إبادة العثمانيون للأرمن

إبادة العثمانيون للأرمن

طريف سردست

الإبادة الأرمنية

بينما كانت جدتي وجدي في طريقهما الى عانة، عام 1915، عثروا في الطريق الصحراوي، على فتاتان جالستان أمام جثة امهما، الاولى كان عمرها سبعة سنوات والثانية كان عمرها خمسة. هؤلاء كانوا من مخلفات مسيرة الارمن القادمة من مركز التجميع في حلب الى بغداد، تحت حراسة الجندرمة، على أمل ان يموت أكبر عدد منهم في الطريق الصحراوي المحرق. الفتاتان رافقن جدتي، وبعد عامان حضر مندوبين عن الكنيسة الارمنية في القاهرة من أجل استعادة الفتاتان. الكبرى وافقت على الذهاب معهم في حين أن الصغرى رفضت الذهاب، لتصبح هذه الارمنية الطيبة عمتي مريم. الى عمتي مريم اهدي هذا المقال.

في عام 1915، وحسب بعض المؤرخين حتى عام 1923، جرت عملية ابادة واسعة للأرمن على اراضي سيطرة الخلافة العثمانية. عملية الابادة الجماعية جرت بطريق القتل المباشر والتهجير، بما فيه وضع المهجرين في ظروف تؤدي للموت لامحالة.
إبادة الارمن جرت على مراحل. المرحلة الاولى بدأت بنزع سلاح الجنود الارمن ثم تحديد المناطق الحدودية التي سيجري التهجير منها ليتبعها مرحلة أصدار قانون بالتهجير لتنتهي بالتهجير الجماعي ومارافقها من عمليات القتل الجماعي والنهب والاغتصاب والخطف.
بعض المؤرخين يضيفون اليها عمليات إبادة الارمن التي جرت في اعوام 1894-1896. وتسمى بمجازر الحمدانية، نسبة الى السلطان عبد الحميد الثاني. كما يضيفون اليها العمليات العسكرية في القفقاس في عام 1919، وهي مسائل سنأتي على ذكرها.

كانت حركة تركيا الفتاة تعتبر من المسؤولين الرئيسيين عن اعمال الابادة، وبالتحديد قادتها الثلاثة: محمد طلعت باشا، أحمد جمال باشا وأسماعيل انور باشا. إضافة الى ذلك شارك بهاء الدين باشا، قائد التشكيلات الخاصة، وهي دائرة مكافحة التجسس. في نفس الوقت الذي جرت فيه إبادة الأرمن جرت فيه عمليات إبادة الاشوريين وإبادة الاقلية الاغريقية الساكنة في منطقة البنطس، على البحر الاسود. تقديرات عدد قتلى الاشوريين في فترة الحرب العالمية الاولى تتراوح مابين 450 الف الى 750 الف شخص. تقديرات عدد قتلى الاقلية الاغريقية في بنطس تتراوح من 300 الف الى المليون، والبقية جرى ارسالهم الى اليونان تنفيذا لاتفاقية تبادل السكان عام 1923. سبب مذابح الاغريق ان حكومة استانبول كانت تخشى زيادة في عددهم ليشكلوا مشكلة اثنية، ففضلت تطبيق خبرتها من المشكلة الارمنية.

مصطلح الابادة الجماعية، (الغينوتسيد) جرى اشتقاقه لوصف عمليات الإبادة الجماعية للأرمن، والتي تعتبر، في التاريخ الحديث، ثاني اكبر عملية ابادة جماعية بعد إبادة اليهود (الهلوكوست).

غالبية أرمن الشتات، والذي يقدر عددهم بعشرة ملايين، انتشروا في العالم هربا من مذابح العثمانيون. في عام 1915 صدر أعلان عالمي اعتبر للمرة الاولى ان الابادة الجماعية للأرمن هي جريمة ضد البشرية.

لمحة تاريخية عن الأرمن

الاثنية الأرمنية تشكلت مابين القرن الثاني والقرن الرابع قبل الميلاد على اراضي شرق تركيا الحالية وأرمينيا. في اوج عظمة المملكة الأرمنية وصلت حدودها الى الفرات والبحر المتوسط والبحر الكاسبيسكي. في بداية القرن الرابع اصبحت أرمينيا الدولة الاولى التي تبنت المسيحية كدين رسمي للدولة. في عام 414 جرى ترجمة الانجيل الى اللغة الأرمنية. المسيحية كانت العامل الرئيسي للحفاظ على الشخصية القومية، والكنيسة أصبحت رمزا للشخصية الأرمنية. منذ عام 428، خضع غرب أرمينيا للبيزنطيين في حين خضع شرقها لفارس. منذ منتصف القرن السابع خضعت معظم الاراضي الأرمنية للسلاطين العرب. في عام 860 تمكن الأرمن من استعادة استقلالهم تحت راية بغراديتوف. في عام 1045 استولى البيزنطيين على آني عاصمة الارمن ولكن في عام 1080 تمكن الشريف روبين من تأسيس دولة أرمنية كيليكية. في 1198 جرى تنصيب ليفون الثاني ليحمل لقب قيصر. عام 1375 احتل المماليك دولة الكيليكيين لينتهي استقلال الارمن على ايد المسلمين المماليك. غير ان الارمن، المؤمنين بعمق بالمسيحية، رفضوا التخلي عن دينهم واعتناق الاسلام، لتبدأ الصدامات الدينية على طول فترة خضوع أرمينيا لسلطة السلاطين المسلمين (العباسيين، السلجوقيين والاتراك). بنتيجة الاصطدامات والانتفاضات المتكررة، على خلفية رفض الخضوع الديني، انهار تعداد الأرمن بصورة فظيعة على اراضي ارمينيا التاريخية.

سكان الامبراطورية العثمانية ومصطلحاتها

في نهاية القرن التاسع عشر كان الانتماء الاثني لسكان الامبراطورية العثمانية كثير التنوع. كانت توجد اثنيات مسلمة مثل الترك والعرب والكرد والشركس، إضافة الى وجود اثنيات مسيحية مثل الأرمن والاغريق اليونانيين والبلغار والاشوريين. بالطبع كانت توجد ايضا قوميات اخرى مثل اليهود واقليات اخرى. في صفوف الجيش العثماني كان يوجد ضباط عرب واكراد، وقد وصلوا الى مراكز رفيعة، وعلى الاخص في فترة السلطان عبد الحميد الثاني. بالطبع كان، في اوقات كثيرة، يتواجد ضباط أرمن واشوريين، غالبا في وحدات خاصة منفصلة. في ذات الوقت، لم يكن الموقف واحد تجاه القوميات المتعددة، فمثلا كان من الشائع القول، ان من الاصلح استخدام بلغاري لحرث الارض عوضا عن انهاك الحصان. ومع ذلك لم يعني ذلك استحواذ قومي للترك، إذ حتى بدايات القرن العشرين كانت كلمة ” تركي” لها معنى استهزائي، وكان المقصود بها غلاظة فلاحيي الاناضول. غير انه، ومع استيلاء ” جمعية تركيا الفتاة” على السلطة، اصبحت مظاهر القومية التركية تتزايد، وانتهى المعنى الساخر لكلمة التركي. الحركة التركية القومية اصبحت تعمل على احياء تركيا الكبرى، على اساس المنشأ الاثني والتاريخ واللغة الواحدة، ليدخل في المشروع القومي مناطق بعيدة مثل تركمنستان واوزبكستان وكازاخستان واذربيجان وقرغيزستان وتوركستان الصينية واقسام من روسيا الفيدرالية. ومع ذلك بقى الكثير من الضباط العرب والاكراد يعتبرون انفسهم عثمانيين حتى السقوط النهائي للامبراطورية.

يجب التأشير الى انه، إذا لم يكن هناك تحديد دقيق للاثنية المتناولة في هذا الموضوع، مثل ان نقول قبائل الاكراد الرحل (البدو)، فإن المستخدم هو مصطلح المسلمين او العثمانيين، مع ان الاخير يحوي حتى قومية الارمن. في تناول مؤسسات الدولة حتى نهاية الحرب العالمية الاولى كقاعدة يستخدم مصطلح العثمانيين، ونادرا مصطلح الترك. في ابادة الارمن شارك ابناء العديد من القوميات المسلمة مثل العرب والاكراد والشركس، غير انه غالبا جرت المجازر بطلب من القادة الاتراك.

أرمن الخلافة العثمانية، الذين رفضوا الدخول في الاسلام، كانوا يعتبرون أهل ذمة، وهو تعبير عن انهم مواطنين من الدرجة الثانية. كان محرم على الأرمن حمل السلاح كما ان من واجبهم دفع الجزية وهي اعلى من الضريبة المفروضة على المسلمين. كما لم يكن من حق الأرمن ان يكونوا شهود في المحاكم.

بين المسلمين كان من الشائع النظر الى الأرمن بغيرة، انطلاقا من التصور السائد ان الأرمن خبيثين ويملكون عقلا تجاريا ناجحا، على الرغم من ان 70% من الأرمن كانوا من الفلاحين الفقراء. هذه الاوهام هي نفس الاوهام التي كانت شائعة عن اليهود عادة، والتي انتهت بمجازر مشابهة للطائفة اليهودية في كل مكان. العداء للأرمن تزايد مع تزايد المشاكل الاجتماعية في المدن والصراع على الموارد المحدودة في الريف، وفشل الدولة العثمانية. وتزايدت هذه المشاكل بعد قدوم النازحين المسلمين من القفقاس، بنتيجة الحرب الروسية التركية في اعوام 1877-1879. النازحين الجدد صاروا ينفثون عن غضبهم بطرد المسيحيين المحليين والاستيلاء على اراضيهم. على خلفية مصادرة امن الارمن واباحتهم للتنفيس عن غضب النازحين المسلمين، نشأت المسألة الأرمنية كجزء من المسألة الشرية.

في عام 1882 ، في مدينة ارزيروم، نشأت “الجمعية الفلاحية”، أول منظمة ارمنية، وكان من بين مهماتها الدفاع عن الأرمن ضد حملات النهب التي تقوم بها القبائل البدوية المتنقلة، على الاخص من الاكراد. في عام 1889 تكون اول حزب سياسي أرمني “أرمينكان” وكان يطالب بالحصول على الادارة الذاتية المحلية والتعريف بالجرائم التي تجري ضد الأرمن والاحتجاج على ارهاب الدولة وحق الارمن بالدفاع عن انفسهم. في عام 1887 نشأ الحزب الديمقراطي الاشتراكي “هنتشاكيان” وكان يهدف الى تحرير الأرمن الترك من خلال الثورة بمساعدة جميع القوميات لبناء الدولة الاشتراكية. في النهاية ظهر حزب راديكالي جديد اسمه “داشناكتسوتيون” (الطاشناق) ويهدف الى الحصول على الحكم الذاتي في اطار الخلافة العثمانية وتحقيق الحرية والمساواة لجميع شعوب الامبراطورية العثمانية، كما طالب بنشوء كمونات فلاحية.

الابادة الجماعية للارمن في اعوام 1894-1896

الابادة الجماعية للارمن في اعوام 1894-1896 قضت على بضعة مئات الالاف من الأرمن، وجرت في ثلاثة موجات رئيسية. الموجة الاولى في ناحية ريزني من قضاء ساسونة والثاني في عدة مناطق من تركيا في شتاء وخريف عام 1895 والثالثة في منطقة ريزني العائدة لمدينة استانبول وآيالة وان. كانت احتجاجات الأرمن هي الحجة للابادة. مسألة مدى تتدخل الاجهزة الحكومية في التخطيط والاثارة وحماية القائمين على المذابح لازالت موضع جدل كبير، على الاخص بسبب محاولات الحكومة التركية منع البحث في الارشيف وتدمير الوثائق.

في قضاء ساسونة فرض شيوخ عشائر الاكراد خاوة على الارمن في ذات الوقت الذي طالبت فيه السلطات العثمانية دفع الجزية المتأخرة، والتي كانت، سابقا، قد سامحت السكان بها، بسبب نهب العشائر الكردية للقرى الأرمنية. في السنة التالية اعاد شيوخ عشائر الاكراد والسلطات العثمانية مطالبهم المالية من الأرمن غير ان الأرمن رفضوا الدفع واعلنوا العصيان. ارسلت السلطات الجيش لقمع العصيان، وبنتيجة ذلك قتل 3000 شخص. طلبت روسيا وبريطانيا وفرنسا تشكيل لجنة للتحقيق بما جرى، غير ان الباب العالي رفض.

احتجاجا على عدم حل مشاكل الأرمن قرر حزب الهنتشاك، في سبتمبر من عام 1895، القيام بمظاهرة كبيرة، ولكن الجندرمة قامت بمحاصرة المظاهرة وأطلاق الرصاص عليها، وبنتيجة ذلك عشرات الارمن قتلوا والمئات جرحوا. أعتقلت الجندرمة الكثير من الأرمن وقامت بتسليمهم الى طلاب المدارس الدينية في استانبول، الذين بدورهم قاموا بضربهم حتى الموت. هذه الحملة استمرت حتى 3 اكتوبر. في 8 اكتوبر قام مسلموا طربزون بقتل وحرق آلاف الارمن. هذه الاحداث اصبحت تتواتر في العديد من مدن شرق تركيا، لتصبح سلسلة من الابادة الجماعية المنظمة تحت رعاية السلطة العثمانية، حيث تكررت في محافظات: ارزيرجانه، ارضروم، غوموشخان، بايبورت، اورفه وبيتليسه.

وعلى الرغم من ان حزب داشناكتسوتيون كان يتفادى ردود فعل علنية ضد شوفينية المتطرفون والقوميون الاسلاميون إلا أنه، وردا على مذبحة 1895، قام بتاريخ 26 اغسطس 1896، بإحتلال مبنى البنك المركزي العثماني في استانبول. لقد قاموا ايضا بأخذ رهائن من الموظفين الاوروبيين، وهددوا بتفجير البنك. بالمقابل كانوا يطالبون السلطات العثمانية بالوعد بإجراء إصلاحات سياسية. وبنتائج تفاوض الممثل الروسي ورئيس البنك مع المهاجمين، اتفقوا على اخلاء سبيل الرهائن ومغادرة المهاجمون للبنك، مع الضمان الشخصي لامنهم، مكتفين بإثارة إنتباه العالم الى القضية الارمنية. غير ان القوات العثمانية بدأت بالهجوم على القرى الارمنية حتى قبل خروج المهاجمون من البنك. على مدى يومين، وبتواطوء السلطة الواضح، قام الاتراك بقتل 6000 أرمني.

ليس من الممكن احصاء أعداد القتلى في مذابح اعوام 1894-1986، ولكن، حتى قبل انتهاء اعمال القتل، قام المبشر اللوثري يوهان ليبسوس والذي كان في تركيا في ذلك الوقت، بجمع اعداد الضحايا من المصادر الالمانية ومصادر اخرى. الاحصائيات التي جمعها تقول: قتل -88243، جرح-546000، القرى التي نهبت- 2493، القرى التي اجبرت على الاسلام-456، تهديم الكنائس والاديرة – 649، الكنائس والاديرة التي جرى تحويلها الى جوامع- 328. أما بالنسبة للاعداد الاجمالية لضحايا مذابح تلك الاعوام، فإن التقديرات مختلفة بين مختلف المصادر، وهي تتراوح مابين 50 الف الى 300 الف.

Share This