القضية الأرمنية قيد المراجعة

نظمت الجاليات الأرمنية في بلاد الشتات الأرمني نشاطات متنوعة بمناسبة مرور قرن على ما وصف «باعمال ابادة جماعية نظمها الاتراك العثمانيون ضد الأرمن». وكررت المنظمات الأرمنية في هذه النشاطات الانتقادات التاريخية التي توجهها عادة الى الاترااك ومطالباتها حكومات العالم بالتضامن مع الأرمن واصدار اعلانات تدين فيها “اعمال الابادة” المنسوبة الى الاتراك. ومن الملاحظ ان هذه النشاطات آخذة في الازدياد جنبا الى جنب مع الصعود التركي على النطاقين الاقليمي والدولي. ولا غرابة في ذلك, اذ ان النخبة التركية الحاكمة تأمل في تبوؤ تركيا مكانة عالمية تضاهي تلك التي وصلت اليها خلال القرن السادس عشر. فقبل اردوغان المتهم بالطموح الجامح، كان رئيس الجمهورية الاسبق تورغوت اوزال عرضة لنفس الاتهامات والانتقادات, خاصة عندما قال ان لتركيا مصالح استراتيجية تمتد من الاناضول الى اسوار الصين.

في خضم هذه التطورات، تزداد اهمية «القضية الارمنية»، للأسباب الثلاثة التالية:

الأول، يتصل بالأوضاع السياسية العامة في المنطقة العربية، وخاصة علاقات المجموعة العربية بدول الجوار الاقليمي. إن مسألة الأرمن تستخدم اليوم كوسيلة من وسائل الضغط في الصراعات شرق الأوسطية التي تشمل اطرافا عربية وتركية وايرانية. كما تستخدم ايضا كوسيلة من وسائل الضغط بين اطراف دولية تشمل روسيا والولايات المتحدة ودول الاتحاد الاوروبي. ورغم ان هذا الوضع قد يخدم القضية الأرمنية وانصارها لأنه يضعها في واجهة الاحداث الدولية والاقليمية, الا ان هذا الوضع له مضاره، من وجهة نظر أرمنية بحتة. فانصار هذه القضية يعرفون ان الذين يستخدمون قضية من نوع القضية الأرمنية مستعدون لتبديل مواقفهم اذا ما رضخ الاتراك للضغوط ولبوا ما تطلبه الجهات الدولية المعنية منهم. اذا وافق الاتراك، مثلا، على التوقف عن دعم بعض الجماعات الاسلامية في المنطقة، او على تخفيض حجم الدعم مقابل تراجع مماثل من الجهات الضاغطة عن احتضان «القضية الارمنية»، فان الاهتمام الدولي بهذه القضية يتراجع على نحو ملموس. بتعبير آخر ان هذا النوع من التبني والدعم لا تسيره الرغبة في مساندة الأرمن بل في اضعاف الاتراك.

والثاني. هو «القضية الأرمنية» في حد ذاتها. والتوقف عند هذه القضية لا يعني الموافقة على نظرة الأرمن او الاتراك الى هذه القضية، ولكنه ينطلق من التأكيد على اهمية اتخاذ موقف سليم من قضية ذات ابعاد انسانية وتاريخية. تتمحور هذه القضية حول ما عاناه الأرمن ورعايا الامبراطورية العثمانية من المصائب الانسانية الكبرى التي رافقت الحرب العالمية الاولى. وتبرز هنا وجهتا نظر متناقضتان, فالأرمن يحملون الاتراك مسؤولية ابادة او اختفاء ما يقارب المليون ونصف ارمني وارمنية كانوا يقطنون الأراضي العثمانية. وهم يرون ان هؤلاء لم يكونوا ضحايا للحرب الكارثية ولم يكونوا جنودا محاربين في الجيوش التي ارتكبت مجازر مرعبة خصوصا في حرب عبثية ذهبت بالملايين من المجندين الاوروبيين، بل كانوا مواطنين مسالمين من رعايا الامبراطورية العثمانية.

تميل بعض المراجع العربية الى تصديق الرواية الأرمنية. وفي هذا السياق يشير د. محمد رفعت الأمام، الاستاذ المساعد في التاريخ الحديث في جامعة الاسكندرية في ورقة قدمها الى مؤتمر حول الابادة الأرمنية والقانون الدولي انعقد في بيروت عام 2009 الى شهادة ادلى بها ضابط عربي في الجيش العثماني جاء فيها «ان ما قرأتموه وسمعتموه عن مصائب الارمن ليس الا نقطة من بحر، وان الاتحاديين فتكوا بالمتعلمين والمتنورين الأرمن».

وليس نتيجة سياسة ابادة شاملة و متعمدة نفذتها الحكومة التركية، كما يقول الدكتور سادي سايسي، الباحث الرئيسي في مؤسسة البحوث الأرمنية في مركز الدراسات الاستراتيجية الأوراسية. ويعتقد الاتراك، كما يتردد في الكثير من الروايات الرسمية حول المسألة الأرمنية ان بعض الأرمن اختار، وبتحريض من الروس حمل السلاح ضد الدولة العثمانية اما سعيا وراء مكاسب شخصية وفئوية، واما توخيا للانفصال عن الدول العثمانية. فضلا عن ذلك، يقول الاتراك ان تركيا توصلت اكثر من مرة الى اتفاق مع الحكومة الأرمنية او مع الحكومة السوفييتية بالنيابة عن ارمينيا على تناسي الماضي. ولا ينفي الأتراك ما يكرره الأرمن حول ما لحق بهم على يد العثمانيين من مصاعب نفيا باتا, ولكنهم يعتبرون ان جزءا كبيرا من هذه المصاعب كان بسبب الحرب نفسها.

الثالث، هو الثغرات في النظريات القومية التي كانت رائجة في اوروبا خلال المرحلة التي سبقت ورافقت الحرب العالمية الأولى والتي كان لها اثر على النخبة التركية الحاكمة. كان الجناح الحاكم من هذه النخبة المتمثل بحزب الاتحاد والترقي يتبنى النظرية القومية التي تقول بأنه لكل قومية دولة, وفي كل دولة قومية واحدة فقط. في ظل هذه النظرية مارست القومية الغالبة عملية» القومنة «من فوق، اي عبر الدولة التي استولت عليها جماعات كانت تنتمي الى قومية معينة. واستخدمت هذه الجماعات التربية والتعليم من اجل نشر لغة واحدة في المجتمعات المعنية. فعلى سبيل المثال كان نصف الايطاليين ونصف الفرنسيين يتحدثون بلغات مختلفة غير الايطالية والفرنسية. وحتى يصهر اليعاقبة، وهم كانوا من القوميين الفرنسيين المتعصبين، بقية الفرنسيين من فوق، فقد مارسوا الاستبداد والارهاب. وكان كافور موحد ايطاليا يتصور ان جنوب ايطاليا ليس ايطاليا ولم يكن مهتما بضمه الى مناطق الوسط والشمال وسكان صقلية هم من العرب والناطقين باللغة العربية، وهذا ما جعل دخول الجيوش الموالية للقوميين الايطاليين الجنوب اقرب الى الفتح منه الى التوحيد.

لقد كانت النظريات القومية التي تبناها الليبراليون الاتراك ومعهم العرب والأرمن والألبان والشعوب الأخرى في الامبراطورية العثمانية اقرب الى الفكر السياسي الصحيح, اذ طالبوا بالتعددية داخل الدولة الواحدة العثمانية. ودار الصراع بين الاتحاديين الاتراك الذين كانوا يدعون الى دولة طورانية «تصهر» كافة القوميات الأخرى، وبين العثمانيين الذين كانوا يضمون الأرمن والعرب والاتراك ايضا. هنا كانت المشكلة الحقيقية التي تتكرر باشكال مختلفة في القرن الواحد والعشرين. ولقد وضع احد الباحثين يده على هذه المشكلة حينما توصل الى ان بين دول العالم اليوم التي تقارب المئتين، هناك عشرين دولة فقط تضم قومية واحدة اما الدول الباقية فكلها دول متعددة القوميات. ان اثارة القضية الأرمنية تجدد النقاش حول التعددية القومية. اذا لم تحقق الحملة التي يقودها الأرمن ضد ارتكابات الاتحاديين الطورانيين الا تجديد هذا النقاش، فانها تكون قد حققت خدمة جلى للانسانية.

رغيد الصلح

الخليج” الاماراتية 

Share This