بعد مائة عام، فجر جديد للقضية الأرمنية

إن قتل الأطفال والأبرياء هو جريمة بحق الإنسانية. ولا نستطيع تجاهل الواقع عن طريق إزالة الحقيقة. والوصية السادسة من الكتاب المقدس تقول: لا تقتل. (ر.ط.أ.)

– من تفوّه بهذا الكلام ليس حفيداً لأحد ضحايا الإبادة الأرمنية. وليس أحد المدافعين عن حقوق الإنسان في محكمة دولية، كما انه ليس مبشراً مسيحياً يعطي دروساً في القيم والأخلاق. بل انه الزعيم التركي الحالي رجب الطيب أردوغان الذي لم ينطق بهذا الكلام في جلسة خاصة ضيّقة، بل أعلنه من على منبر دافوس العالمي عام 2009 دفاعاً عن خمسة عشر من أطفال وأبرياء غزة المظلومين، منقولاً بوسائل الإعلام العالمية، فرآه وسمعه العالم.

فهل جاءت هذه الكلمات استكمالاً لخطة تودّد نحو العرب؟. أم تحوّلت الأحاسيس العميقة في اللاشعور عن الإبادة الأرمنية والآلام الكامنة جرّاء الشعور بالذنب إلى كلمات واضحة جليّة، فجاء هذا التصريح تصحيحاً لما سبق واستباقاً لما سوف يلحق من النفي والإنكار تصريحا،ً يشكر عليه سيادة الرئيس ؟؟؟

– في مشهد ثانٍ نرى أن شطراً كبيراً من أبناء الأجيال المتوالية من الأتراك ظلوا يسمعون على مدى مائة عام من أهاليهم همساً حميماً مصحوباً بحرقة قلب عن حقيقة المظالم التي وقعت بحق مواطني آبائهم وأجدادهم من إعدامات بإطلاق الرصاص والحرق والتجويع ومسيرات الموت، زد على ذلك من سبي للنساء ومسح لذاكرة الأطفال.

ولكن الهوة ما زالت واسعةً بين الشعب التركي وحاكمه الذي اعتقد ان تملّك الحضارة هو باستبدال الحرف العربي باللاتيني، وارتداء الزي الغربي، واستعمال التكنولوجيا الحديثة، والنجاح الصناعي والسياحي. متجاهلاً ان الحضارة الحقة هي الإرتقاء الروحي والفكري للإنسان الذي يتجلّى بإرساء مبادىء العدل وحقوق الإنسان وتبنّي ثقافة التنوع وقبول الآخر والاعتراف بالخطأ.

لقد أضحى جلياً للمواطن التركي أن أتاتورك الذي معناه أبا الأتراك لم يكن أباً لمواطنيه جميعاً، وحزب الاتحاد والترقي كان حزب البطش والتخلّف، والعلمانية التي نادوا بها، كانت تعصّباً وإجراماً فاق تصرّف السلاطين، كل ذلك نتج عنه إعلان الجمهورية التركية التي توالى على رئاستها من يرفض الحقيقة.

– وفي إضاءة ثالثة أيضاً نلحظ كتّاباً ومفكّرين أتراك نزيهين يرون من الأساس أن إطلاق اسم تركيا على هضبتي الأناضول وأرمينيا المتجاورتين يشكّل مغالطة لحقائق جغرافيّة لا تمحيها ألوف السنين. لقد كانت أكثرية الأناضول أتراكاً ومعظم شعب هضبة أرمينيا أرمن. “فالأجدر كان إطلاق اسم جمهورية الأناضول وليس الجمهورية التركية” على حدّ قولهم.

هضبة أرمينيا هذه كانت تشمل جبل آرارات ونهر أراكس وبحيرة ومدينة فان ومنابع دجلة والفرات ومئات المدن والبلدات الأرمنية وصولاً إلى البحر المتوسط.

لقد كانت هذه الحقائق الجغرافية الركائز التي قامت عليها معاهدة سيفر عام 1920. فإن كانت الحقائق التاريخية الدامغة والكافية تعتمد على الروايات والمستندات وشهادات المؤرّخين والسفراء والقناصل، فإن الحقائق الجغرافية نلمحها في المراجع في دقيقة واحدة ولا تتطلب جهداً للوصول إليها فهي خلاصة التاريخ وعنوانه. هذه الجغرافيا ستبقى صارخة أن محو أرمينيا الغربية (التركية) من الخارطة هو مستحيل.

كفاكم يا حكام تركيا تنوؤن تحت هذا الحمل الثقيل منذ مائة عام، تصالحوا مع ماضيكم واعترفوا طوعاً بالإبادة. إن هذا سوف يزعجكم مرّة واحدة ولكنه سوف يريحكم ويريح أجيالكم القادمة. فارموا هذا الحمل عن كاهلكم واعترفوا.

هذا الإعتراف الطوعي والشجاع سوف يستجلب لكم تهاني العالم أجمع وإكباره وسوف يكون لصالح تركيا ومستقبلها وهو خير لها من حكم يصدر من محكمة دولية غيابية تُعقد آجلاً أم عاجلاً، حكم يدين كل من أمر ونفّذ وساهم بالقيام بالإبادة. وحسب القانون الدولي يطال ويدين أيضاً كل من تستّر وأنكر ذلك من حكام تركيا منذ تاريخ الإبادة حتى آخر يوم.

استبشر أيها العالم، فالقضية الأرمنيّة أوشكت أن تُنصف، ومخطىء من يعتقد أن مرور مائة عام على الإبادة الأرمنية قد أضعف القضية بل ان العكس هو الصحيح. فأرمن الدياسبورا ومنهم أرمن لبنان- الذي عانى بدوره من الظلم التركي حيث راح ضحيته بالمجاعة المفتعلة ثلث سكانه- قد تضاعف عددهم عشرات المرات وقد نالوا في أوطانهم الجديدة، وفي مقدّمها لبنان، الأمان والثقافة وأسّسوا علاقات سليمة وقويّة وصداقات صادقة مع سائر شعوب الأرض المُحبّة للسلام والاستقرار، وقد شرحوا قضيّتهم للعالم أجمع كما هي بدون حقد ولا رغبة انتقام، فتفهّمها العالم وأخذها نموذجاً لتعريف الإبادة وأصبح يدرّسها في صفوف التعليم وبات من ينفي الإبادة الأرمنية في بعض الدول مجرماً بنظر القانون.

لقد اعترفت بجريمة الإبادة دولٌ عديدة في أوروبا والقارة الأميركية وغيرها إلى جانب مجالس تمثيليّة وإدارات محليّة كان آخر هذه الإعترافات عندما أعلن قداسة البابا فرنسيس إدانته للإبادة من الفاتيكان، أعلى منبر في العالم، أمام الأرمن المتقاطرين من جهات العالم الأربع يتقدّمهم بطاركتهم الأجلاّء ورئيس جمهورية أرمينياهادماً سوراً مانعاً ففاجأ الأتراك معطياً زعماء العالم مثلاً في الجرأة والوضوح كي تقال “النعم، نعم” بلا مواربة ولا تأجيل.

وما إعلان عام 2001 الأرمني الشهيد المطران مالويان طوباوياً في الكنيسة من قبل البابا يوحنا بولس الثاني هادم الشيوعية إلا إثباتاً أن المليون ونصف المليون أرمني إلى جانب مئات الآلاف من السريان والكلدأشوريين واليونان كانوا ضحايا أبرياء لإبادة جماعية هزّت العالم.

أيها الأرمن في كل مكان، إن المئوية التي نحييها هي فجر مضيء يطلّ على قضيّتنا التي هي اليوم في عزّ يقظتها وحيويّتها في كل بلدان العالم وخاصة في لبنان.

عاش مناصرو الحق في العالم..

عاشت القضية الأرمنية..

عبود يعقوب بوغوص

ممثل الأرمن الكاثوليك في اتحاد الرابطات المسيحية

Share This