إنكار الإبادة يعني استمرارها

د. ريشار قيومجيان  

 لم تعد الإبادة التي تعرّض لها الارمن بين العامين ١٩١٥ و ١٩١٨ موضع نقاش أو جدل أو بحاجة لمزيد من الإثباتات العلمية التاريخية الموثّقة من حيث الوقائع والاحداث المؤكدة التي حصلت آنذاك. لسنا في معرض سرد اخبار القتل والتهجير والسبي أو بحث المنطلقات القومية والدينية والسياسية التي وقفت وراء قرار حكومة تركيا الفتاة بانهاء الوجود الأرمني داخل حدود السلطنة العثمانية أي ما يُعرف اليوم بتركيا الشرقية وتاريخياً بأرمينيا الغربية وكيليكيا. بل إن ما نرمي اليه هو إثبات أن مصطلح ”إبادة“ ينطبق فعلياً على ما تعرّض لَه الأرمن آنذاك.

إن الوثائق العثمانية وفيما بعد سجلات المحاكم العسكرية التركية نفسها، اضافة الى مذكرات ومراسلات وتقارير وشهادات السفراء والقناصل وكهنة وراهبات الإرساليات الأوروبية والاميركية، تؤكد جميعها قتل حوالي المليون والنصف مليون إنسان أرمني وحوالي ثلاثماية ألف من السريان والكلدان-الأشوريين. اما المرجع الأهم من كل ذلك فهو ذاكرة الأرمن الجماعية التي حفظت اخبار المجازر والقتل والاغتصاب والمعاناة وتناقلتها شفهياً من جيل الى جيل. كما تؤكد الإحصاءات العلمية بالارقام أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الاولى وبحلول العام ١٩٢٠، وبنتيجة ”الجريمة الكبرى“ أو ال Medz Yeghern كما أسماها الأرمن آنذاك، لم يبقى داخل أراضي السلطنة سوى عشر السكان الأرمن من أصل حوالي مليونين وستمائة ألف نسمة. اما الباقون فتوزعوا في ارمينيا الحالية، أوروبا وبخاصة فرنسا، سوريا، مصر، العراق ولبنان؛ وعبر السنين هاجرت إعداد كبيرة منهم الى الأميركيتين.

استُعمِل مصطلح ”إبادة“ genocide للمرة الاولى من قِبل المحامي اليهودي البولندي رافايل لمكين Raphael Lemkin في العام ١٩٤٤، فيقول في وصفه للهولوكوست: ”تعرّض الأرمن للإبادة أولاً وفيما بعد لم يتوانى هتلر عن هذا الفعل بحق اليهود“. في العام ١٩٤٨ اعتمدت الامم المتحدة ”اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها“ وحددت الإبادة ب”الأفعال المرتكبة عن قصد التدمير الكُلِّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه“. العام ١٩٦٥، في الذكرى الخمسين للجريمة الكبرى وانطلاقاً من أن الإبادة باتت جريمة بمقتضى القانون الدولي يُعاقب مرتكبوها على فعلتهم، تحوّلت قضية المطالبة بالحقوق والممتلكات والعدالة لأرواح الشهداء الى قضية سياسية وانسانية وأخلاقية بامتياز عنوانها العريض مطالبة السلطات التركية الحالية كما باقي حكومات وبرلمانات العالم بالاعتراف بحصول الإبادة. عملياً، شكّل هذا المنحى النضالي وما زال، نوعاً من ”عصبية أرمنية“ لَعِبَت دوراً اساسياً في وحدة الارمن إضافة الى عامل اللغة والدور القيادي للكنيسة الأرمنية الجامعة، حافظة الهوية القوميّة والتاريخ.

يأخذ البعض على الأرمن وجود ”هاجس الإبادة“ obsession with genocide ما يعتبره الفيلسوف الفرنسي مارك نيشانيان أنه ”يَمنع العزاء“ بمعنى الاستمرار في حالة الحزن الى ما لا نهاية. في حين، يعتبر رأي آخر ونحن مِنْه أن الأرمن يعانون من حداد أو عزاء غير مكتمل incomplete mourning في ظل إنكار الإبادة من قِبل احفاد الجناة والحكومات التركية المتعاقبة، بدل الاعتراف بالحقيقة سبيلاً الى السلام والمصالحة على طريقة الاعتراف الألماني بالفظاعات النازية.يعتبر الدكتور غريغوري ستانتون وهو رئيس الجمعية الدولية للباحثين في مواضيع الإبادة، ورئيس Genocide watch، أن للإبادة مراحل متعدّدة، سنحاول تبيان كيف أنها تنطبق جميعها على الحالة الأرمنية:

١- التصنيف classification أي تصنيف العالم: نحن مقابل هم، القوميون الوطنيون المسلمون مقابل الكفار الخونة.

٢- الترميز symbolization أي تحديد التصنيفات: آريين ويهود، هوتو وتوتسي، أرمن وأتراك. ومن ثم الترميز الجسدي: صلب بعض الضحايا الأرمن، استعمال النازيين النجمة الصفراء لترميز اليهود، وداعش النُّون (ن) على منازل المسيحيين.

٣- التمييز discrimination: انتهاك حقوق الانسان، التعاطي مع الأرمن كمواطنين درجة ثانية، الحرمان من الحقوق السياسية باستثناء نخبة قليلة.

٤-الحيونة dehumanization، إعطاء الضحية ألقاب كالفئران والحشرات أو السرطان، وبالتالي يوجب تنظيف المجتمع من هؤلاء واستئصال الوباء. أقوال وتصاريح أركان تركيا الفتاة وقبلهم السلطان عبد الحميد الثاني خير دليل وشاهد.

٥- التنظيم organization: انتظام مجموعات الكره والعداء ضمن مجموعات عسكرية أو ميليشياوية-شعبية وإعطاؤها حق الاحتفاظ بأرزاق الأرمن ”الكفار“ من بيوت وأراضي وممتلكات. الاكيد أن الحكومة شجّعت قيام مجموعات شعبية تركية وكردية بأبشع انواع القتل والسبي والتهجير.

٦- الإستقطاب polarization: استهداف المعتدلين الأتراك والنخب الواعية التي حاولت إيقاف اعمال الإبادة والعنف.

٧- التحضير preparation : إعداد المجموعات المنفِّذة ونقل وتجميع الضحايا في أماكن محددة بعد دعوتهم الى ترك منازلهم وأرزاقهم في مرحلة أولى، ثم  ترحيلهم سيراً على الأقدام عبر الصحراء حيث الجوع والعطش والمرض والموت المحتَّم .

٨- الاضطهاد persecution : مصادرة الاملاك الخاصة واستهداف الضحايا عبر التنكيل الجسدي والنفسي.

٩- الإفناء extermination أو باللغة القانونية: الإبادة  وهي التدمير الكُلِّي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية، وهذا ما حصل فعلاً.

بيد أن لكل إبادة مرحلة أخيرة، يقول الدكتور ستانتون، وهي الإنكار denial. الإنكار هو استمرار للإبادة لأنه محاولة دؤوبة لتدمير الضحية نفسياً وثقافياً ولمحو أي ذاكرة في عقول أبناء وأحفاد الضحايا. يعدد الدكتور ستانتون طرق عديدة للإنكار، سنحاول أيضاً اسقاطها على موضوع بحثنا:

أ- ضرب مصداقية ناقلي الحقيقة truth tellers : الشهود العيان كالسفراء والقناصل وكهنة وراهبات الإرساليات الأوروبية والاميركية ، اضافة الى تهديد وترهيب الصحافيين والمفكرين والأكاديميين الأتراك.

ب- اللعب بالأرقام والإحصاءات والإدعاء أن عدد القتلى لا يتعدى ال ٣٠٠ ألف.

ج- الإدّعاء بأن موت هؤلاء لم يكن متعمداً بل طبيعياً نتيجة السفر والجوع والمرض وفقدان الدواء وليس عن سابق تصور وتصميم. وهذا ما تدحضه الحقائق والتقارير الدبلوماسية والصحفية آنذاك.

د- تدمير الأدِّلة من أرشيف الإدارات المحلية في القرى والمدن وسجلات النفوس والدوائر العقارية، التي تُظهر أن عدد السكان الأرمن كان حوالي ال مليونين و٦٠٠،٠٠٠ .

ه-إنكار إساءة معاملة المُرَحّلين وبأنهم أُعطوا الأكل والدواء.

و- الإدّعاء أن ما حصل كان مجرد حرب أهلية ناتجة عن احقاد تاريخية وخلافات إثنية قديمة، وبأن اعداد القتلى الأتراك المسلمين توازي أعدادالقتلى الأرمن.

ز- تخوين الضحية وإظهار تحالف الأرمن ومساعدتهم للجيش الروسي في معاركه ضد الجيش العثماني-التركي.

ح- لوم الضحيّة والإدعاء أن الأرمن شكَّلوا عصابات مسلّحة للانقلاب على الحكومة المركزية وبأنهم هم من بادروا الى قتل المسلمين، وهذه طبعاً كذبة كبرى.

ط- الإدّعاء أن الحقائق تلغي الصفة القانونية للإبادة بدليل بقاء أعداد من الأرمن على قيد الحياة داخل الأراضي التركية، وبحُجة أن ما حصل كارثة إنسانية وليس إبادة شاملة.

ي- الإدّعاء أن مصطلح ”إبادة“ لم يكن موجوداً في حينه، وبالتالي لا يمكن اعتماده لوصف ما جرى للأرمن ، وهو جزء من مؤامرة صهيونية ليس إلا.

ك- إنكار أي تخطيط حكومي مركزي أو وجود نيّة مسبقة لإبادة الأرمن، وبأن القتل كان نتيجة اعمال الفوضى والتمرّد. وهذا ما يدحضه ”الكتاب الأسود“ أي مذكرات طلعت باشا نفسه والأوامر والمذكرات والمراسلات العسكرية.

ل- ابتزاز الدول والحكومات أن استعمالها مصطلح ” إبادة “ لوصف المجازر بحق الأرمن سيؤدي الى تدهور في العلاقات التجاريّة والديبلوماسية، وهذا ما نشهده اليوم مع الفاتيكان وبشكل دائم مع الإدارات الأميركية المتعاقبة عبر لعب ورقة إغلاق قاعدة إنجرليك العسكرية.

الى جانب الإبادة الأرمنية، ما زال العديد من جرائم القتل الجماعي في القرن الماضي دون عقاب. تجاهل الحقيقة من قِبل المجتمع الدولي وعدم محاسبة الجاني يؤديان الى تكرار الإبادة في غير بقعة من العالم والى مزيد من البؤس البشري. كلنا يتذكر القول الشهير لهتلر: ”من يتحدث اليوم عن إبادة الأرمن، من يتذكر ما فعله جنكيزخان وما حدث للأرمن“. إن شعوره بعدم محاسبة العالم لَه في حينه، شجّعه على تماديه في ارتكاب الهولوكوست. طبعاً، ما زالت ماثلة أمامنا إبادة الفور والمساليت والزغاوة (الافارقة السود) العام ٢٠٠٣ في اقليم دارفور من قِبل قوات الحكومة وميليشيا الجنجويد، وابادة أقلية التوتسي في رواندا العام ١٩٩٤.

إن اعتراف الجيل التركي الحالي بالخطأ التاريخي الذي ارتكبته حكومة تركيا الفتاة، وتصحيحه من خلال إعادة  الحقوق الى أصحابها، إنما هو أساسي لختم جراح الماضي، وبدون هذا الإبلال تتعمّق الندوب فتتحوّل الى غضب وعداء وأصوات انتقام. فالإنكار يطيل أمد مفاعيل الإبادة اضافة الى أنه على مستوى القانون الدولي هو تنكر لإتفاقية الإبادة التي انضمت اليها تركيا نفسها العام ١٩٥٠. ”ليس المهم النفي أو الاعتراف بالإبادة، بل معرفة الحقيقة“ يقول الصحافي التركي-الأرمني الشهيد هرانت دينك الذي اغتيل العام ٢٠٠٧ امام مبنى صحيفته. كان يحاول الوصول الى معادلة صعبة ودقيقة: إقناع الأتراك بفهم الشعور الإنساني عند الأرمن، وإقناع الأرمن باحترام الشعور القومي عند الأتراك. السعي الى الحقيقة هو الطريق الى الاعتراف والمصالحة. وبرغم التعتيم المطلق على القضية الأرمنية في المناهج التعليمية المدرسية والجامعية التركية، نرى اليوم بصيص أمل صغير داخل العديد من الدوائر الأكاديمية والفكرية والإعلامية والقانونية التركية الداعية الى مصالحة الأتراك مع ذاتهم ومع التاريخ والحقيقة. يبقى أن ينسحب هذا السعي على المستوى الشعبي المحافظ وألّا يبقى في الإطار النخبوي المتنوِّر.

Share This