قرن على الهولوكوست الأرمني: مواقف العرب

لأسباب مبدئية وبراغماتية وقف معظم المواقف العربية في الربع الأول من القرن العشرين سواء لمفكرين أو سياسيين إلى جانب الأرمن، وتعاطفت مع مأساتهم في الإبادة التي تعرضوا لها على يد الدولة العثمانية في الثلاثين سنة اللواتي انقسمت في ختام القرن التاسع عشر، وافتتاح القرن العشرين. الأسباب المبدئية كانت نتيجة هول أخبار المذبحة وما تناقله الفارون الأرمن والذين حالفهم الحظ بالبقاء على قيد الحياة رغم طول مسيرة النفي التي تعرضوا لها، طردا وتجويعا من بلادهم في شرق تركيا، وصولا إلى بلاد الشام والعراق.
والأسباب البراغماتية ارتبطت بتصاعد النقمة العربية على سياسة التتريك وعجرفة سياسيي «تركيا الفتاة» و»حزب الاتحاد والترقي» وسيطرتهم الفعلية على الحكم والسياسة في اسطنبول، رغم بقاء الإطار الشكلي للخلافة العثمانية، وسلاطين العجز والرمق الأخير للعثمانية.

كان الحس العروبي والقومي في تزايد مستمر، والرفض لسياسات الاستبداد والجبر التركي متواصل، وكانت مجازر جمال باشا السفاح في بلاد الشام لا تزال تغذي تلك النقمة والوعي الاستقلالي العربي المرافق لها.

على هذه الخلفية يمكننا فهم التضامن العربي مع قضية الأرمن، وهو تضامن تجاوز نطاقه العروبيين والقوميين ليشمل بعض مفكري النهضة الإسلاميين، مثل محمد رشيد رضا، صاحب ومؤسس مجلة النهار الشهيرة. على ذلك يمكن القول إن مجموعتي الأسباب، المبدئية والبراغماتية، اختلطتا معاً، وصار كثيرون من استقلاليي العرب يرون في البطش التركي بالأرمن الصورة ذاتها للبطش التركي بالعرب، ويرون في مطالب الأرمن بالإصلاح والحكم الذاتي وتحقيق العدالة ذات المطالب التي يناضلون من اجلها.
في عقود لاحقة من القرن العشرين وحتى الآن تماوجت المواقف العربية ودخلت عليها الأدلجة الإسلاموية التي أرادت ان تُبرأ امبرطورية «الخلافة الاسلامية» من إبادة اكثر من مليون ارمني، وغاب عن المؤدلجين ان المذبحة وقعت عمليا على ايدي «تركيا الحديثة» وفي خضم الحرب العالمية الأولى، وحينها كانت «الخلافة» وخلفاؤها قد صاروا في خبر كان، لا حول لهم ولا قوة.

في السطور التالية اقتباسات مُعلمة لبعض مواقف وتصريحات مفكرين وسياسيين عرب في الربع الاول من القرن العشرين، وهي واردة وبتوسع إضافي في كتاب جديد صدر حديثا للباحثة الأرمنية نورا أريسيان بعنوان «100 عام على الإبادة الأرمنية: 100 شهادة عربية».
الشهادة الأولى للحسين بن علي، شريف مكة، وهي في بيان له صادر عن الديوان الهاشمي سنة 1917 وجهه إلى بعض شيوخ وأمراء قبائل بلاد الشام يوصيهم فيه خيرا بالأرمن القادمين إلى ديارهم هربا من بطش الاتراك بهم، ويقول فيه: «… أما بعد فقد صدرت الأحرف الأولى من ام القرى بتاريخ 18 رجب 1336. نحمد الله الذي لا إله إلا هو إليكم ثم نصلي على نبيه وآله وصحبه وسلم …  وإن المرغوب بتحريره المحافظة على كل من تخلف بأطرافكم وجهاتكم وبين عشائركم من الطائفة اليعقوبية الارمنية تساعدونهم على كل امورهم، وتحافظون عليهم كما تحافظون على انفسكم واموالكم وابنائكم وتسهلون كل ما يحتاجون إليه في ظعنهم وإقامتهم، فإنهم اهل ذمة المسلمين والذين قال فيهم صلوات الله عليه وسلامه من اخذ عليهم عقال بعير كنت خصمه يوم القيامة، وهذا من اهم ما ننتظره من شيمكم وهممكم …».

اما الشهادة الثانية فهي للكاتب والمؤرخ فائز الغصين (1968 – 1883)، وهو محامٍ ومؤرخ سوري، وسكرتير الأمير فيصل بن الحسين، ويعتبره كثيرون أهم من ارخ شهادات الناجين من المذبحة ممن وصلوا إلى البلاد العربية، وهو ينتقد هنا ادعاءات الحكومة العثمانية بنفي ما قامت به ضد الأرمن: «هذا هو بيان الحكومة العثمانية الرسمي بحق الارمن، اما قرارها الخفي فهو ان تؤلف طوابير لاجل معاونة افراد الدرك على قتل الارمن، وان يقتلوا عن بكرة ابيهم. وقد جمع الرجال والنساء وارسلهم مع كتائب من الجند، وهذه قتلت كثيرا من رجالهم، واما النساء فلا تسل عما جرى لهن فإن الاعراض اصبحت مُباحة للجند العثماني والاطفال ماتوا من العطش والجوع».
والشهادة الثالثة للمفكر والمؤرخ السوري الشهير محمد كرد علي (1953 – 1876)، والذي خص الأرمن بكتابات واهتمام خاص ايضا، ويقول: «… نعم لقي الارمن من الكثرة الغامرة ما عرف به العربي من كرم النفس ورعاية الغريب، فعدوا الشام وطنهم الثاني ومنهم من اغتنى في ارضنا بكده وجده فما حسدناهم ولا مننا عليهم، وشعب ذكي من مثل الشعب الارمني لا يسعه أن يُنكر الجميل، والارمني مهما كان من التباين بين حضارتنا هو شرقي ويفاخر مثلنا بشرقيته».

أما موسى برنس (1998 ـ 1925)، وهو مؤرخ ورجل قانون دولي لبناني ويعتبر اول من صك مفهوم Armenocide في الادبيات العالمية حول المذبحة، فيقول: «… مجازر الارمن هي اكثر المجازر سفكا وظلما واضطهادا واكثر تعبيرا عن الغدر السياسي، غدر الحلفاء، وابشع صورة دموية بقيت دون عقاب … الغريب في تاريخ المجازر اننا امام جريمة إبادة شعب … ومع هذا فإنها لم تنل العقاب كما نال المجرمون في محاكمات نورنبرغ».
والشهادة الاخيرة التي نختم بها هذه المقالة هي لمحمد رشيد رضا، احد رواد ومفكري النهضة، ومؤسس مجلة المنار (1935 – 1865)، ويقول فيها: «… ليس من ينكر ان الارمن شعب نشيط مقدام سائر في طريق الارتقاء الادبي والاقتصادي والاجتماعي، والإنسان محب لوطنه بطبعه، فهم يحبون ان يكون مستوى ارتقاء وطنهم من حكومتهم الشيء الذي هو من حق كل امة على حكومتها، وهو الدفاع عنها في الخارج وتقرير الامن والعدل وايجاد الوسائل التي تسهل على الشعب سبل الارتقاء في الداخل. هذا حق للأمة على حكومتها في كل زمان ومكان، وهذا ما يطلبه الارمن من الحكومة العثمانية. … يقولون على رؤوس الاشهاد انهم يريدون ان يبقوا معنا ولا يطالبون منا إلا ما يحق لكل امة ان تطلبه من حكوماتها، وهو الدفاع عنها في الخارج ومنحها العدل والأمن وتمهيد سبل الارتقاء لها. كثر الله خير الأرمن».
استقبل العرب الارمن بكرمهم وافسحوا لهم بيوتهم وصاروا بعد قرن من الزمن جزءا من النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي للمنطقة، ورآهم عبد الرحمن منيف تكوينا عضويا فيها لا يكتمل جمال التعدد المجتمعي إلا بهم، وذاك كله صفحة بيضاء من صفحات مجتمعات هذه المنطقة التي تفاخرت بتسامحها وتعايشها، قبل ان تهبط عليها ظلمات التطرف والداعشية والطائفية.

د. خالد الحروب

الأيام

Share This