مجازر الأرمن.. بين حوامل التاريخ وأبعاد السياسة

الرابع والعشرين من نيسان من كل عام، يمثل محطة توتر جديدة بين الأرمن والأتراك على خلفية المجازر التي ارتكبت بحق الأرمن في عهد الدولة العثمانية.

في هذا العام، أي في الذكرى المئوية للمجازر دخلت القضية منعطفا جديدا خاصة بعد أن قامت أرمينيا بحملة دبلوماسية وسياسية كبيرة شملت تنظيم سلسلة فعاليات كبيرة، لكن ما يؤرق تركيا ليس هذه الفعاليات، بل المواقف الدولية وتحديدا الغربية منها التي تتجه إلى توصيف ما جرى بـ”الإبادة” وما يترتب على ذلك من مسؤولية أخلاقية وقانونية وسياسية.

مجازر أم إبادة؟

“يرى الأرمن أن ما جرى ضدهم كانت إبادة منظمة، بعد أن اتهمتهم الدولة العثمانية بالخيانة والعمل لصالح الإمبراطورية الروسية، في حين ترى تركيا أن ما جرى لم يكن إبادة بل أعمال قتل وقعت بسبب ظروف الحرب وانقلاب الأرمن على الدولة”

يرى الأرمن أن ما جرى ضدهم كانت إبادة منظمة، بعد أن اتهمتهم الدولة العثمانية بالخيانة والعمل لصالح الإمبراطورية الروسية التي كانت في حرب مع الدولة العثمانية لسنوات طويلة، في حين ترى تركيا أن ما جرى لم يكن إبادة بل أعمال قتل وقعت بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى وانقلاب الأرمن على الدولة، وأن الضحايا لم يكونوا من الأرمن فقط بل من الأتراك والأكراد أيضا.

يقول الأرمن إن عدد ضحاياهم بلغ مليون ونصف مليون أرمني وأن هؤلاء قتلوا من خلال أعمال حربية منظمة، عبر حملات اعتقال وتجميع وتصفية جسدية، فضلا عن هلاك كثيرين في المنافي بسبب الجوع والمرض. لكن تركيا تقول إن عدد الضحايا كان قرابة ثلاثمائة ألف فقط ومثلهم من الأتراك، وإن حملات الترحيل التي جرت إلى الصحراء السورية وتحديدا محافظة دير الزور لم تكن بهدف القتل بل كانت لحماية الأرمن بعد أن شاع جو من العداء لهم في الدولة العثمانية بسبب خيانتهم وعمالتهم للروس، في حين تقدر تقارير المراكز والهيئات الدولية المعنية عدد الضحايا بنحو مليون أرمني.

طوال العقود الماضية سعى الأرمن في الداخل والخارج إلى الإبقاء على قضية المجازر حية من خلال تنظيم فعاليات سنوية والتحرك في المحافل الدولية ولاسيما البرلمانات لإقرار الإبادة، واستند الأرمن في تحركهم هذا إلى قانون منع الإبادة الجماعية الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1951 ووضعته تحت بند القانون الدولي، وكثيرا ما يقارن الأرمن بين ما جرى لهم والمجازر التي ارتكبت في رواندا وكمبوديا وليبيريا ويوغسلافيا.

واللافت هنا أن الأرمن لا يطالبون فقط بالإقرار بفعل جريمة الإبادة، بل بحقوق تاريخية داخل تركيا على اعتبار أنهم يرون أن لهم أراضي داخل الأراضي التركية تسمى بأرمينيا الغربية حيث جبل آرارات الذي يعد رمزا للأرمن.

 في المقابل ترى تركيا أن هناك تضخيما مقصودا من قبل الأرمن لكل ما جرى، وأن الأهداف السياسية تقف وراء الحملة المتواصلة، وقد أبدت استعدادها في أكثر من مناسبة ولاسيما في عهد رجب طيب أردوغان لتشكيل لجنة من المؤرخين لدراسة القضية في ظروفها التاريخية وإقرار النتيجة في ضوء ما سيتم التوصل إليه من حقائق.

وقد كان أردوغان قد طلب هذا الأمر رسميا من الرئيس الأرمني السابق روبرت كوتشاريان عام 2005 مبديا استعداد أنقرة لفتح أرشيف الدولة العثمانية لهذه الغاية.
تناقض روايات الجانبين بشأن ما جرى، حال حتى الآن دون تطبيع العلاقات بين البلدين رغم توصلهما إلى اتفاق زيوريخ عام 2009 الذي شكل في نظر كثيرين فرصة تاريخية لطي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة خاصة أن أردوغان قدم ما يشبه الاعتذار عن أعمال القتل التي وقعت.

“اللافت هنا أن الأرمن لا يطالبون فقط بالإقرار بفعل جريمة الإبادة، بل بحقوق تاريخية داخل تركيا فهم يرون أن لهم أراضي داخل الأراضي التركية تسمى بأرمينيا الغربية حيث جبل آرارات الذي يعد رمزا للأرمن”

ولعل تعثر جهود المصالحة يكشف عن أبعاد سياسية تتجاوز قضية الاعتراف بالمجازر التي ارتكبت إلى القضايا السياسية الخلافية، ولاسيما قضية الصراع بين أرمينيا وأذربيجان الحليفة التاريخية لتركيا، فضلا عن رفض تركيا لأي مطلب أرمني بشأن ما تعتبره أرمينيا حقوقا تاريخية في أرمينيا الغربية داخل أراضي الجمهورية التركية.

قنبلة البابا والموقف الغربي

ربما لم تكن أنقرة تتوقع وصف البابا فرانسيس أحداث عام 1915 بأنها إبادة عندما قال إن ما جرى كان أولى مجازر الإبادة الجماعية في القرن، وعليه كان تصريحه أشبه بقنبلة صوتية قوبلت برد تركي قوي، إذ استدعت أنقرة السفير البابوي لديها، وأطلقت موجة انتقادات شديدة للبابا، محذرة إياه من تكرار هذه التصريحات، ومتحدثة عن تناقض تصريحه مع مضمون خطابه بشأن التسامح خلال زيارته تركيا.

والواقع أن خطاب تركيا كان موجها بالدرجة الأولى لما يمكن أن يكون عليه موقف الدول الغربية في الذكرى السنوية للمجازر، وتحديدا لما سيقوله الرئيس الأميركي باراك أوباما في الرابع والعشرين من هذا الشهر (سبق أن وعد أوباما عندما كان عضوا في مجلس الشيوخ عام 2008 بالاعتراف بالإبادة الأرمنية) وكذلك إلى القرار الذي سيصدر عن البرلمان الأوروبي الذي سيصوت على قضية إقرار الإبادة.

فقد بدأت تركيا تحس بوطأة مسلسل اعتراف العديد من الدول بالإبادة حيث بلغت عدد الدول التي اعترفت بهذا الوصف 21 دولة، وهي تحس في العمق بأن مسلسل الاعتراف هذا يشكل نجاحا للوبيات الأرمنية في الخارج ولاسيما في الولايات المتحدة، وفي الجوهر ترى أن مسلسل الاعتراف يأتي على حساب رؤيتها لطبيعة الأحداث التي وقعت، بغية دفعها إلى الاعتراف بارتكاب جريمة إبادة لم ترتكبها، خاصة أن تركيا أقرت القانون 301 الذي يجرم الاعتراف بالمجازر التي ارتكبت في الدولة العثمانية.

وفي الأساس، ثمة اجتهاد في الأوساط التركية، يرى أنه لا يمكن تحميل تركيا ولا الدولة العثمانية مسؤولية ما جرى، فتركيا الحالية ليست الدولة العثمانية، وعندما ارتكبت المجازر كانت الدولة العثمانية منهارة، وكان الاتحاديون الأتراك هم الذين يحكمون البلاد وفي ظروف حرب.

ودون شك، فإن تصاعد موجة الاعتراف الدولي بمجازر الأرمن عزز من شكوك تركيا إزاء إستراتيجية الغرب نحوها، وفي العمق فإن تركيا ترى أن الغرب لم يطو بعد صفحة الصراع مع الدولة العثمانية تاريخا وجغرافيا ومجتمعا، وأن ثمة مخططات تعد في السر، وقد تظهر في الوقت المناسب لتستهدف كل ما سبق.

احتفالات في الذكرى المئوية

“إذا كان الأمر بالنسبة للأرمن قضية وطنية وسياسية ومقدسة، فإنه بالنسبة لتركيا ليس متعلقا بتاريخها فحسب بل بمستقبلها أيضا، فهي ترى أن تداعيات الإقرار والإدانة لن تقف عند حدود الاعتراف بمجازر الأرمن بل بما جرى أيضا للآشوريين والسريان والكلدان واليونانيين”. بالتزامن مع إحياء أرمينيا الذكرى المئوية للمجازر في 24 ابريل/نيسان، ستحتفل تركيا في نفس اليوم بالذكرى المئوية لمعركة غاليبولي (معركة شنق قلعة) التي ألحقت فيها القوات العثمانية هزيمة كبيرة بالقوات البريطانية والفرنسية والأسترالية والنيوزيلندية (تقول الوثائق إن 55 ألف جندي من هذه الدول قتلوا في هذه المعركة) وهذه هي المرة الأولى التي تنظم تركيا فيها الاحتفال بهذا اليوم بعد أن كانت تنظمه في الثامن عشر من مارس/آذار.
واللافت في احتفال هذا العام، هو توجيه الرئيس أردوغان دعوات المشاركة إلى قادة 102 دولة بما في ذلك الرئيس الأرمني سرج سركيسيان والرئيس الأميركي باراك أوباما. الرئيس الأرمني لم يكتف بإعلان رفض الحضور، بل وجه رسالة إلى أردوغان كانت أشبه باشتباك سياسي ودبلوماسي قال فيها “فخامة الرئيس قبل أشهر دعوتك لزيارة يريفان في 24 أبريل/نيسان، لنحضر معا إحياء ذكرى الضحايا الأبرياء الذين سقطوا في عمليات الإبادة الجماعية التي ارتكبت بحق الأرمن.. وليس من عاداتنا زيارة ضيف لم نتلق منه ردا على دعوة وجهناها له”.

وتساءل سركيسيان في رسالته عن الغرض من إقامة احتفالات معركة غاليبولي في نفس يوم إحياء ذكرى مجازر الأرمن، مؤكدا أن الهدف هو صرف انتباه العالم عن ذكرى مجازر الأرمن، مطالبا بالاعتراف بهذه المجازر وإدانتها. ودون شك، فإن مضمون الرسائل المتبادلة بين أردوغان وسركيسيان يشير إلى دخول هذه القضية مرحلة جديدة من التوتر، تتقلص معها إمكانية المصالحة ما لم تحصل تطورات سياسية كبيرة أو تغير في موقف أي من الطرفين.
وفي ظل تباعد مواقف الجانبين ثمة من يسأل، لماذا لا تعترف تركيا بالمجازر التي وقعت وتطوي صفحة الماضي وتفتح صفحة جديدة مع أرمينيا؟

إذا كان الأمر بالنسبة للأرمن قضية وطنية وسياسية ومقدسة، فإن القضية بالنسبة لتركيا مختلفة، إنها قضية لها علاقة ليس بتاريخها فحسب بل بمستقبلها أيضا، نظرا لأنها ترى أن تداعيات الإقرار والإدانة لن تقف عند حدود الاعتراف بمجازر الأرمن بل بما جرى أيضا للآشوريين والسريان والكلدان واليونانيين.. بل وربما فتح الباب أمام مطالبات تاريخية بأراض وأماكن ورموز دينية بما يمس وحدتها وسيادتها، وهو ما لن تقبل به مهما كلفها الأمر، خاصة أنها ترى أن قوة موقعها الجيوسياسي في الإستراتيجيات والمصالح الدولية كفيلة بإبقاء القضية على هذا النحو ولو لقرن آخر.


خورشيد دلي

صحفي سوري

المصدر: الجزيرة

 

Share This