كلنـا أرمـن

لن تعترف تركيا بأن ما جرى في العام 1915 كان «إبادة». معظم القضايا المتنازع عليها بين طرفين في العالم لا تجد طريقاً للحسم المشترك. والمسألة الأرمنية ليست أن يجد الطرفان حلولا مشتركة أو وسطية، أي تنازل من هنا أو تنازل من هناك وتحل القضية. إذ إن الإبادة الأرمنية ليست من نوع صراع بين طرفين على غرار حرب فيتنام مثلا، بل كانت في تدبير ممنهج من جانب سلطة هي «الاتحاد والترقي» العثمانية ضد فئة من الناس، هم الأرمن المدنيون الذين كانوا يسكنون في شرق الأناضول، موطنهم الأصلي منذ مئات بل آلاف السنين.الحلول الوسط إذا هنا غير واردة. إما اعتراف بما حدث أو إنكار.

الأتراك اختاروا طريق الإنكار. لا ينفرد هنا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بمفرده في هذا الرفض للحقائق، بل إنها ذهنية واحدة للإلغاء والإبادة متواصلة منذ بدء التاريخ ذي الجذور التركية: بدءا من هولاكو مرورا بجنكيز خان وتيمورلنك، وصولا إلى سليم الأول، جزار العلويين، واستكمالاً بعصابة «الاتحاد والترقي» وطفلها المدلل أتاتورك.

تجيد النخب السياسية التركية استحضار الأمثلة السيئة من التاريخ. فيمكن للإسلامي و «المعتدل» عبدالله غول أن يكون هو من يقترح، بالتكافل والتضامن مع اردوغان، أن يطلق اسم السلطان سليم الأول على الجسر الثالث الذي بُدِئ ببنائه فوق البوسفور. عندما يكون «الأكثر اعتدالا» هو من يقترح، في مطلع القرن الحادي والعشرين، الخيار الأكثر تطرفاً واشمئزازاً واستفزازاً، فما الذي يمكن توقعه حينها من المتطرفين والأكثر تطرفاً؟.
وعندما يتساوى التركي العلماني واليساري والقومي والإسلامي في رفض الاعتراف بالإبادة، فهذا يعني أن القضية طويلة جداً، بل لا حل لها إلا في أطر استثنائية تماماً، كما هي الحلول الكبرى التي لا تبزغ إلا من جراء الحروب الكبرى.

في استطلاع لمركز أبحاث الاقتصاد والسياسة الخارجية التركي، نهاية العام الماضي، أي قبل أربعة أشهر، حول ما الذي يجب أن تفعله تركيا مع اقتراب الذكرى المئوية لما جرى في العام 1915، قال 9.1 في المئة من المستطلعين إن على تركيا أن تعترف بأن ما جرى إبادة، و9.1 في المئة أيضا إن على تركيا أن تعتذر فقط، و12 في المئة إن على أنقرة ان تبدي أسفها لا ان تعتذر، و23.5 إن عليها أن تعبر عن أسفها على كل الضحايا العثمانيين حينها لا الأرمن فقط. وقال 21.3 في المئة انه يجب ألا تقدم تركيا على أي خطوة، فيما أعلن 25 في المئة أنه لا جواب عندهم.

أي أن 80 في المئة يقعون خارج دائرة الاعتراف بـ«الإبادة» أو الاعتذار.

يمكن التكهن بأن من قالوا بالإبادة غالبيتهم من غير الأتراك. هم أكراد أو عرب، وبعض النخب الثقافية الليبرالية من الأتراك.

ما الذي يعنيه هذا؟ يعني أن الطريق للوصول إلى «نهاية ما» للمسألة لا يبدو في المتناول، وإلى أن الاستقطاب بين التركي وغير التركي يزداد. وحدهم الأكراد من يجرؤون منذ سنوات عدة، خصوصا «حزب العمال الكردستاني»، على القول بحصول إبادة. وحدهم الضحايا يدركون معنى الاضطهاد. والجميع هنا بهذا المعنى «أرمن». الفلسطيني أرمني والكردي، أينما كان، أرمني، والعلوي في تركيا، أرمني، وكل فرد من الشعوب المظلومة والمسحوقة أرمني.

يقدم الأرمن نموذجاً للشعب الصابر الذي لا ينحني، بينما بالكاد اشتد القهر على الفلسطيني حتى بادرت قيادته إلى التنازل عن حقوق عمرها قرون بل آلاف من السنين.
بإمكان تركيا أن تفعل الكثير للخروج من مأزقها. بإمكانها أن تعلن أنها مستعدة لإعادة كل الأملاك التي كانت للأرمن، من أراض وبيوت، إلى أصحابها من الأحفاد. وهذا حق مكتسب لهم. بإمكانها أن تعوّض على من لا يريد العودة. التهجير كان قسرياً، وهو حق ثابت في القانون الدولي. إعادة الأراضي والتعويض خطوات قابلة للترجمة على أرض الواقع. إذا كانت تركيا تنكر وجود أمر منظم لإبادة الأرمن، فإنها لا تستطيع أن تنكر أن هناك ترحيلاً قسرياً قد حدث، وأن من حق المرحل أن يعود إلى أرضه وبيته. يجب ألا ينتظر الأرمن من تركيا الاعتراف بالإبادة. اعتراف فرنسا، بل تجريمها لمن ينكر الإبادة، لم يوقف التعاون بل التحالف بين أنقرة وباريس بشأن عدد كبير من القضايا لا سيما في سوريا. اعتراف ألمانيا وروسيا الآن لن يغير شيئا من واقع العلاقات الوثيقة بين أنقرة وكل من برلين وموسكو. اعتراف الرئيس الأميركي باراك أوباما، أو عدم اعترافه، بالإبادة لن يغير من واقع أن تركيا مركز ثقل في السياسات الغربية في المنطقة رغم الخلافات الظاهرة حاليا.

لكن الاعتراف مسألة أخلاقية، وهو جزء من معركة قهر المعتدي ومعاقبة المجرم. كل المصالح الدولية في العلاقات بين الدول، واضطرار بعضها لمراعاة تركيا، لن تغير حرفا من الحقوق التاريخية لأرمن الأناضول، أرضاً ومنازل وكنائس وينابيع مياه ومغاور. يجب أن تعتاد الدول المعتدية على أنها ستنال عقابها، ولو بعد ألف سنة.

في الذكرى المئوية للإبادة يحسن لأي ضمير أن يصرخ بصمت: كلنا أرمن.

محمد نور الدين

السفير

Share This