كتاب جديد للدكتور صالح زهر الدين… شهادات لبنانية في الإبادة الأرمنية

“شهادات لبنانية في الإبادة الأرمنية” كتاب للدكتور صالح زهر الدين صدر في بيروت ويتضمن شهادات وآراء ومواقف لشخصيات لبنانية، من مختلف فئات الشعب اللبناني وطبقاته وأحزابه ومؤسساته حول قضية إنسانية نبيلة وهي قضية الإبادة الأرمنية. وجاء في كلمة تقدير لكاثوليكوس الأرمن الأرثوذكس آرام الأول: “…إنها ليست المرة الاولى التي يتطرق فيها هذا المؤرخ اللبناني المحترم إلى المجازر الأرمنية. هو واحد من المدافعين عن الحقائق التاريخية، وهذا ما تشهد عليه كتبه الصادرة وعددها لا يُستهان به ومنها: «الأرمن شعب وقضية»، «سياسة الحكومة العثمانية في أرمينيا الغربية وموقف القوى الدولية منها»، «الصداقة العربية الأرمنية والمصير المشترك»، «موقع كاراباخ في الصراع الأرمني الأذربيجاني»، «أصالة العرب والوفاء الأرمني»، «العرب والأرمن بين الطورانية والصهيونية…»، «موسوعة شخصيات أرمنية في القرن العشرين»، «الكنيسة الأرمنية وموقعها في مجازر الإبادة 1915»، «الأرمن بين الكنيسة والسياسة والاقتصاد»، حيث تملأ صفحاتها حقبات مهمة من تاريخ الشعب الأرمني.

مما لا ريب فيه، أنه لا يمكن إخفاء الحقيقة التاريخية مهما حاول الناس تغطيتها بمعطيات عوجاء أو إنكارها. إن الإبادة الأرمنية ليست فقط مدوّنة عميقاً في الذاكرة الجماعية للشعب الأرمني، وإنما هي أول إبادة نُفّذت في القرن العشرين وستبقى منبهاً دائماً على مر السنين.

هذا، ولقد وقع لبنان بدوره ضحية السياسة العثمانية الإجرامية. والشاهد الأكبر لهذه الحقيقة هي ساحة الشهداء في وسط بيروت. إن الشعب الأرمني سيبقى وفياً للشعب اللبناني، مسيحيين أو مسلمين، كما للشعوب العربية عموماً الذين حضنوا الناجين من مجازر الدولة العثمانية التركية. إن شعبنا ساهم في إعمار وازدهار لبنان وسيبقى أبداً معترفاً بالجميل، وسوف يستمر في المشاركة في ازدهار وتقدّم لبنان.

إن شهادات اللبنانيين في هذا الكتاب هي أصدق تعبير عن محبة واحترام الشعب اللبناني تجاه الشعب الأرمني، وعن التضامن معه في نضاله لاسترجاع حقوقه المغتصبة(…).
وجاء في مقدمة الكتاب للمؤلف الدكتور صالح زهر الدين: “في الرابع والعشرين من نيسان هذا العام 2015، تبلغ جريمة الإبادة الأرمنية على يد الطورانيين الاتحاديين عمرها المائة… إنها «مئوية الإفناء» المنظّم والممنهج على يد قادة «جمعية الاتحاد والترقي»، حيث سقط من جرائها أكثر من مليون ونصف مليون أرمني، فضلاً عن مئات الآلاف من المهجرين والمشرّدين والمختفين، فاستقبلهم العرب بالترحاب، لأن وحده الأصيل يقبل الأصيل…
أمام هذا الواقع، فقد ذهب البعض إلى وصف هذه المجازر الإبادية بحق الشعب الأرمني بأنها «هيروشيما الأرمن». لكننا نحن نقول بأن هذه «الهيروشيما الأرمنية» صحيحة من ناحية التشبيه المجازي، أما في الحقيقة، فإن هناك فروقات هائلة بين «هيروشيما اليابان» ومجازر الإبادة الأرمنية، نستطيع إيجازها بما يلي:أولاً: إن «جريمة هيروشيما» في السادس من آب 1945، نجمت عن إلقاء الولايات المتحدة الأميركية «القنبلة الذرية» الأولى على اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية، نتج عنها سقوط نحو مائة ألف قتيل ياباني. وكانت «القنبلة الذرية» الثانية في التاسع من آب 1945 (بعد ثلاثة أيام من قنبلة هيروشيما) على مدينة «ناغازاكي» اليابانية، سقط من جرائها نحو ثلاثين ألف قتيل… ثانياً: إن جريمة الإبادة الأرمنية على يد الاتحاديين الطورانيين العثمانيين بدءاً من 24 نيسان 1915، كانت بمثابة «القنبلة الديموغرافية الإفنائية» الأولى على يد بني عثمان في القرن العشرين، وقبل ثلاثين عاماً من «القنبلة الذرية» الأميركية، ذهب ضحيتها أكثر من مليون ونصف مليون أرمني. باعتبار أنه عند الانهيار الكبير تنهار الركائز الكبرى وتغيب: العقل والمعرفة والقانون. وهذا ما فقده العثمانيون الطورانيون عند ارتكابهم للمجازر الأرمنية.. ثالثاً: إذا كانت «القنبلة الذرية» الأميركية أول جريمة ذرية في القرن العشرين، فإن «القنبلة الإفنائية الديموغرافية» العثمانية هي أول وأكبر قنبلة إبادة منظمة في القرن العشرين ذاته أيضاً. رابعاً: إن حجم مجازر الإبادة الأرمنية يعادل 15 مرة حجم جريمة هيروشيما الذرية، من حيث عدد القتلى. وما يوازي 12 مرة حجم جريمة هيروشيما وناغازاكي معاً… خامساً: إن «القنبلة الذرية» الأميركية عام 1945 طالت مدينة هيروشيما في البدء، ثم مدينة ناغازاكي. بينما «القنبلة الديموغرافية الإفنائية» العثمانية عام 1915، طالت مدناً ومقاطعات وولايات أرمنية بكاملها، تعادل أضعاف أضعاف مساحة ناغازاكي وهيروشيما.سادساً: إن عمر «القنبلة الذرية» الأميركية على هيروشيما عام 2015 يبلغ 70 سنة، بينما عمر «القنبلة الديموغرافية الإفنائية» العثمانية يبلغ مائة عام في هذا التاريخ.سابعاً: إن «القنبلة الذرية» الأميركية حصرت مفاعيلها الكارثية في هيروشيما وناغازاكي وحدهما، بينما «القنبلة الديموغرافية الإفنائية» العثمانية تجاوزت في مفاعيلها ونتائجها الكوارثية مدن الأرمن وقراهم في أرمينيا الغربية التي سيطرت عليها تركيا ولا تزال وقد وصلت مآسيها وفظائعها إلى صحاري سوريا ومياه البوسفور والفرات، وبحار وأنهار أخرى… ولا تزال المآسي مستمرة… ثامناً: إن مسؤولية «القنبلة الذرية» واستخدامها لأول مرة في التاريخ، تقع على عاتق الولايات المتحدة الأميركية، بينما مسؤولية «القنبلة الديموغرافية الإفنائية» العثمانية تجاوزت السلطنة العثمانية والطورانيين الاتحاديين إلى مسؤولية دولية مشتركة تمثلت بتواطؤ مباشر من دول أوروبية (كألمانيا مثلاً)، أو بصمت ولا مبالاة من دول أخرى أوروبية كانت أم أميركية، وإما بموقف المتفرّج من آخرين… وهنا تكبر الجريمة كما تكبر بالتالي المسؤولية إزاءها… تاسعاً: في الوقت الذي بلغ فيه عمر الإبادة الأرمنية مائة سنة، فإن تركيا الدولة والنظام والحكومات المتعاقبة لا تزال حتى اليوم تنكر حصول هذه المجزرة الإبادية وترفض الاعتراف بها، نظراً لما يترتّب عليها من تبعات وتعويضات، بينما تعترف الولايات المتحدة الأميركية بجريمتها الذرية، وأنها الدولة الأولى في العالم التي استخدمت السلاح الذري في الحرب العالمية الثانية ضد اليابان، فأجبرتها على الاستسلام عام 1945. وتكفيراً عن ذنبها، فإنها ترسل في كل عام وفداً أميركياً رفيع المستوى إلى هيروشيما في ذكرى نكبتها كدليل على الاعتراف بالجريمة والاعتذار عنها… عاشراً: رغم هول الكارثة اليابانية في هيروشيما وناغازاكي، فإن كارثة الإبادة الأرمنية تبدو أكثر هولاً وإجراماً… لكن حجم الإدانة لم يكن متساوياً بين الكارثتين. إذ إن الإدانة العالمية للولايات المتحدة وقنبلتها الذرية كان أكبر بكثير من إدانة الطورانيين وجريمتهم الإبادية. إضافة إلى حجم «الطمس» الذي تعرضت له المجازر الأرمنية بفضل السياسة الدولية المتواطئة أو الصامتة أو المتفرّجة، حيث مرت عشرات السنين من دون أن تظهر الجريمة الإبادية ضد الأرمن إلى العلن، في الوقت الذي لاقت فيه «القنبلة الذرية» استنكاراً دولياً هائلاً ولا يزال على مختلف الصعد والمستويات(…).

والجدير بالذكر، ان مذكرات طلعت باشا ـ مهندس المجازر والترحيل ـ والتي ظهرت ما بين عامي 2005 و2008، تعد أول وثيقة اعتراف رسمي عثماني وتركي بالمجازر الارمنية، واول «إثبات دامغ» يعترف به صاحبه بخط يده حول «الحقيقة» من منبعها ومصدرها الاصلي، باللغة التركية أولاً، ونشر بعضها في جريدة تركية ثانياً، في كتاب مستقل ثالثاً داخل تركيا، وليس خارجها.. وهنا تكمن الأهمية البالغة لهذه المذكرات رغم الانكار التركي المتمادي حول هذا الموضوع، وحقيقته البالغة الخطورة باعتراف صاحبها.

هذا، ومن الغرابة، انه بعد حوالي تسعين عاماً على المجازر، لم يكن قد ظهر بعد اي دليل أو اي اعتراف رسمي تركي على جريمة بهذا الحجم، ذهب ضحيتها أكثر من مليون ونصف مليون ارمني، عدا عن المنفيين والجرحى والمفقودين. إلا انه في عام 2005 نشرت جريدة «حريت» التركية أجزاء من مذكرات طلعت باشا، المهندس الحقيقي لترحيلات الارمن ونفيهم. ثم بعد سنوات ثلاث (اي في عام 2008) نشر المؤرخ التركي مراد بارداكتشي مذكرات طلعت باشا في كتاب عنوانه «الوثائق الباقية لطلعت باشا».. وهو بالفعل، كتاب بخط اليد، من مذكرات أبرز قادة جمعية الاتحاد والترقي، ووزير الداخلية العثماني في عام 1915 (طلعت باشا). كما يعتبر أهم وثيقة لم يكشف عنها ابداً، تصف تدمير الارمن في الامبراطورية العثمانية بين عامي 1915 و1917، ويعترف رسمياً بالمجازر. ان هذا الكتاب يجيب اجابة شافية على الكثير من التساؤلات الخاص بالسجلات العثمانية. كما يتضمن قسماً اساسياً حول ترحيلات الارمن في الفترة المذكورة أعلاه. مع العلم ان «الكتاب الاسود» هذا لم يكشف عنه ابداً اثناء حياة طلعت، أو ضمن مذكراته التي نشرت بعد وفاته مغتالاً في عام 1921. وقد احتفظت ارملته خيرية بهذا الكتاب ثم اعطته للمؤرخ مراد بارداكتشي سنة 1982، وقد قال «لم يكن من الممكن أبداً ان أنشر هذا الكتاب من عشر سنوات. ولو فعلت لكنت قد نوديت بالخائن.. واليوم تغيرت العقلية».. هذا، ووفقاً لهذه الوثائق، كان يعيش في الامبراطورية العثمانية 1،256،000 من الارمن قبل عام 1915، وهبط الرقم الى 284،157 بعد عامين. كما ان الاحصاءات الخاصة بالقضاء على الارمن في «الكتاب الأسود» مقسمة إلى أربع فئات تغطي 29 منطقة (ولايات وسناجق) من الامبراطورية العثمانية:

1 ـ السكان الارمن في كل منطقة في عام 1914.
2 ـ الارمن الذين لم يتم ترحيلهم (المفترض في عامي 1915 ـ 1916).
3 ـ الارمن الذين تم ترحيلهم ويعيشون في أماكن أخرى(1917).
4 ـ الأرمن الذين هم اصلاً من خارج الاقليم الذي يعيشون فيه(1917).

ومما يجدر ذكره هنا، ان الارقام الموجودة في كتاب طلعت باشا لا تقدر بثمن، حيث تجيب على كثير من الأسئلة الاساسية حول المجازر، مع العلم ان اثنين من هذه الأسئلة يختصان بطبيعة الترحيلات الفعلية لعام 1915، والمصير المحدد لهؤلاء المرحلين وهم يدفعون الى صحراء دير الزور، احدى المناطق الرئيسية المحددة لإعادة التوطين.

كما تتناقض معلومات طلعت باشا مع الفرضية التركية الرسمية بأن الترحيلات كانت عملية منظمة تحكمها القوانين والنظم العثمانية، أو أن المرحلين تم توطينهم بنجاح فعلاً في دير الزور. ومن المثير للاهتمام ان «الكتاب الأسود» هذا يبين ايضا ان عدد الأرمن في الامبراطورية العثمانية كان أعلى كثيراً مما تفترضه الأرقام الرسمية.

تؤكد أعداد طلعت باشا ان معظم الارمن العثمانيين خارج القسطنطينية قد تم ترحيلهم بالفعل، وأن معظم هؤلاء المرحلين قد اختفوا بحلول عام 1917. وفي المتوسط، تم ترحيل 90 بالمائة من الارمن المقيمين في الاقاليم، و90 بالمائة من هؤلاء المرحلين قتلوا. وعدد الناس الذين فقدوا كان اكثر من 95 بالمائة بالنسبة لمقاطعات مثل طرابزون وارضروم والرها وديار بكر ومعمورة العزيز وسيفاس.

وهذه الأرقام تبين بوضوح ان الترحيلات كانت ترقى الى حكم الإعدام.. حيث ان المرحلين الى منطقة دير الزور مثلا قد مات معظمهم. وفي الوقت الذي تذكر فيه بعض السجلات ترحيل حوالي 300،000 ارمنياً الى هذه المنطقة، تظهر سجلات طلعت باشا وجود 6،778 من الارمن في هذه المنطقة عام 1916.

ومما لا شك فيه، ان وجود هذه المعلومات في كتاب مهندس الترحيلات الارمنية ـ طلعت باشا ـ يثير مرة أخرى قضية هامة جدا تتعلق بالحشد الكبير من الوثائق الارشيفية التي كانت تدعم هذه البيانات (بعد ان بقي الارشيف العثماني والتركي اكثر من سبعين عاماً بعيداً عن أعين الباحثين وممنوعاً عليهم الاطلاع على محتويات وثائقه وأسراره). كما يبين من جهة أخرى، تلك التفاصيل الواقعية عن عملية القضاء على الارمن بين عامي 1915 و1917. ومن جهة ثالثة، يفضح زيف التوكيد الرسمي التركي بأن الترحيلات كانت عملية منظمة لنقل واعادة توطين الناس وفق القوانين والنظم العثمانية.. وباختصار، تؤكد وثائق طلعت باشا هذه اختفاء 972،000 من الارمن العثمانيين من سجلات السكان الرسمية في الفترة من 1915 الى اواخر 1916.

ومهما يكن امر «الصمت التركي» ازاء نشر هذه الوثائق، غلا ان بعض المراقبين قالوا ان هذا الصمت كان علامة على ان الموضوع لا يزال من الموضوعات المحرمة. وهذا ما اكده الاكاديمي التركي مراد بيلجيه، في مقال بالصحيفة اليومية «طرف» الليبرالية (في ك2/يناير 2009) قائلاً أن «أهمية الكتاب واشحة من حقيقة انه لم تكتب اية جريدة سطراً واحداً عنه عدا ملييت». أما المؤرخ والخبير في الابادة الجنسية للأرمن هيلمار كايزر، قال ان «السجلات التي نشرت في الكتاب كانت دليلاً دامغاً من السلطة العثمانية نفسها على أنها قد سعت الى سياسة محسوبة للتخلص من الارمن.. اذ فجأة تجد على صفحة واحدة توكيداً للأرقام، وكأنك تلقيت ضربة بهراوة على راسك». وقال السيد كايزر: ان الاقدام القبلية والبعدية تعتبر «سجلاً بالموتى»، ثم اضاف: «ليس ثمة سبيل آخر للنظر الى هذه الوثيقة، فلا يمكنك اخفاء مليون انسان بكل بساطة:..وليس كتابنا هذا اليوم «شهادات لبنانية في الارمن والإبادة الارمنية»، في ذكرى «مئوية الابادة»، إلا التعبير الصادق عن تاريخية «الصداقة العربية ـ الارمنية» ومستقبلها، على طريق تمتينها وتعزيزها وتقويتها وتعميقها، احتراماً لتاريخنا الماضوي وحفاظاً على أجيالنا المستقبلية… إضافة إلى ان هذا الكتاب هو مكتبة بحد ذاتها، وكنز معلوماتي توثيقي وموثوق… انه «المخزن والمتحف» معاً.. هدفه إنعاش التذكر وإحياء الذاكرة العصية على النسيان، لأنها تختصر الزمان وتخترق الجغرافيا، لتبقى مع التاريخ توأمين.. علها تستفيق «الذاكرة التركية» في ذكرى «مئوية الإبادة» هذه وتتذكر تلك المأساة ـ الفاجعة، فيستفيق اثرها الضمير معلناً الاعتراف بها كمقدمة اساسية لخطوات لاحقة تساهم في محو العداوات والأحقاد، وتفتح صفحة جديدة من المحبة والتفاهم والتعاون، لما فيه خير الشعوب والإنسانية برمتها…

المستقبل

Share This