الإبادة مستمرة والانحطاط مرئي ومسموع

الإبادة الجماعية (genocide) مصطلح حديث العهد، اعتُمد بعد الإبادة النازية لملايين من اليهود وغير اليهود في الحرب العالمية الثانية. الإبادة، أي العملية المنظمة للقتل الجماعي، هي نتاج القرن العشرين، وأولى ضحاياها الأرمن على يد حزب الاتحاد والترقي المتشدد في قوميته التركية في السنوات الأخيرة من عمر الإمبراطورية العثمانية، ومن أبرز أركانه طلعت باشا، وزير الداخلية العثماني، وجمال باشا، قائد الجيش الرابع ومنفذ الحصار البري على جبل لبنان الذي ذهب ضحيته نحو نصف سكانه بسبب المجاعة. الإبادة النازية هي الأكثر «شهرة» عالمياً، تبعتها إبادات قامت بها أنظمة شمولية ضد شعوبها: الشيوعية الستالينية و «الثورة الثقافية» في الصين الماوية ونظام بول بوت في كمبوديا، وآخر الإبادات في رواندا في 1994. وثمة إبادات منسية استهدفت مسيحيي المشرق، السريان والاشوريين والكلدان، أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها.

في هذه المنطقة من العالم الإبادة مستمرة، فكراً وممارسة، وقد تكون أكثر فتكاً وتدميراً من سابقاتها. معظم الإمبراطوريات الكبرى في التاريخ ارتكبت مجازر وإبادات عندما توسعت بالغزو والعدوان في الشرق والغرب على حد سواء، وهي طبعاً غير مبررة. إلا أنها حصلت في حقبة سابقة من تاريخ البشرية، قبل الطاقة الكهربائية والـ Internet، وقبل مفهوم «الضمير العالمي» والقانون الدولي ومنظمة الأمم المتحدة والإعلام المعولم. إلا أن الفرق الشاسع بين إبادة تُرتكب باسم الدين وأخرى باسم التوسع الإمبراطوري أو الأيديولوجيا لصنع «الإنسان الجديد» على مثال النظام الحاكم وقائده المعصوم. الإبادة المتواصلة في المنطقة العربية حالة غير مسبوقة لأن مرتكبيها يتلطون بالدين. في القرون الوسطى مارست الكنيسة إبادة من نوع آخر، فكانت محاكم التفتيش، وسقط صانعوها في الخطأ والخطيئة. إنها حقبة سوداء نبذتها الكنيسة وانتهت. أما الإبادة التي تمارسها دولة الخلافة التكفيرية ومثيلاتها (والتكفير يعني إلغاء الآخر المختلف وقد يصل إلى حد الإلغاء الجسدي، أي الإبادة) فهي تحصل في زمن ما بعد الحداثة وما بعد العولمة وما بعد تحولات كثيرة. وفي هذا الزمن بالذات يتم قتل المسيحيين والايزيديين والأضعف بين المسلمين وكل من يختلف مع التكفيريين في المعتقد في العراق وسوريا وليبيا على مرأى ومسمع من العالم، القريب والبعيد. المسألة اليوم تتجاوز الاعتذار والتعويض المادي والمعنوي، وهذا حق مشروع لضحايا الإبادة والمجازر، وهو جزء من الذاكرة الجماعية لأي شعب تعرّض للقتل والاضطهاد، لا سيما الأرمن الذين يطالبون تركيا، وريثة الإمبراطورية العثمانية، بالاعتراف بالإبادة والتعويض المادي والمعنوي ولو بعد قرن.

إلا ان ما يحصل اليوم من قتل ممنهج في العالم العربي ليس تاريخاً بل حاضر، يستجلب البث التلفزيوني المباشر. المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على مرتكبي هذه المجازر وعلى المحرّضين والداعمين والساكتين، إما عمداً، أو بالوساطة، أو باللامبالاة. الدين يدين هذه الممارسات الإجرامية. لكن الإدانة لا تكفي، فالمسؤولية المعنوية والأخلاقية تقع على عاتق المرجعيات السياسية والدينية في هذه المنطقة وفي العالم وعلى كل صاحب سلطة ونفوذ للتصدي لهذه الفظائع بكل الوسائل، وهي متاحة عندما تتلازم مع الإرادة. أما المجتمع الدولي فأولوياته في مكان آخر. القضية التي تُشغل الرأي العام الفرنسي، مثلاً، بعد الإرهاب الذي ضرب باريس، زواج المثليين، بينما أحداث جبل لبنان ودمشق التي ذهب ضحيتها آلاف المسيحيين في العام 1860 شغلت الرأي العام الفرنسي، خصوصاً في أوساط الكنيسة الكاثوليكية. كما ان اهتمام الأميركيين اليوم محوره نظام الرعاية الصحية وعولمة التجارة والضرائب. ومن أولويات مؤسسات حقوق الإنسان إلغاء عقوبة الإعدام، بينما الإعدام بات ممارسة «عادية» في المحيط العربي: إعدام «مستدام» للحريات والقانون، للروح والجسد.

بعد ثلاث سنوات سيحتفل العالم بالذكرى السبعين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وهو أيضاً تاريخ بدء مشروع إبادة معاصرة لم تنته، للتاريخ والجغرافيا والهوية الوطنية في فلسطين. ومن يؤمن بأن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله فإنه على يقين بأن مرتكبي مجازر اليوم وحوش كاسرة من صنع البشر. لِمَن سيحتكم أبناء هذه المنطقة المضطهدون كي يبقى الإنسان على صورة ربه ومثاله، فلا تتحول مصائر الناس العزّل وجنى عمرها وأماكن العبادة والكنائس والأديار إلى جحيم مفتوح؟

فمن الإبادة الأرمنية في مطلع القرن العشرين إلى الإبادة الجماعية في العراق وسوريا في مطلع القرن الحادي والعشرين، يبدو القتل ممارسة روتينية، لا رادع له ولا حساب، والإبادتان تتشاركان الأرض التي أرادها الخالق مهداً لأديان يجمعها الإيمان بالإله الواحد. إنه انحطاط «عصري»، مرئي ومسموع.

فريد الخازن

السفير

Share This