العثمانية الجديدة” … البداية من لبنان ؟

بعد التأجيل المتكرر لزيارة أردوغان إلى لبنان، تقرر إجراؤها في 24 من تشرين الثاني في ظل الوضع المتأزم الذي تشهده الساحة اللبنانية. ولكن ما هي مدلولات هذه الزيارة وما هي تداعياتها على الصعيدين المحلي والإقليمي.

فبعدما كانت تركيا تتوسل على عتبات أوروبة لانضمامها إلى الإتحاد الأوروبي، بادرت أنقرة إلى إعادة تموضعها باتجاه الشرق محاولةً إحياء دورها في المنطقة وتنشيط نفوذها لدى البلاد العربية والإسلامية، فلقد وضع الطقم الحاكم في أنقرة خطط ممنهجة وخصصوا قدرات مالية كبيرة ورسخوا مفاهيم جديدة لتحقيق تلك الأهداف، لذلك لقّب المراقبون الطقم بـ”العثمانيون الجدد”.

“العثمانيون الجدد” كعادة أجدادهم العثمانيين يستعملون العامل الديني للسيطرة على الشعوب واستغلالهم لكي يتمكنوا من تحقيق مآربهم في الهيمنة والتوسع، فقد باتت تركيا المدافعة الأولى للقضية الفلسطينية وأصبحت تزايد على العرب وتدّعي التعفف والتظاهر بأنها تريد الحفاظ على حقوق الإنسان الفلسطيني ولذلك تفتعل تركيا تارة مشاكل مع الكيان الصهيوني مثل المواجهة في قمة دافوس وأزمة السفير التركي وصدامات قافلة الحرية، الأمر الذي لاقى استحسان الشارع العربي نظراً لتراجع الكثير من الدول العربية في لعب دور بنّاء لتحقيق العدالة للقضية الفلسطينية، وبهذا استغلت أنقرة الفراغ العربي لتمسك زمام الأمور شأنها شأن إيران، مع فارق أن إيران تعادي فعلاً الكيان الصهيوني بعكس تركيا التي تربطها كحليف استراتيجي معه منذ أكثر من نصف قرن.

بعكس الشارع العربي، الأنظمة العربية أو ما يسّمى أنظمة دول الاعتدال العربي غير راضية عن الدور التركي المتنامي على الساحة العربية لا بل تبدو قلقة بشأن ذلك، والانتقادات المتكررة لأنقرة من قبل الصحافة في مصر والسعودية و بعض دول الخليج خير دليل على ذلك القلق.

أما العنتريات التركية والتظاهر بأنها تدافع عن الحقوق الفلسطينية، فلا تؤثر على الغرب والكيان الصهيوني نظراً لماضيها الدموي المليء بالمجازر بحق شعوب كثيرة من بينها الشعب العربي وأبشعها الإبادة الأرمنية، ناهيك استيلائها على أراضٍ عربية، ويونانية، وأرمنية وتقريباً لكل من جيرانها، لذلك لا يحق لها إلقاء الكيان الصهيوني دروس في النزاهة والإنسانية وإدّعاء التعفف بأنها تبحث عن العدالة في فلسطين، طالما أنها لم تستنكر وتعتذر عن ماضيها الإجرامي. لهذه الأسباب ونقاط الضعف التركية الهائلة، فإن الضغط التركي على تل أبيب لن يجدي نفعاً أو لن يأتي بالنتائج المرجوة لصالح العرب وإن كان هناك بعض العرب يراهنون على الاستفادة من الدور التركي فهم واهمون لأن سياسة أنقرة في المنطقة هي استغلالها بغية رعاية مصالحها.

بالعودة إلى لبنان، ففي لبنان أكبر نسبة حرية بالمقارنة مع الدول العربية الأخرى وهو بتكوينه ساحة مناسبة جداً لتركيا كي تلعب فيه وبتناقضاته المعّقدة. نقطة البداية كانت انتهاء حرب تموز ومشاركة تركيا بخمسمائة من عناصرها في قوات اليونيفيل رغم معارضة إحدى الطوائف الستة الأساسية في لبنان وهي الطائفة الأرمنية بفروعها الثلاثة، تلتها تغلغل أنقرة داخل الساحة اللبنانية بشكل مدروس ومخطط مثل تقديم بعض الخدمات في مناطق الجنوب والبقاع والشمال كإنشاء مراكز صحية، تجديد مدارس وإقامة مراكز ثقافية تركية تُعّلم فيها اللغة التركية، والأمر الأكثر خطورة هو نبشها لجماعات لبنانية ذات أصول أو جذور تركية-عثمانية لإحياء وجودها على الساحة الداخلية والخارطة الطائفية في لبنان، وهذا الأمر سيكون له تداعيات مقلقة فيما لو تم انجازه، خاصة أن البعض في لبنان يرحب بذلك.

أما توقيت الزيارة فقد أتى في جو من الانقسامات اللبنانية على أمور مصيرية حيث تسهل في هكذا أوضاع التدخلات الخارجية لشؤون لبنان الداخلية، إذ تأمل أنقرة أن يكون لها تأثير على القرار اللبناني وأن تكسب نقاط سياسية بهذه الزيارة إن بالشكل أو بالمضمون. من ناحية أخرى أتت الزيارة بعد فترة وجيزة من زيارة الرئيس الإيراني، حيث أراد البعض أن يصّنفوا زيارة أردوغان كرّد على زيارة أحمدي نجاد، والتصنيفات جاهزة لهكذا أوضاع في بلد مثل لبنان.

ولكن إذا أجرينا مقارنة بين الزيارتين نلاحظ، بالرغم من أن الجمهورية الإسلامية قدمت مساعدات إلى لبنان والمقاومة أكثر بكثير مما قدمته تركيا، مع ذلك فإن الرئيس الإيراني ابتعد عن الطابع الخدماتي للزيارة رغم وجود مشاريع عديدة لإيران قيد الإنجاز، بعكس ما فعله رئيس وزراء تركيا من استعراضات وتقديم خدمات. عندما يتحدث الرئيس الإيراني عن حقوق العرب فهو يدافع من موقع معاداته لكيان الصهيوني، أما أردوغان فيتبجح بعدائه لكيان الصهيوني وينادي بحقوق الفلسطينيين، ولكن بلاده تقيم حلفاً استراتيجياً معه بالإضافة إلى تبادل في المجال العسكري قيمتها حوالي ملياري دولار سنوياً، وكذلك تبادل في المجال التجاري قيمته حوالي الملياري ونصف دولار سنوياً، وما سياسة الصراخ التي يتّبعها أردوغان إلا لذرّ الرماد في العيون، فأنقرة هدفها الوحيد انتشار نفوذها وتوسيع مصالحها في المنطقة، وآخر همها العدالة والحقوق وغيرها من الشعارات الفضفاضة التي يستعملها لخداع العرب.

إن سلطات أنقرة بمواضيع تتعلق بالإبادة الأرمنية تتنصل من المسؤوليات بحجة أن الأحداث وقعت في الفترة العثمانية العابرة وأن الدولة التركية لا تتحمل أخطاء السلطنة العثمانية، ولكنها من ناحية أخرى لكي تفرض هيمنتها على المنطقة العربية تمارس سياسة ما يسّمى “العثمانية الجديدة” وهؤلاء “العثمانيون الجدد” يفاخرون بأنهم أحفاد العثمانيين وأن لديهم تاريخاً مشتركاً مع العرب، ولكن هل العرب عامة واللبنانيون خاصة نسوا أن التاريخ المشترك هذا كان دموياً وفيه مجازر بحقهم، كان تاريخاً مليئاً بالظلم والتخلف، كانت فترة المجاعات المتلاحقة، وكان زمن الاستبداد والذّل. فهل يستسيغ اللبنانيون أن يبدأ “العثمانيون الجدد” مشاريعهم وهيمنتهم انطلاقاً من لبنان ؟

أردزيف

Share This