة الماضي القريب بكل بشاعاته، للتخفف منه ومن أشباح خطاياه. تأتي في سياق التخلص من إرث “طلعت باشا” ومذكراته التي فصل فيها مفاخرا متابعة الدولة العلية لتجمعات الأرمن في طول وعرض الأرض العثمانية، وإبادتهم أو تهجيرهم.

الاعتذار للأرمن اليوم يحرر تركيا من استخدام ورقة “الهولوكوست الأرمني” من قبل الغرب من آن إلى آخر للي ذراعها والضغط عليها. كلما غضبت أطراف غربية على تركيا تعالت الأصوات في الكونغرس الأميركي كما في البرلمانات الأوروبية لمحاسبتها على تلك الحقبة من تاريخها. تقديم الاعتذار التاريخي والالتزام بما يترتب عليه وبمبادرة تركية ذاتية وليس خضوعا لضغط خارجي، يطهّر تركيا ويعزز ثقتها بذاتها، كما يبطل في الآن ذاته ورقة الضغط تلك. لكن قبل هذا وذاك يستجيب للمتطلب الأخلاقي والإنساني، وهذا هو الأهم، وينتصر لمئات الألوف من الناس العاديين الذي ذبحوا من دون ذنب اقترفوه، سوى أن أقدار الجغرافيا رمت بهم على الحدود التركية، أو أن أقدار العقائد قادتهم للانتماء إلى دين مختلف.
لكن ودوما يجب أن تظل بوصلة الحكم هنا أو هناك هي الدفاع عن آلام الآخرين والتضامن معهم، خصوصاً من ناس منطقتنا وقد تعرضت على مدى قرون عديدة لسلسلة استعمارات وانتهاكات وشبه إبادات، وتعرف عن قرب شديد معنى الألم وطعم مرارات الظلم.

خالد الحروب 

العربي

Share This