قصة “أسدغيك وهاروت ساراجيان”.. من كتاب “شهادة مدى الحياة” للكاتب كيفورك أبيليان

الأرمنية المعروفة باسم “أسدغيك كارجيكيان” لم تكن لا “أسدغيك” ولا “كارجيكيان”.

حتى هي لم تكن تعرف من أين أتت أو من هم والداها. كانت تتذكر فقط أن “العم أدور” أتى بها الى هناك الى كسب مع ثلاثين يتيماً وفتيات صغيرات تبنتها عائلات محلية. وكانت هي من نصيب عائلة “أبراهام كارجيكيان”، وتم ذلك من تدبير الخال “كارا دايي أوفسيا”. أوه، ذلك الرجل هو أحد أبطال جبهة “أرارا” (في فلسطين. المترجمة) ترك بيته وعائلته ومضى في جمع الأيتام. فكان يتابع كل يتيم عند العائلة التي تبنته لكي يحصل على أفضل رعاية، أحياناً كان يمكث تحت النافذة ليستمع الى الأحاديث، والويل لتلك العائلة التي تسيء معاملة الولد الذي تبنته.

قام “ابراهام كارجيكيان” بتبني “أسدغيك” حيث كانت عائلة “كارجيكيان” قد فقدت بناتها الثلاث أيام الترحيل، واستخبرت أن إحدى بناتها توفيت وفقدت الأخريان في الصحراء، وقد قام ابنهم “سديبان” بالبحث عنهن حيث عمل في بيع الخردة حاملاً على كتفه أقمشة ثياب متنوعة وقام يجول من قرية الى أخرى ومن مدينة الى أخرى، ويسأل الناس بشكل مباشر وغير مباشر. لم يجد أختيه إلا أنه وجد آخرين فقدوا أو على الأقل عثر على آثار لهم.

في ميتم حلب، أعطيت الفتاة التي تبناها “أبراهام” اسم “أسدغيك”، وأعطيت كنيتها في كسب عندما كانت من نصيب عائلة “أبراهام كارجيك”. وهكذا سجلت في دائرة النفوس الحكومية على أنها “أسدغيك أبراهام كارجيكيان”، لكن هويتها الحقيقية بقيت في السر لوقت طويل. وصارت طالبة مجتهدة في مدرسة اللاتين، وكان رفاقها في المدرسة يسخرون من أنفها المجروح والذي خيط بشكل وضيع مما يجعل وجهها الجميل قبيحاً، لكن قبح أنفها سيكون دليلاً لا يُدحض على هويتها الحقيقية.

خرجت “أسدغيك” من بيت والدها “أبراهيام كارجيكيان” وتزوجت من “جرجي الفاري”، رغم بخل “أبراهام” المعروف كان يتصرف بسخاء تجاه ابنته “أسدغيك” التي كان يحبها كثيراً واشترى لها جهازاً وأعطاها بضعة ليرات. ففي البيت كان يستأمن “أسدغيك” على ماله.

كان “جورج الفاري” قد وصل الى كسب كمهاجر وشرب من مرارة سنين التهجير، فهناك في العش الأرمني كان يعمل طاهياً في دير اللاتين، وبعد أن تزوج “أسدغيك” بعدة سنوات انتقل الى بيروت. خلال أيام الحرب العالمية الثانية، أثار تفريغ الاسكندرونة خيبة أمل كبيرة بين الناس، فالكثيرون تركوا كسب وتوجهوا الى بيروت واستقروا فيها. وكذلك وصل “جورج” و”أسدغيك” الى بيروت مع ابنهما الوحيد “مراد” الى بيروت ليبدأوا حياة جديدة.

انتقل “سديبان كارجيكيان” الى حمص لكي يؤمن لقمة عيشه، وكان هناك يجول في القرى القريبة والبعيدة على أمل أن يجد أختيه الحقيقيتين. في نهاية الحرب العالمية الثانية عاش الأرمن في سوريا ولبنان بلبلة من جديد، فقد دعا الجد ستالين بابتسامته الأبوية والطيبة الأرمن المهاجرين الى أرمينيا، فباتت صوره في كل مكان، والأغاني المهداة لشخصه على شفاه الكثيرين، أوه، كم كان يحصل ذلك الوحش على التمجيد. انقسم الأرمن على جبهتين: الماضون الى أرمينيا والباقون. وقد كانت العظات الحانقة وحتى الضرب تثقل الحالة الى حد كبير. وكانت حركة الهجرة الى أرمينيا تخلق تنافراً حتى في العائلة الواحدة فينكر الأخوة والأخوات بعضهم، حتى الآباء ينكرون أولادهم. كان الجو لا يحتمل.

* * *

وفي أحد الأيام، حمل “سديبان” كيس الثياب على ظهره وصار ينادي في شوارع حمص. يومها كان الحظ حليفه، فقد استطاع أن يبيع الكثير. كانت أخته “أسدغيك” عند عائلتها، وقد تدبر “سديبان” الأمر على أن تأتي أخته من بيروت البعيدة لتزورهم، وكأن مجيء “أسدغيك” جلب له الحظ، فكان وضع عمله حسناً جداً في تلك الأيام.

ظهر بائع خردة آخر أمام “سديبان” يبيع ثياباً بالية، فهذا الرجل يحمل شيئاً غريباً على وجهه، ذقنه موشوم باللون الأزرق. يبدو أنه بدوي. فتبادلا التحية وتوقفا للحظة ليستريحا ويتعرفا على بعض.

كان “سديبان” يحدق بوجه الرجل ويجد أنه منجذب تجاهه، أين رأى هذا الرجل يا ترى؟ من المؤكد أنه رآه في مكان ما ولكن أين. ربما لم يره أبداً لكن وجهه أليف جداً، ويبدو أن هذا الرجل بوجهه الموشوم يشبه أخته “أسدغيك” كثيراً.

يا خال، كيف تعيش؟

هل أنت أرمني؟

نعم، أنا من كسب واسمي “سديبان كارجيكيان”. فاندهش “سديبان” الأرمني من سؤال هذا الرجل باللغة الأرمنية.

أنا أيضاً أرمني، اسمي “أرتين ، هاروتيون”.

أنت؟

نعم، نعم، أنا أيضاً أرمني، لا تنظر الى وجهي، فبعد التهجير وبعد أن نجوت من القتل مرات كثيرة، استطعت أن أنجو بنفسي وألتجئ عند بدوي.

الله يعطيك العمر الطويل.

أشكرك، يا خيّ، وقد نسيت لغتي، ليس من السهل التحدث باللغة الأرمنية بعد أن عشت ثلاثين سنة بين البدو.

هل فقدت أماً أو أباً أو أختاً أو أخاً أثناء التهجير.

طبعاً، فقدتهم جميعاً، فليجازي الشيطان الشرير الأتراك، ويجعلهم يستحقون نار جهنم.

يا “أرتين”.

نادني باسم “هاروتيون”، “هاروتيون سراجيان”، كنت في الخامسة عشر من عمري عندما سلكنا طريق التهجير القسري ومضينا الى سفر برلك. فوقعت الدنيا والجهنم فوق رأسنا، وقـُتلت الأم والأب والأخت والأخ.

أعلم، أعلم، لقد فقدت عائلتنا ثلاثة بنات رائعات، الأولى ماتت وتأكدنا من ذلك، أما الأخريان فها أنا أبحث عنهما منذ ثلاثين عاماً.

الله، الله، أظن أن كل أهلي قتلوا وذبحوا، وبقيت أنا فقط على قيد الحياة.

يا “أرتين”، “هاروت”، أظن أنك لست الوحيد الباقي حياً من عائلتك.

إيه، وماذا تعني؟

هل كانت لديك أخت تدعى “أسدغيك”؟

ماذا قلت، “أسدغـ..” لا، لا، ليس عندي أخت بهذا الاسم.

أعتقد وحتى أني متأكد أنه لديك أخت وهي أختي بالتبني. وهي الآن هنا وتبقى في بيتنا مدة اسبوعين، ستعود الى بيروت الاسبوع القادم.

-وما الذي يجعلك تقول ذلك، أنا مقتنع أنه لم يبق حي من عائلتنا.

-وأنا مقتنع لا بل متأكد أن أختك هي أختي .

-من أين ظهرت لي يا “سديبان”، وقلبّت مواجعي. فليأخذ الشيطان ..

-يا “هاروت”، الأمر عادي، تأتي الى بيتنا وتتأكد بنفسك، إنه ليس صعباً.

-آتي ولكن..

-انظر، أقوم أنا بتهيئة أختي اليوم، فيجب أن أقنعها وغداً صباحاً آتي وآخذك لبيتنا.

-أنا متأكد مثل نور القمر ونور الشمس أن “أسدغيك” هي أختك الحقيقية.

-ولكن أنا لم يكن لدي أخت بهذا الاسم.

-أنا صرت نوعاً ما خبيراً في أمور المفقودين خلال التهجير أثناء بحثي عن أختَي لسنوات طويلة. إذاً غداً انتظرني هنا في نفس الساعة.

-يا خالو، من أي قرية أو مدينة هي أختك؟

-هي لا تذكر فقد كان عمرها ثلاث أو أربع سنوات.

-أنا متأكد وسآتي. وهل يوجد أية علامة على وجه تلك الحرمة ؟

-لا شيء يذكر، لكن أنفها مجروح قليلاً.

-إن كانت كذلك، فتلك الفتاة هي أختي. فأنا دفعتها من أعلى الدرج ووقعت وضربت أنفها بطرف صفيحة من التنك فيها ورد. أخذناها الى الحكيم ولم يكن ماهراً فلم يخيط الجرح بشكل متقن.

-أنت على حق، فوجهها مشوه قليلاً ولكن رغم ذلك أختك فتاة جميلة. غداً تأتي و..

-يا الله، .. وكانت شفتا الرجل ترتعشان.

-يجب أن أهيئها، عليك أنت أن تكون صبوراً.

* * *

لم يعد “سديبان” راغباً في متابعة عمله، فعاد الى البيت. ووقف “أرتين” أو “هاروت” في مكانه ونظر إليه وهو يبتعد. ما هذه الصدفة يا رب.

في البيت، كان على “سديبان” أن يشرح لزوجته وابنته عن سبب عودته باكراً، فالحصول على لقمة العيش ليس سهلاً. ودون أن ينتظر طويلاً شرح أنه التقى ببدوي من مدينة “إيفيريك” وأنه الشقيق الحقيقي لأخته “أسدغيك” دون أدنى شك.

-ماذا تقول يا أخي “سديبان”، فأنا حتى الآن لم أسمع باسم “إيفيريك”، أنا ليس لدي أخوة سواك أنت وأخوتي الآخرين. ومن أين لي بأخ جديد، وفوق كل شيء بدوي. لا أبداً.

شرح لها “سديبان” أن الرجل يصف كيف جرح أنف “أسدغيك” وأنه هو السبب في ذلك.

-لا أريده أن يأتي، لا أريد أن أحيي أوجاعي، أنا ابنة “أبراهام من عائلة كارجيك”، لا غير.

وأخيراً استطاع “سديبان” وزوجته وبعد عناء وصبر أن يقنعا “أسدغيك” كي يأتي “هاروت” ليلتقيا، فلن تخسر شيئاً، فليأتِ.

أعطت “أسدغيك” موافقتها بعد تردد طويل، فهي حالياً مقتنعة وما الداعي لتقليب صفحات الماضي، وماذا لو كان “هاروت” خداعاً.

في هذه الليلة لم يستطع لا “أسدغيك” ولا “سديبان” ولا “هاروت” في بيته أن يغمضوا جفناً. وكم كانت تلك الليلة طويلة.

وفي الصباح التالي، وفي الساعة المتفق عليها، ذهب “سديبان” الى مكان الموعد. وكانت أعقاب السكائر الملقاة على الأرض تدل على أن “هاروت” وصل باكراً، وما إن رأى “سديبان” سأله بصوت عال:

-لماذا تأخرت يا خالو “ستيبان” ؟ أنا لا ألبس ساعة لكن يبدو أنك تأخرت.

-لم أتأخر، فلنذهب.

-لنذهب. أين بيتكم؟

وما إن دخل “سديبان” الى البيت المتواضع احمرّ وجه “هاروت”، فها هو يتذكر تلك الامرأة جيداً، إنها أخته. الله يشهد، أنه متأكد بأن الندبة على أنفها هي من أعمال “إبداعاته”. أخذ ذلك البدوي الضخم “أسدغيك” بين ذراعيه وبكى واعتذر من أخته.

وبعد تردد، رضيت “أسدغيك” أن يضمها ذلك الرجل. هي لا تذكر شيئاً ولكن شيئاً ما في دم ذلك الرجل كان يبدو حميماً.

كان “سديبان” مسروراً بما عثر وأطلق العنان لدموعه، وزوجته أيضاً كانت تبكي. وطال العناق، وروى “هاروت” بعض الأمور عن مدينتهم الأصلية وعائلته. ولكن وأسفاه، فهو لا يتذكر اسم أخته، أهي “تشخون” أم “تاشخون” أم “أشخين”، لكن بالتأكيد ليست “أسدغيك”.

أخذ “هاروت” معه “أسدغيك” و”سديبان” وعائلته، فيجب أن تتعرف زوجته “ماري” وأولادها على أخته “أسدغيك”.

* * *

روى “هاروت” كل ما مرّ عليه من عذاب وشقاء مرير، وأنه نجى من المجزرة والمجاعة والأمراض. وقد أمضى سنوات طويلة في قرية السلمية قرب حمص، وقد أضحت هذه القرية مكاناً استقر فيه كثير من الأرمن نجوا بفضل جهود رجل أرمني يدعى “هوفسيب كارابيديان” الذي جاء الى حلب من أطراف أنقرا. كان رجلاً عملياً ذا نفوذ، اشترى عربة بحصانين أبيضي اللون وأعطى العربة والحصانين رشوة للوالي، واستطاع بذلك أن ينقذ مئة وستين عائلة أرمنية من طريق المنفى بأن يحيّد طريقهم نحو الجنوب. وفي القافلة كان يوجد راهبان ورئيس أساقفة فقدوا أي أمل للنجاة، فقد أمروا بتجهيز أنفسهم للتحرك باتجاه دير الزور، فلعب تدخّل “هوفسيب” دور العناية الربانية وتحركت القافلة نحو حمص بدلاً من دير الزور. وازداد عدد الأرمن في السلمية يوماً بعد يوم، واستقروا فيها وصار لهم بيوتهم وعائلاتهم.

صار “هوفسيب” وجهاً معروفاً، ليس فقط في قرية السلمية، بل في المنطقة بأكملها وكلمته مسموعة، وصار على الفور صاحب قرية في المنطقة سمّاها “لاليه”. وبعد، سمع أن فتاة أرمنية تعيش عند البدو وسيزوجونها قسراً لشاب من عشيرة بدوية فخطط “هوفسيب” ونجح في إبعاد الفتاة التي وجدت في “إزميت” على ضفة البحر الأسود ووصلت الى عشيرة في مكان قرب حمص وقد وشمت يديها ووجهها. وفشلت ترتيبات البدو من أجل العرس عندما هرّب “هوفسيب” “ماري الإزميتية”.

تزوج هو من تلك الأرمنية ولكنه دفع ثمن ذلك، فلم يسامحه البدو وطوقوا البيت المؤلف من طابقين وأطلقوا عليه وابلاً من الرصاص. سجل “هوفسيب” هوية هؤلاء على ورقة ثم أنزل “ماري” من الطابق الثاني وقفز هو الى الأسفل، نجى الإثنان من الموت المحتم، ولكن بقي “هوفسيب” أعرج الى الأبد.

استقر “هوفسيب” و”ماري” في قرية تل أغر بقرب السلمية، وأنجبوا ثلاثة أولاد “هاكوب” و”فيرجين” وآنوش”. توفي “هوفسيب” باكراً وترك خلفه زوجته وثلاث أطفال.

جاء “هاروت ساراجيان” الذي كان يعيش عند عشيرة المسالخ واستقر في تل أغر وتزوج من “ماري” أرملة “هوفسيب”، رغم أن “ماري” كانت تكبره سناً وهي أم لثلاثة أيتام، فضّل “هاروت” أن يتزوجها لينقذها من ترّملها. أنجب “هاروت” و”ماري” أولاداً وعاش الأولاد في عائلة كبيرة دون تمييز، فلم يعش أيتام “هوفسيب” حالة اليتم بفضل شخصية “هاروتيون” الطيبة.

افتتح “هاروت” محلاً للمشروبات الروحية مع أرمني يدعى “الحج بانوس” وأمن حياة رغيدة لعائلته. وبعد ذلك سمع بأن الأرمن يعادون الى وطنهم الى “أرمنستان”، وليست لديه فكرة عن ذلك الوطن واعتقد أنه سيعاد الى مدينته “إيفيريك” لربما يجد أقرباءه هناك، لذلك كان يقسم باسم ستالين بلا هوان. انتقل الى حمص ليلتحق بالمهاجرين الى أرمينيا وتأخرت القافلة، وكان ينزعج لأنه عاطل عن العمل فتدبر أمره ببعض الأغراض ومضى يبيعها خردة.

إن أمله في المهاجرة الى أرمينيا جعله ينهمك في نزع الوشم من على يديه ووجهه، ولكن اللون الأزرق، رمز التهجير والفقدان، كان يأبى إلا أن يبقى ملتصقاً مع كيانه.

تضررت لغته أيضاً في هذه المنطقة، فقد كان يتحدث اللغة العربية بطلاقة، ولكن اللغة الأرمنية تحولت الى لغة ثقيلة ومرّقعة.

* * *

في تلك الليلة عثر “هاروت” و”أسدغيك” على بعضهما بعضاً، وأكلا وشربا ما وجداه، فقد حصل “سديبان” على القليل من الزبيب والجوز والتين المجفف وعدد من الرمان والسفرجل، حتى أنهم أرسلوا له حفنة من التبغ الفاخر. وبعد أن صار “أخ سديبان” و”هاروت” أخين لـ”أسدغيك” شربا نخب كل الأقارب البعيدين والقريبين، المفقودين والموجودين. وبكى “هاروت” و”أسدغيك” لفقدان عائلتهما.

سأل “هاروت”: – يا “أسدغي”، هل تذكرين شيئاً عن بيتنا القديم وأهلنا.

صمتت “أسدغيك” للحظة وأغمضت عينيها السوداوين الجميلتين لتركز، وبعد قليل تذكرت رجلاً ربما كان والدهما كان يعلق شيئاً ما كل يوم.

إيه والله، أنت محقة أختو، والدنا “بولوص” كان يصنع البسطرمة والسجق، وفي كل يوم غير ماطر كان يعلق تلك المأكولات الشهية على حبل. وكان الناس يأتون ليشتروها قبل أن تجف، ويقال إن البسطرمة والسجق التي يصنعها كانت معروفة في مدن بعيدة.

وعندما ابتعدنا عن بيتنا آخر مرة أظن أن أمي صبت الماء على الأرض..

-يا أختو، “أسدغي”، أنت محقة، والدتنا سقت الأزهار، يبدو أن المسكينة كانت تعتقد بأننا سنعود على الفور.

كانوا يحملونني، وكنت دائماً جائعاً وأبكي.. أظن أن الجميع كان يبكي، وثم فقدت والدي والآخرين، وبقيت وحدي، وثم أخذني شخص ومضى، وأذكر أنهم أخذوني الى مكان حيث كنا كثراً، وكنا نبكي جميعاً، بعد ذلك أخذونا الى حلب، ومنها الى كسب ضمن مجموعات، كثيرون بقيوا هناك وآخرون أخذوا الى السويدية..

الله يجازي الأتراك، يا أختو “أسدغي”، ربما كان اسمك “تاشخون” أو “تيغتس” .. لا أذكر، لا أذكر..

-لا يهم، يا أخي، أنا أحب اسمي هذا، المهم أننا عثرنا على بعض.

-الحمد لله، أين أمك يا “أسدغي”.

-في بيروت، نحن نعيش هناك، نحن أيضاً سنغادر الى الوطن.

-أنتم أيضاً ستسافرون الى “إيفيريك”. لنذهب سوياً، لكني سأذبح خروفاً على شرف أختي، وسندعي صهري.

-المجيء من بيروت الى هنا ليس بالأمر السهل يا “هاروت”، لا عليك، تذبح الخروف لاحقاً.

-يا “أسدغي”، نحن قطعنا مسافات طويلة وقمنا برحلات منهكة ووصلنا الى هنا، سنحضر صهرنا الى هنا، وكفى، انتهى الأمر.

تدّخل “سديبان” وقال: – أنا سوف أرسل له برقية لكي يأتي.

-يا أخي “سديبان”، الله يحميك، حسناً تفعل، أشكرك، سأدفع كل التكاليف وليحضر صهري “الخص نص”.

وبعد يومين أو ثلاث، وصل “جورج” زوج “أسدغيك”، فقام “هاروت” بذبح كبش سمين، فأكلوا وشربوا وبكوا وفرحوا لهذا اللقاء بعد فراق دام إثنين وثلاثين عاماً. كانت الأخت والأخ يروون عذاباتهم وكانت القصص قد خلقت من حياتهم المؤلمة. كم كانت المرارة ساكنة فيهم، أما الآن، فهما يحمدان الرب بأنهما وجدا بعضهما بعضاً.

كان “جورج” و”سديبان” يحبان الأكل والشرب، وقام “هاروت” بتحضير المنسف من لحم الخروف والرز بنفسه على اعتبار أنه تربى عند البدو. وكانت الأكلة التي صنعها بالسمن شهية وطيبة المذاق، فأكلوا وشربوا وبكوا وضحكوا.

كان الكبش الثاني يشوى على النار، لم يأكل الجميع تقريباً عدا “هاروت” لحماً بهذا القدر في يومين أو ثلاثة، فالكبوش في حمص طيبة المذاق.

وبعد عدة أيام، عاد “جورج” مع زوجته وولده الى بيروت، وقرر “هاروت” أن ينضم إليهم، فهذه أول مرة يرى فيها بيروت وقد سمع الكثير عن شهرتها. ذهب ليشتري الثياب البالية ليبيعها فهو يعرف تاجراً يعتبر من أكبر تجار المدينة.

بعد أن تعرف على بيروت قليلاً ذهب “هاروت” و”جورج” الى التاجر المشهور، وفي أثناء ذلك كانت “أسدغيك” و”جورج” يحاولان وبقدر ما استطاعا أن يعّرفا أخاهم الجديد “هاروت” على أذواق بعض المأكولات اللبنانية. وكان “جورج” وهو العشّي المعلم ينجح في أن يسّيل لعاب “هاروتيون” ويجعله يشتهي الطعام طيب المذاق الذي يصنعه.

وبعد وصولهم الى بيروت بيومين أو ثلاثة أخذ “جورج” صهره “هاورت” الى متجر التاجر المعروف، وكانت حزم الملابس الضخمة تدهش “هاروت” الذي لفت نظر التاجر بحركاته ولباسه البدوي، وقام الأخير بغمز “جورج” وقال:

– يا “جورج”، هذا الرجل دسم أليس كذلك، حسناً فعلت بأن أحضرته الى هنا، فالذهب الذي يملكه البدو أمثاله في زنارهم يملأ سطولاً بحالها، سطولاً. الآن سأتصرف بحيث ترقص ليرات الرجل أمامي، يا الله، سأحلبه جيداً وأعطيك حصتك، لا تخف..

كان “جورج” قلقاً وأراد أن يفهم التاجر أمراً ما بإشارات عينيه وحاجبه، أما التاجر فأقسم أن يسّيل ليرات البدوي كالعرق المنصب في الحمام.

سعل “جورج” ليلفت نظر التاجر، وقال: – يا صديقي، هذا الرجل ليس بدوياً رغم لباسه.

-وماذا عن الوشم على يديه ووجهه.

-هذا الرجل ليس بدوياً، لقد التجأ عند البدو لكي ينجو أثناء التهجير.

-هذا مثير، أيكون الرجل أرمنياً.

-وهو نسيبي أيضاً، إنه الشقيق الحقيقي لزوجتي “أسدغيك”.

-سبحان الله..

-والله العظيم، فالرجل يستعد للهجرة الى أرمينيا.

-وهل أرمينيا بحاجة لأرمن بدويين مثله؟

-عثرنا عليه حديثاً في حمص.

-إيه، وهل يذكر شيئاً عن أصله ومدينته؟

يتذكر الشيء الكثير، رغم أنه نسي الكثير أيضاً، لقد روى الشيء الكثير عن مدينتهم “إيفيريك”.

ماذا تقول، يعني أن الرجل من منطقتنا “إيفيريك” ؟

يا معلم، يا سيدنا أنا من “إيفيريك”.

يا إلهي، ابن من أنت؟ من أي عائلة أنت؟

سيدنا، أنا “ساراجيان”، بيت “ساراجيان”..

في أثناء ذلك، كان التاجر يجفف العرق على رقبته الغليظة وجبهته، ويجفف.. اكتشف أن الرجل الذي كان سيسلبه هو ابن بلده.

-أنت.. أنت من بيت “ساراجيان” ؟

-والله العظيم أنا “سراجيان” ..

-يا “جورج”، أنا سأجّن، يا رجل، ماذا كان يعمل والدك، هل تذكر؟

-معلوم.. والدي كان يصنع البسطرمة والسجق.

-يا ولد، أأنت ابن “بوغوص البسطرمجي” ؟

-أكيد، البسطرمة والسجق التي يصنعها والدي كانت تصل الى استنبول.

-يا إلهي، يا “جورج” صهرك هذا هو قريبنا أيضاً. سأرسل خبراً لأختي فقد كانت مقرّبة من “بوغوص”، ونادى على صانعه وقال: يا “أرداش” اذهب ونادِ أختي “خانم فارتوهي”.

ولم تمض نصف ساعة حتى دخلت “فارتوهي”، سيدة في منتصف عمرها.

-يا أختي، انظري جيداً لهذ الرجل، هل تعرفينه؟

بعد أن نظرت “فارتوهي” بوجه البدوي قليلاً عانقته.

-“هاروت” يا حبيبي، يا “هاروت” يا غالي…

لم تتمكن الامرأة من التحدث. فالرجل كان صورة طبق الأصل من والده “بوغوص”، قبّلته رغم الرائحة التي كانت تفوح منه.

-أيا أختي، أعرفتِ هذا البدوي إذاً.

-وهل هذا سؤال، يا أخي. هذا ابن “البسطرمجي بوغوص”، كان بيتهم قريباً من بيتنا وكان “هاروتيك” يتربى عندي، وكيف لا أعرفه. يا الله، وهل كنا سنرى هذا اليوم!

كان الغذاء دعوة على حساب تاجر البالية “الإيفيريكي” في مطعم “كوبولي”، وكانت الطاولة عامرة، ولكن الحزن والتأثر كان يخنق الجميع. ولا أحد يستمع الى إصرار التاجر ليأكلوا ويشبعوا.

وقالت “فارتوهي”: – يا “هاروتيك” ..

-وهل تدلعين رجلاً ضخماً مثله باسم “هاروتيك” ؟

-لقد كبر على يدي، وسيبقى “هاروتيك”. هل تعرف يا بني يا “هاروت” ..؟

-ماذا أعرف..؟

-أن والدتك وأخاك حيان، يرزقان!

فتطايرت الشوكة من يده واللقمة من فمه وقال “هاروت” :

-أمي أنا؟ وأخي.. أين هما يا “ماما فارتوهي”.

-إنهما في أمريكا، وبخير.

“أسدغيك” التي دعيت في اللحظة الأخيرة ارتبكت كثيراً، عثرت بسرعة على شقيقها الحقيقي، وها هي الآن تعثر على أمها الحقيقية وأخيها الآخر. كانت يداها ترتعشان، ولا تستطيع فتح فمها لتأكل تلك المأكولات السخية والشهية.

يا عيني، أنا أتيت بكم الى هنا لكي نفرح ونحتفل، ما هذا البكاء والنحيب. هيا، ارفعوا الكؤوس للحب ولنشرب نخب الأموات …

-عفواً، نخب المقتولين والمذبوحين..

-صدقت يا “جورج”، يا صهر، أنت صهرنا بعد الآن. لنشرب نخب الشهداء الذين نعرفهم والذين لا نعرفهم، نخب ذكرى الشهداء القديسين، وثم نخب “هاروت” و”أسدغيك” ونخب والدتهم وأخيهم البعيدين، نخبكم جميعاً يا أحباء، نخبنا جميعاً.

وتصادمت الكؤوس لتخلق لحناً متناغماً، وثم رفعت نحو شفاه الحضور.. وفي ذات اليوم كتبت “فارتوهي الإيفيركية” رسالة الى زوجة “بوغوص البسطرمجي”. لم يتأخر الجواب، وأرسلت والدة “أسدغيك” صورتها الأخيرة وفي يدها فنجان قهوة. لقد فعلت السنين وكذلك الشقاء المفروض فعلتها.

كتبت الامرأة التي تؤمن بالعثور على “هاروتيون” أن الصبي كان بعزم قوي في أيام التهجير. أما “أسدغيك” فمن الصعب أن تكون ابنتها، لأنه ليس لها ابنة بهذا الاسم، فاسم ابنتها هو “تيغتسانيك”، وثم أنها هي بيدها، وياليتها انكسرت، تركت ابنتها خلال الترحيل تحت شجرة. فكم كانت ضعيفة ابنتها “تيغتسانيك” بسبب الاسهال والاستفراغ. عبرت مناطق شبه صحراوية فلا ماء ولا غذاء. فقد رأت أنه من الأفضل أن تترك ابنتها الحبيبة تحت الشجرة لتواجه قدرها القاسي. وبقدر ما يكون موتها سريعاً بقدر ما هو أفضل بالنسبة لها، ربما نهشت بها الوحوش في نفس تلك الليلة.

وفي الرسالة التالية، أعلمتها أن اسم “أسدغيك” أعطي لابنتها “تيغتسانيك” في الميتم، ورغم الندبة فوق أنفها فهي جميلة وكائن فريد مثل آلهة الجمال عند الأرمن “أناهيد”. وكدليل إضافي، كتبت تفاصيل الندبة على أنف “أسدغيك-تيغتسانيك” التي أبدعها “هاروت”.

بدأت “أسدغيك” تكاتب أمها رغم أنها لا تنوي تغيير اسمها الجميل، والآن هي تملك والدتين ووالدين، أم وأب حسب علوم الحياة وأم وأب تبنياها. ربما هي كائن محظوظ رغم أن والدها “بوغوص البسطرمجي” لن يظهر أمامها أبداً.

وبعد عدة أشهر، عاد “جورج” وزوجته وابنه الوحيد الى الوطن، فقد قصد تلك الخطوة التي بادر بها صهريه “ألبيرت كارجيكيان” و”جوزيف”.

“هاروت” الذي انتظر دعوة الجد ستالين من كل قلبه وروحه للإطاعة والعودة الى الوطن، تراجع عن فكرته عندما تأكد أنهم لن يأخذوه الى “إيفيريك”، وما معنى أرمينيا دون مدينته “إيفيريك”..؟

وبعد 15 عاماً، مضى “هاروت” وحده الى أرمينيا، فشوقه لأخته “أسدغيك” دفعه لذلك.

وابنة “هاروتيون” التي ورثها تزوجت في حلب، بقيت هناك، أما الابن “هاروت” ففضّل أن يبقى في دمشق. انضمت “فيرجين” وأولادها الـ11 لزوجها ووالدها وهاجرت الى أرمينيا، وحازت على وسام “أوكتوبر” من المستوى الرفيع لكثرة إنجابها.

أما “ماري” زوجة “هاروت” فتوفيت بعد شهر من وصولها الى أرمينيا. ولم يبق “هاروت” دون زوجة، فتزوج من جديد.

وصار ابنه “بوغوص” طالباً جامعياً وتخصص باللغة العربية والتاريخ لمعرفته بالعربية. وبعد ثلاثين عاماً انتخب أحد أصدقائه “ليفون” رئيساً لجمهورية أرمينيا واستأمن “بوغوص” على منصب قنصل أرمينيا بحلب. وعثر في سوريا على شقيق “هاروت” وشقيقته “آنوش”، وبناء على طلب عمته الملح عثر على أقرباء شقيق “أسدغيك” “أسديبان” في كسب.

شارك “بوغوص” في الوفد الرسمي الذي رافق رئيس جمهورية أرمينيا أثناء زيارة سوريا كمترجم وقنصل. وحسب المراسم الرئاسية خلال دعوة الغذاء الرسمية يتجنب المترجم البدء بالأكل قبل الانتهاء من ترجمة خطاب الرؤساء، لكن بما أن “بوغوص” يحب الأكل وبما أنه كان يشعر بالجوع تسلح بالشوكة والسكين وبدأ الأكل. وحينها أومأ الرئيس السوري القائد حافظ الأسد قائلاً: – يا بوغوص، مراسمنا لا تسمح لك بالأكل..

أسرع “بوغوص” ابن “هاروتيون” الناجي من الصحراء وأجاب: – سيدي الرئيس، ألم تسمع بما قاله الخليفة العظيم علي بن أبي طالب.

ماذا قال؟

قال ذلك الحكيم أنه لو كان الجوع رجلاً لقتلته.

فرد الرئيس وقال: – كل يا بوغوص، كل، ألف صحة. وأومأ لرئيس أرمينيا ليفون قائلاً: – يجدر بمترجمك هذا أن يكون رئيساً.

* * *

روى لي قصة “أسدغيك” و”هاروت” ابنة “سديبان” شقيق “أسدغيك” “أليس كارجيكيان” التي تبنوها ولكنها قريبة منهم جداً، وهي زوجة “فارتكيس كارامارديان” من كسب، وقد قامت “صونا كوزيليان” ابنة الخياطة (من سيباسديا) “فيرجين كوزيليان” بالتحدث إليها.

خصص لي ابن “هاروت” بالتبني “هاكوب كارابيديان” تفاصيل قيمة وإضافية في مكتبه بدمشق.

قصة من كتاب “شهادة مدى الحياة..من آرام الى آرام” للكاتب كيفورك أبيليان، ترجمة د. نورا أريسيان، عنجر، 2006.

Share This