قضية الأرمن: ملاحظات على السجال

مرت الذكرى المئوية للمجازر التي لحقت بالأرمن في تركيا العثمانية، وصار ممكناً تفحص الكلام الذي رافق الاحتفال بها، بتحرر من ضغط «الموقف» المطلوب. وهذا يراوح بالضرورة بين الاستناد إلى الأساس المبدئي وبين «حسابات» سياسية ودينية، سواء حرّكتها المصالح أو الغرائز. ويضاف إلى حضور «الخيارين»، هوسُ البحث والتدقيق الذي قد يستبد بكتّاب ومثقفين، سواء كانحراف مهني أو لاعتبارهم المبالغ به لذواتهم التي تظن أن مصائر تتوقف على ما يفتون به.

الموقف المبدئي لا يمكنه إلا أن يستنكر ويدين المجازر، سواء كانت «إبادة» وفق تعريف الأمم المتحدة لها، أو كانت، مما لا يقل هولاً، أعمال قتل وتهجير جماعي واسعة (يصفها الأتراك بتعبير غريب هو «التهجير الاحترازي»: لحمايتهم من كراهية الناس لهم، جراء «تآمر القوميين الأرمن مع القوات الروسية»)، وسواء كان عدد الضحايا مليوناً ونصف المليون كما تقول الهيئات التي تنطق باسم هذه القضية، والتي نجحت في حفظها وإدامتها والتقدم بها، ففرضت نفسها كقضية ضمير، أو ثلاثمئة ألف كما تقول السلطات التركية («يقابلهم مثلهم من الأتراك» كما لو أن النتيجة تصبح هكذا صفْرية، كعراك مضى وانقضى)، أو مليوناً كما يرجح الباحثون.

وبديهي أنه لا يمكن لمن يقاتل دفاعاً عن حقوق شعوب مغلوبة ومضطهدة، وعلى رأسها الشعب الفلسطيني، أن يكون مزدوج المعايير (ومنعدِم الأخلاق في نهاية المطاف)، فلا يتأثر بمطالبات شعب مكلوم، أياً كان، فكيف بمن يعيش في المنطقة ويحمل جنسيات بلدانها ويشارك في حياة مجتمعاتها كجزء لا ينفصل عنها؟

مقابل ذلك، هناك من أطَّرت مواقفه انتماءاته، وعلى رأسها تلك الدينية. فلطالما جهد المسؤولون الأتراك، دائماً ثم بكثافة خصوصاً مع اقتراب الذكرى المئوية، في إبراز الضحايا «المسلمين»، وتعداد شعوب مسلمة وقع عليها قتل وتهجير في البلقان، في إطار النزاع بين الدولة العثمانية وتلك الروسية بالدرجة الأولى، مع إدراج ارتكابات قام بها اليونانيون في إطار تمردات وقعت في العقود الأخيرة من حياة السلطنة العثمانية. وهو مسعى لإضفاء الطابع الديني على تلك الصراعات (وهو قائم فعلاً)، وإن كان يمكن، لمن يرغب، أن يتكلم عن أراض وشعوب محتلة كما كان قائماً أيضاً وفعلاً. وهذا سجال لا ينتهي، وهو ينتمي إلى التاريخ، أبعد العلوم عن الموضوعية، مهما بلغت شدة التوثيق والتدقيق…. وهناك من لعبت حسابات المصالح بمواقفه. ومن المثير للضحك (أو للسخرية)، أن يطغى الحاضر بل اللحظة الراهنة على «التاريخ»، وهو أمر كثيراً ما يحصل بالطبع، ولكنه يحصل أكثر حين يطابق وضعيات ما زالت ملتهبة، أوهي متجددة. فعلاوة على الاعتبار الديني المتعلق بالانشطار الإسلامي ـ المسيحي، وهو مستثمَر عالمياً أكثر مما هو فعّال محلياً، تدخل على خط المسألة الأرمنية سياسات تركيا اليوم في المنطقة، والمصالح حيالها، فتروح السلطة السورية (مثلاً) تدشِّن ساحة في دمشق باسم الضحايا الأرمن، تكريماً لهم بمناسبة تلك المئوية، مقابل اصطفاف المعارضة السورية خلف الموقف التركي، ليصل الأمر إلى اشتراك «الكشاف الأهلي السوري» المؤلف من أبناء المهجرين السوريين في تركيا، في مخيم كشفي تحية لانتصار الجيش العثماني في معركة «جناق قلعة» ضد جيوش الحلفاء في 2015، بوصفها هي الأخرى ذكرى مئوية، تقرر هذا العام الاحتفال بها في التاريخ نفسه لمئوية المجزرة الأرمنية! السعي هنا هو للتغطية على احتفالات هذه الأخيرة، وأيضاً للمماحكة مع سلطات الدول الغربية الحالية (وقد ذُكرت بالاسم: روسيا وفرنسا وبريطانيا). يمكن لمحاجّة تنتمي إلى المنطق الشكلي أن تسجِّل المفارقة هنا، فالانتصار في تلك المعركة لم يحجب الهزيمة الكبرى في ما بعد، والتي وجهت الضربة القاضية للسلطنة المترنحة. هذا أولاً. وهناك ثانياً ذلك «التقلب» ما بين الاعتداد بوقوع الجريمة على يد العثمانيين وليس الأتراك، وبين تمجيد الأجداد كما فاخر داوود أوغلو رئيس الوزراء ورئيس حزب العدالة والتنمية، ومنظِّر «العثمانية الجديدة»، الذي دعا البابا فرنسوا إلى العودة إلى محاكم التفتيش و»إبادة» المسلمين واليهود وطردهم من الأندلس، وذكر في تصريحه بالمناسبة «المجازر اللاحقة بملايين السوريين»، ويقصد خلال السنوات الأخيرة. وفي ذلك ليس «مواجهة التاريخ» كما قال، وإنما خلطة لا تُبقي منه شيئاً، ومماحكة ميزت على أية حال مداخلات كافة المسؤولين الأتراك في هذه المناسبة، ومنها شطحات كالتي ارتكبها وزير الدفاع عصمت يلماز حين ردّ مسؤولية المجزرة اللاحقة بالأرمن إلى من «سلّح العصابات الأرمنية»، في إشارة تفتقد للحساسية والحذر معاً، طالما رئيسه ذكر سورية الحالية التي لا يمكن عزل أثر الدور التركي عن مآلاتها المأسوية، بمقدار يوازي جرائم النظام السوري نفسه، وبتعادل في «وظائفية» أفعالهما، بسينيكية تغض النظر عن الإبادة اللاحقة بالبشر في البلد المنكوب.

هناك الكثير مثل هذه في السياق، من دعوة الرئيس أردوغان الأوروبيين والأميركيين إلى «إزالة الأدران» من تاريخهم (وهي صيغة أخرى لتعبير شائع هو «كنس الأوساخ، كلٌ من أمام باب بيته»، فيتساوى الجميع في القذارة) ومن نبش أبحاث وكتب شتى، كذاك الصادر في 1995 بقلم باحث أميركي (للصدقية!)، وعنوانه «الموت والنفي: عملية تطهير ضد المسلمين العثمانيين»، والترويج له والاعتداد به بمناسبة المئوية، وفيه أن الضحايا المسلمين بلغوا 5 ملايين، تعرّضوا للقتل بين 1821 و1922، ما يفتح السباق في المزايدة بخصوص الضحايا على مصراعيه.

طغت المهاترات إذاً. لكن ذلك كان أشبه بدخان كثيف أو بضجيج كبير لم يمنع بعض العقلاء من إيضاح جانب جرت محاولة حثيثة لطمسه، وهو جانب تشترك فيه كافة الأطراف. فالجهات الأرمنية الفاعلة لم تحدد ما الذي تعنيه بالتعويض بعد الاعتراف، كما أن السلطات التركية تخشى بالدرجة الأولى، ليس الأثر الرمزي والمعنوي للمسألة، بل ما سيترتب عليها من مطالبات بالتعويض المادي، المالي وفي الممتلكات والأراضي… إلى حد تقديم تصورات تهويلية عن أطماع ليس للأزمن فحسب، بل لدول تدعمهم.

كان ذلك كله مناسبة لتقديم… التقاذف بالمأساة الإنسانية في أشد تجلياتها وضوحاً. فالتاريخ، قديمه وحديثه وراهنه، مليء بالكوارث التي يصنعها البشر، بما يفوق كثيراً كوارث الطبيعة.

نهلة الشهال

الحياة 

Share This