الولادة الثانية للأمّة الأرمنية

قيم “مركز بيروت للمعارض” تظاهرة فنية عنوانها “ولادة أمة من جديد”، بالتعاون مع غاليري “سفينة نوح” و”اللجنة المئوية للابادة الأرمنية”. يستمر هذا المعرض حتى آخر أيار، ويضم نحو مئة لوحة وعشرين منحوتة تمثل تحولات الفن الأرمني في الداخل والخارج، من القرن التاسع عشر إلى زمننا الحاضر.

على مدى قرون من الزمن، ارتبطت فنون الرسم في أرمينيا ارتباطا وثيقاً بفن الكتاب، حتى بدت جزءاً لا يتجزّأ منه. كما في العالم البيزنطي المتعدّد الإقليم، ظلّ الرسم دينياً بامتياز، ولم يخرج من دائرة الكنيسة إلّا في ما ندر. ابتدع الروم فن الأيقونة، وزيّنوا دور العبادة برسوم جدارية تنقل وقائع الإنجيل بلغة الخط واللون. تأثر الفنّانون الأرمن بهذه الرسوم، غير أنّهم لم يتبنّوا الرسم الجداري إلاّ نادراً، وبرز إبداعهم بشكل خاص من خلال المنمنمات التي زيّنوا بها مخطوطاتهم النفيسة. من المعروف أن الأبجدية الأرمنية وُلدت في القرن الخامس على يد الراهب ميسروب. قبلها كانت الصلوات والطقوس الأرمنية تُقام باللغتين المقروءتين، اليونانيَّة والسريانيَّة، تقابلها شروح شفويَّة بالأرمنيَّة نظراً إلى عدم وجود أبجديَّة. وقد أسند الكاثوليكوس ساهاك إلى الراهب ميسروب مهمة وضع أبجدية أرمنيَّة خاصة، فكرّس الأخير نفسه لهذا الغرض وأفنى في سبيله خمساً وعشرين سنة من عمره. تقول الرواية إن اليد الإلهية أيقظت ميسروب أثناء رقاده بعد بحث طويل في بلاد الرافدين ووادي النيل، وكتبت على حائط غرفته بأحرف من نور ستة وثلاثين شكلاً هي الحروف الهجائية التي تشكل الأبجدية الأرمنية، ثم أوصته باستخدامها بعد تلقينه إياها. نسخ الراهب بسعادة غامرة هذه الأحرف “المُنزلة” ونقلها الى تلاميذه الذين وضعوا قواعد النحو والصرف من بعده. ويعتقد الأرمن أن الله هو مَن خطّ بيده أحرف العلة الخاصة بأبجديتهم، تماماً كما كتب من قبل، الوصايا العشر على الألواح للنبي موسى. شكّل هذا المعتقد أساساً للعناية الفائقة التي أولاها الأرمن لفنّ الكتاب على مرّ العصور، حتى قيل إن الكتاب المخطوط في التقليد الأرمني نظير الأيقونة في التقليد البيزنطي.

عرف التاريخ الأرمني تقلبات عديدة على مدى القرون الوسطى، وظلّ فنّ الكتاب مزدهراً في عهود الهناء كما في عهود الشقاء، وتطوّر فنّ الرسم من خلاله، متأثّراً بأساليب تشكيلية عديدة. نشأت أرمينيا المسيحية بين أمبراطورية الروم وأمبراطورية الفرس، وتم اقتسامها بين الأمبراطوريتين في العام 387، فسيطر الفرس على أربعة أخماس مساحتها، وأسقطوا عرشها الملكي في العام 428. في المقابل، سيطر الروم على الجزء الغربي من أرمينيا وجعلوا منه ولاية من ولاياتهم في العام 391، إثر وفاة آخر الملوك فيها. وانفصلت الكنيسة الأرمنية عن الكنيسة البيزنطية بعد مجمع خلقيدونيا الذي انعقد في العام 451، وأعلنت رفضها لقراراته بصورة رسمية في عامي 553 و555. وتكرّس هذا الانفصال بإعلان وحدة الإيمان مع السريان اليعاقبة في العام 726، وجاء هذا الإعلان بعد دخول أرمينيا المسيحية في كنف الدولة الإسلامية في العام 661 ونشوء ولاية أرمنية أموية في العام 699. عانت هذه الولاية من الصراع المحتدم بين العباسيين والروم، وانعكس هذا الصراع عليها بشكل مباشر. في القرن التاسع، تبدّلت الأحوال، وحظيت أرمينيا بنوع من الاستقلال الذاتي أدى إلى نشوء سلسلة من الممالك التي تتشارك في حكمها. ازدهرت حركة البناء في مدينة آني وكثُرت فيها الكنائس حتَّى عُرفت باسم “مدينة الألف كنيسة وكنيسة”، وعمرت فيها الفنون المتنوعة. بعد قرنين من الزمن، تفسّخت الدولة العباسية وتحوّلت إلى مجموعة من الإمارات والدول المتحاربة. انقسمت الإمارات الأرمنية وغرقت في هذه الرمال المتحركة. في كيليكيا، خارج حدود أرمينيا الكبرى، نشأت مملكة أرمينيا الصغرى في العام 1073 ودام عهدها إلى العام 1375 حين قضى المماليك عليها. دخلت أرمينيا في منعطف تاريخي جديد مع نشوء الدولة العثمانية وتحوّلها سريعاً إلى أمبراطورية مترامية الأطراف. عانى الأرمن من الحرب الضروس بين العثمانيين والفرس، وتبدّلت أحوالهم تبعاً لتحولات هذه الحرب. على الصعيد الداخلي، تحولت أبرشية القسطنطينية في العام 1461 إلى بطريركية، وحظي بطريرك الآستانة بنفوذ كبير. في بلاد الفرس، نقل شاه عباس سكان مدينة جفلا إلى أصفهان حيث أنشأوا “مدينة” خاصة بهم عُرفت باسم جفلا الجديدة.

من ضفة إلى أخرى

تأثر الفنّانون الأرمن بالأساليب المختلفة التي اختبروها بفعل تواصلهم التاريخي مع الشعوب المحيطة بهم، وبرز هذا التأثر في تعددية مدارس الرسم الخاصة بهم. ظلّ فن التصوير متأصلاً بشكل أساسي في الكتاب الديني حتى القرن السابع عشر. تبدّلت الأحوال بعدها حين اجتاح الغرب بثقافته الشرق بمختلف أقاليمه. استحضر السلاطين العثمانيون المصوّرين والمعماريين الأوروبيين، وكلّفوهم رسم صورهم، كما عهدوا إليهم تشييد قصورهم وحدائقهم. في العام 1775، أمرت الأمبراطورة “المتنورة” كاترينا الثانية بإخراج جدار الأيقونات الذي أنجزه أندره روبليوف من “كنيسة الصعود الإلهي”، وأبدلته بأيقونات عصرية تتبع الأسلوب “الحضاري الغربي”. في المنمنمات كما في الأيقونات، جنح المصورون نحو صيغة توفيقية تجمع بين الجمالية “الجديدة” و”الملامح القديمة”، ثمّ تخلّوا سريعاً عن هذه الملامح، وتبنّوا تبنياً كاملاً المنهج الأوروبي الذي تأسّس في عصر النهضة. دخلت فنون الشرق في حالٍ من الانحطاط وبدأت بالاندثار. بين عالم يموت وعالم ينمو ويتجدد، بدأ عصر الانبهار والافتتان بأوروبا. عكس تطوّر الفنون الأرمنية في الأزمنة الحديثة هذا التحوّل بشكل لا لبس فيه، وتجلّى هذا التطوّر في أبرز المحطات التشكيلية التي اختبرها المصورون الأرمن حيثما حلّوا.
في النصف الأول من القرن الثامن عشر، زيّن هوڤهانِّس بادغيراهان جدران دير القديس لعازر في البندقية بلوحات دينية تبنّى فيها طرق معلّمي النهضة الإيطالية في التجسيم والتظليل ونقل المنظور. في القرن التاسع عشر، سلك هوڤهانّس أيڤازيان طريقاً مماثلة في روسيا حيث عُرف باسم إيڤان أيڤازوڤسكي. تلقى هذا المصوّر اللامع أصول الرسم في الأكاديمية الأمبراطورية للفنون الجميلة في سان بطرسبورغ حيث أصبح في ما بعد أستاذًا يعلّم فيها، وانتقل إلى الخارج لمتابعة تخصصه، وعاش في إيطاليا أربع سنوات، وارتحل في أوروبا قبل أن يعود ويستقر في مسقطه تيودوسيا، وعاد إلى الترحّل في النصف الثاني من التاسع عشر، وعمل في تركيا وإفريقيا ومصر، وصوّر معاناة أبناء قومه في زمن احتضار الخلافة العثمانية، كما في لوحة “السفن التركية ترمي الشبّان الأرمن في بحر مرمرة”، ولوحة “معونة الأخوية للأرمن النازحين الذين اضطهدهم الأتراك”. في تلك الحقبة الزمنية، جسّدت تجربة استيپانوس نرسيسيان في أرمينيا صعود الأسلوب الكلاسيكي الأوروبي وسيطرته على الحياة الفنية. التزم هذا الرسام أصول ما يُعرف بـ”لوحة الحامل”، وترك أعمالاً كثيرة تشهد لتحوّل فن الرسم الأرمني وانتقاله من ضفة إلى ضفة أخرى بشكل جذري. برز هذا التحوّل في أعمال فنية أخرى تعود إلى فنانين ظهروا في النصف الأول من القرن العشرين، منهم على سبيل المثال أرشاك فيتفاجيان، هماياك شيشمانيان، غادارينيه كولهانجيان، يرڤانت ديميرجيان، سيدراك أراكيليان وجيراردو أوراكيان.

دخلت هذه التجارب منعطفاً جديداً في النصف الثاني من القرن العشرين. شيئاً فشيئاً، تخلّى الفنّانون الأرمن عن المنهج الكلاسيكي الأوروبي، وبدأوا باختبار الطرق الحديثة في الرسم، وجاء هذا التحوّل الجديد مع تخلّي الفنّانين الأوروبيين المعاصرين عن الأساليب التقليدية، وتطلّعهم نحو طرق جديدة مغايرة. هكذا سلك أرشيل غوركي أسلوباً تعبيرياً حديثاً، وعبّر عن مأساته الشخصية ومأساة قومه بلغة تشكيلية حديثة. كذلك، جسّد جانسيم مآسي شعبه المقهور بأسلوب تعبيري آسر، ولقِّب بـ”مغنّي البائسين”. ونقل سورين سافاريان هذه المعاناة بلغة شعرية تعكس تأثراً كبيراً بالتجارب الروسية الحديثة التي ظهرت في تلك الحقبة. بين إرادة الدخول في معترك الفن والقدرة على هذا الدخول، بين هوية الذات وهوية الآخر، بين التوق إلى الاستقلال الوطني وحلم الاندماج بالعالم المعاصر، اختبر الفنّانون الأرمن طرقاً جديدة تخرج عن الكلاسيكية وتحمل أسئلة العصر وروحه. تعكس هذه الطرق التشكيلية المتعددة رغبة عميقة في تأسيس لوحة أرمنية جديدة أصيلة وابتكارها. في الوطن كما في المهجر، اعتنق الفنّان الأرمني الحداثة وبحث عن أرض وهوية. سعى عدد كبير من الرسّامين إلى استلهام فنون الماضي وتعزيز حضورها، وتتواصل هذه المحاولات في زمننا بعدما أعطت أجمل ثمارها في النصف الثاني من القرن العشرين.

من الكلاسيكة إلى الحداثة

يختصر معرض “ولادة أمة من جديد” هذه المسيرة من خلال مجموعة فنية مختارة تتضمن أكثر من مئة لوحة وعشرين منحوتة. يجمع هذا المعرض بين فنّانين من مختلف الأجيال، منهم مَن حاز شهرة واسعة في روسيا، ومنهم مَن برز في أميركا وأوروبا، ومنهم مَن نعرفهم كفنانين لبنانيين من أصول ارمنية. كما أشرنا، يمثل إيڤان أيڤازوڤسكي انتقال الفن الأرمني من الكتاب المخطوط إلى لوحة الحامل بمفهومها الأوروبي الأكاديمي في القرن التاسع عشر. ولد الفنان في العام 1817 في القرم حيث توفى في العام 1900، تاركاً مجموعة كبيرة من الأعمال تنصهر في مناخ “المدرسة البحرية” التي طبعت المرحلتين الرومنطيقية والواقعية في الفن الروسي، ونجد في هذه المجموعة لوحات تحمل طابعا “قومياً” أرمنياً واضحاً يعكس هويّة صاحبها. تمثّل تجربة هوفسب بوشمان وجهاً آخر من وجوه هذه الكلاسيكية المتمسكة بناموس الفن الأكاديمي، وهو فنان “أميركي” ولد في العام 1877 في آسيا الصغرى، في الجهة الغربية من أرمينيا التاريخية، تلقّى أصول الرسم في معهد اسطنبول، وانتقل مع عائلته في 1896 إلى شيكاغو حيث تعمّق في دراسة الحضارة الصينية، واشتهر برسم الطبيعة الصامتة التي تحوي آثاراً آسيوية، وذلك حتى وفاته في العام 1966. في المقابل، يمثّل إرفاند كوشار تحوّل الذائقة الفنية في مطلع القرن العشرين، والانتقال من المدرسة الأكاديمية إلى التجريبية الحديثة. ولد كوشار في العام 1899 في مدينة تيفليس، وكانت يومها عاصمة لإحدى محافظات الأمبراطورية الروسية في القوقاز، وتوفى في العام 1979 في يريفان، عاصمة أرمينيا وأكبر مدنها. درس في موسكو، وواصل تمرّسه في محترفات باريس حيث عاصر كبار روّاد الحداثة وسلك دربهم، وعاد ليستقر في يريفان في العام 1937. حاربته السلطة الشيوعية الملتزمة الواقعية الاشتراكية، غير أنه ثابر في الدفاع عن الحداثة، وترك نتاجاً ضخماً يشهد لتعددية مدهشة في المسارات والأساليب.
مع أشود زوريان وهاروتيون غالنتز نتعرف إلى تحولات هذه الحداثة الأرمنية في النصف الأول من القرن العشرين. لمع زوريان في مصر حيث شارك في بناء الحركة التشكيلية الحديثة حتى وفاته في سبعينات القرن الماضي، وبرز غالنتز في أرمينيا بعد مسيرة متعددة المحطات انتقل فيها من سبسطية في آسيا الصغرى، إلى حلب، ثم إلى طرابلس وبيروت. من النصف الثاني من القرن العشرين، نجد آرا شيراز، النحات الذي اشتهر بأنصابه الميدانية الكبيرة في أرمينيا، ثم يوري يوروز الذي نشأ في أرمينيا السوفياتية، وعاش مرحلة الانتقال إلى الاستقرار، والتزم خطاً “أرمنياً” جعل منه واحداً من أشهر الأسماء الأرمنية المحلية. عرفه الجمهور اللبناني من خلال معرض أقيم في قاعة غاليري “سفينة نوح” في العام 2012، وهو اليوم “نجم” معرض “ولادة أمة من جديد”، ولوحته تزيّن ملصق هذا المعرض وبطاقة الدعوة الخاصة به.

أرمينيا اللبنانية

تكمل الأسماء الأرمنية اللبنانية هذه الخريطة التشكيلية، وتمثّل بحسب تسلسلها الزمني ثلاثة أجيال من الفنانين. من الجيل الأول، جان غوفديريان الشهير باسم غوفدير، بول غيراغوسيان، وزافين حاديشيان الشهير باسم زافين. من الجيل الثاني، كريكور نوريكيان الذي تتلمذ على يد غوفدير، ثم أسادور بزدكيان الذي يوقّع منذ عقود باسم اسادور، ثم سيرون يرتزيان، الفنانة الأرمنية الأميركية التي نشأت في لبنان، ودرست في كلية بيروت الجامعية (الجامعة اللبنانية الأميركية)، قبل أن تنتقل إلى كاليفورنيا حيث تابعت دراستها. من الجيل الثالث، النحات رافي توكتليان الذي ولد في بيروت في العام 1957، ونشأ وسط عائلة من الفنانين، وسمع من جده حكايات درب الآلام التي سار فيها في العام 1915، وقادته إلى لبنان. لا تقف المسيرة هنا. تشّكل تجربة رافي يداليان آخر حلقات هذه السلسلة، وهو من مواليد 1973، نشأ في بيروت، ودرس في الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة (ألبا)، أقام معرضه الفردي الأول في العام 1992، وواصل عمله، باحثاً عن لغة خاصة تجمع بين ذاكرته الأرمنية وتجريبية معاصرة تتجذر في حداثة القرن العشرين.

محمود الزيباوي

النهار

 

Share This