الابادة والتهجير في عهد “تركيا الفتاة”


في عام 1907 جرى نزع السلطان عبد الحميد الثاني عن العرش ونفيه الى مدينة سالونيك اليونانية، والتي كانت لاتزال في عهدة الخلافة العثمانية (تحررت عام 1912). بعد ذلك صدرت قوانين جديدة انهت الامتيازات الكلاسيكية للمسلمين على الارمن. غير ان اتباع السلطان عبد الحميد في استانبول قاموا بإنتفاضة وفي اضنة قام الاصوليون بالهجوم على الارمن، والذين كانوا يشكلون ربع عدد سكان المدينة. تدخلت السلطة بعد يومين، بعد ان كان قد جرى قتل الفين ارمني على الاقل. مع وصول كتائب من الجيش الى المدينة قام المتظاهرون الغاضبون بالهجوم على الاحياء الارمنية واضرموا النار فيها. في ذات الوقت امتدت الانتفاضة الى مناطق محافظة قيليقية، لتصل الى مرعش وكيسيبه.
بعد الثورة الدستورية عام 1908، والتحول الى الملكية الدستورية، ساعد اتباع ” تركيا الفتاة” على شرعنة مصادرة اراضي الارمن التي جرت في عهد عبد الحميد، كما جرى منح الجوائز التشجيعية للاتراك الذين ينتقلون للسكن في مناطق الارمن. بعد القضاء على انتفاضة الموالين للسلطان عبد الحميد، بدأت حملات تهجير واسعة كما جرى منع انشاء التنظيمات ذات العلاقة بالاثنيات الغير تركية. بنتيجة حملات التهجير وإعادة التسكين جرى نقل 400 الف مسلم الى الاناضول، لتغيير الصبغة الاثنية والدينية في منطقة، في منتصف القرن الثامن عشر، كان الغير مسلمين يشكلون 56% من سكانها. مع هذه التطورات توجهت الاحزاب الارمنية طلبا للمساعدة الدولية. بنتيجة ذلك، وبتأثير مباشر من الامبراطورية الروسية، أجبرت الدولة العثمانية الضعيفة، في فبراير من عام 1914، على التوقيع على خطة تضمن الموافقة على انشاء منطقتين من ستة مناطق ارمنية في طربزون تقوم بإدارتها الدول الاوروبية، بموافقة الباب العالي.

الحرب العالمية الاولى وتنظيم الابادة الجماعية

بعد ثورة الاتحاد والترقي في عام 1908، ظهرت امام الاتراك تحدي جديد تمثل في خلق الشخصية القومية التركية. الخلافة العثمانية كانت دولة المسلمين السنة، مقابل دولة الفرس الشيعية، حيث المسلمون وحدهم يتساوون في الحقوق، حسب الدستور، في حين لايملك الاتراك او اية قومية اخرى اية ميزة إنطلاقا من الاصل الاثني وحده. على العكس تقوم ايديولوجية جمعية الاتحاد والترقي على القومية التركية وتسعى لتوحيد الامة التركية وبناء الدولة العلمانية الحديثة. ضياء كوك الب، احد اكبر منظري الاتحاد والترقي وضع الاسس التي تضمن مشاركة تركيا في الحرب العالمية الاولى. بنتيجتها تقوم دولة الطورانيين، حيث الغير تركي يستثنى من السلطة ومن كافة حقوق المواطنة، الامر الذي اثار حفيظة الارمن والاقليات. الارمن الذين كانوا ينظرون الى انفسهم، بالدرجة الاولى من خلال المنظار الديني، كانوا يعتقدون خطأ ان التتريك اقل سوءاً من الاسلام. المفارقة انه في اثناء مجازر عام 1915 كان بعض القادة المسلمين ينبرون لانقاذ الارمن إنطلاقا من انهم أهل كتاب، في حين ان ذلك لم يحدث من جانب المؤمنين بالايديولوجيات القومية الفاشية.

في فترة حرب البلقان عام 1912، تعاطف غالبية الارمن مع انتمائهم العثماني، والوحدات الارمنية التي وصل عدد افرادها الى 8 الف جندي، لعبت دورا مهما في القوات التركية، حسب شهادة القنصل البريطاني. في ذات الوقت اخذت الاحزاب الارمنية مواقف معادية للعثمانيين. ممثلي حزب الطاشناق جهزوا وحدات ارمنية مسلحة للعمل ضد تركيا في حين ان حزب غناتشيكيان عرضوا التعاون العسكري على قيادة الجيش الروسي في الفقفاس.

في 2 اغسطس من عام 1914، وقعت تركيا معاهدة سرية مع المانيا، تنص على تغيير الحدود الشرقية للامبراطورية لضم ممر للوصول الى القوميات المسلمة في روسيا. ذلك عنى بالطبع ضرورة تسريع استئصال وجود ابناء الشعب الارمني من المنطقة المعنية. هذه السياسة جرى نشرها والاعلان عنها بعد دخول تركيا الحرب الى جانب الالمان في 30 اكتوبر من عام 1914. في الاعلان جرى تبرير الامر ان “من الطبيعي” اتحاد جميع ممثلي العرق التركي.

على الفور بعد توقيع الاتفاقية مع المانيا بدأت الدولة العثمانية عملية استملاك ممتلكات المسيحيين على نطاق واسع. في ينابر من عام 1914 اعلنت تركيا الجهاد لرفع المزاج المعادي للمسيحيين وسط السكان المسلمين. بأوامر من انور باشا وجمال باشا جرى استخدام المواطنين البريطانيين والفرنسيين في استانبول كدروع بشرية على الجبهات. وعلى نطاق واسع جرى استخدام اثارة نزاعات القبائل الاثنية، التي تحيا على اراضي العدو، ليس من طرف تركيا وحدها وانما حتى من طرف الحلفاء. مثلا توجهت تركيا الى المسلمين في روسيا للالتحاق بالجهاد ضد الروس. في ذات الوقت بريطانيا ساعدت المسلمين العرب للانتفاض على الاتراك ودعمت ثورتهم، في حين ان المانيا دعمت القوميين الاوكرانيين.

وتركيا العثمانية صارت تدفع حزب الطاشناق الارمني لتنظيم الارمن في القفقاس الروسي والقيام بثورة، على وعد انه في حال الانتصار ستقوم بتكوين مقاطعة ارمنية تحت الادارة التركية. غير ان الطاشناق اعلنت ان على كل ارمني ان يكون ولاءه للدولة التي يعيش فيها.

غير ان هذا الرفض دفع الارمن ثمنه باهظا. لقد قام بهاء الدين شاكر، مدير ” التشكيلات الخاصة” بأعطاء الاوامر برمي بعض قادة حزب الطاشناق، بالرصاص. في الجهة الثانية من الجبهة اقترح وزير خارجية الامبراطورية الروسية بأستخدام الارمن والكرد لتنظيم ثورة في تركيا. ومسؤول القفقاس النبيل فرونتسوف داشكوف دعى الارمن الى الوقوف الى جانب روسيا واعدا اياهم ان روسيا ستحافظ على عهدها بإقامة مقاطعات ارمنية ذات حكم ذاتي في تركيا، غير ان هذا الوعد كان خدعة. كانت خطة فرنتسوف داتشكوف تقوم بتشكيل وحدات ارمنية بقيادة روسية في القفقاس وارمينيا التركية وفي فارس. جرى تشكيل خمسة كتائب أرمنية، من أرمن سكنة المناطق التي انتزعتها روسيا من تركيا في عام 1878 إضافة الى الارمن الهاربين من تركيا. جرى تحشيد الكتائب الارمنية على الحدود مع تركيا على امل ان يؤدي ذلك الى انتفاضة في الطرف التركي. والارمن في الاناضول استعدوا لحماية انفسهم بعد ان حصلوا على مساعدات من متبرعين روس. الشئ نفسه جرى لشعوب القفقاس المسلم بمساعدة من تركيا، داعية اياهم للانتفاضة. جرت صدامات بين الاتراك والارمن غير انها كانت ذات طبيعة محلية ومحدودة. الاغلبية الارمنية لم تكن تؤيد سياسة معادية للعثمانيين كما ان محاولات الروس لاثارة الكرد ضد العثمانيين حصلت على نجاحات أقل. وفي النتيجة كان كلا من الروس والاتراك يتكلمون عن ” الشعوب الشقيقة”، لتغطية حقيقة تحضيرهم هذه ” الشعوب الشقيقة” للمفرمة بالنيابة عنهم. من المفيد الاشارة الى ان مذابح الارمن حتى 15 اذار من عام 1915 كانت تحمل طابع التظاهرات العلنية والترهيبية التحذيرية، على العكس من المذابح اللاحقة والمنظمة التي جرت بتنظيم سري من قادة تركيا الفتاة.

حملة الابادة الاولى

بعد بضعة ساعات من توقيع الاتفاقية السرية بين تركيا والمانيا أعلن الاتحاد والترقي التعبئة العامة، بنتيجة ذلك جرى استدعاء كل ارمني سليم الى الخدمة العسكرية. الاستدعاء الاول شمل الاشخاص في الاعمار بين 20-45 سنة والاثنين اللاحقين شمل الاعمار 18-20 و 45-60. على الفور بعد اعلان الحرب العالمية الاولى وجدت تركيا نفسها مشاركة بعدة جبهات. على الجبهة الروسية الايرانية رفع من مقدار الانتهاكات ضد قرى الارمن عدة مرات ، إذ بين نيابر 1914 وابريل 1915 جرى نهب 4-5الف قرية ارمنية وقتل مامجموعه 27 الف ارمني والكثير من الاشوريين.

على الجبهة الشرقية تلقى انور باشا هزيمة نكراء في معركة ساريقاميش في يناير من عام 1915، ضد الروس. بنتيجة ذلك جرى طرد الجيش التركي من تبريز وخوى. هزيمة الاتراك كانت، الى درجة كبيرة، بفضل المتطوعين الارمن القادمين من مناطق روسيا، غير ان الاتحاد والترقي القى بالمسؤولية على الارمن بشكل عام.
بصورة رسمية، انور باشا وجه شكره للارمن الاتراك على تضحياتهم في معركة ساري قاميش ضد الروس، في رسالة وجهها الى البطريركية الأرمنية في قونيه. في طريقه من ارضروم الى استانبول كان على الدوام يعبر عن أمتنانه على “ولاء الارمن التام للحكومة العثمانية”. غير انه في استانبول، أعلن انور باشا لجريدة “تانين” ولنائب رئيس البرلمان التركي ان الهزيمة كانت نتيجة الخيانة الأرمنية وأنه قد حان الاوان لترحيل الارمن من المنطقة الشرقية. الباحث Stephan Astourian يبرر هذا التغيير في موقف انور، برغبته في الدفاع عن سمعته وتحميل مسؤولية هزيمته للاخرين، الاضعف. في فبراير جرى اتخاذ اجراءات استثنائية ضد أرمن تركيا. لقد جرى تجريد 100 الف جندي ارمني من سلاحه وجرى مصادرة الاسلحة من المدنيين الارمن والتي كان قد سمح لهم بحملها عام 1908. بعد تجريد الجنود الارمن من السلاح جرى ذبحهم من الرقبة او جرى دفنهم احياء.

هنري مورغنتاو السفير الامريكي في تركيا، في ذلك الوقت، وصف نزع سلاح الارمن على أنه دعوة لاباحة الارمن وإبادتهم. سلطات العديد من المدن هددت بإبادة الارمن والاشوريين كما قاموا بإعتقال الالاف منهم كرهائن، مطالبين الارمن بجمع عدد معين من السلاح مقابل اطلاق سراح الرهائن. ورافقت الحملة اعمال وحشية ضد الارمن الذي أهدر دمهم. إضافة الى ذلك، الاسلحة التي جرى جمعها جرى تصويرها وعرضها في الاعلام ، في استانبول، على انها البرهان على “الخيانة” ، مما فتح الباب واسعا لملاحقة كاملة وتامة للشعب الأرمني.

في لقاء بين طلعت باشا، وزير الخارجية التركي، والسفير الامريكي هنري مورغانثو، قال طلعت باشا:” نحن قد تمكنا من التخلص من ثلاثة ارباع الشعب الارمني، ولم يعد لهم اثر في بيتليسه وفانه وارضروم. والحقد بين الأرمن والاتراك، في الوقت الحالي، من القوة بحيث ان علينا القضاء عليهم تماما. إذا لم نفعل ذلك سينتقمون منا حتما”

تنظيم ترحيل الأرمن

نزع سلاح الارمن جعل من الممكن القيام بحملات منظمة ومتواترة على السكان الارمن في الامبراطورية العثمانية والتي تضمنت ارسال الارمن سيرا على الاقدام الى الصحراءلتعريضهم للموت جوعا او عطشا او بفعل اعمال القرصنة التي يقوم بها البدو على المسافرين. وقد جرى ارسال الارمن من مختلف بقاع الامبراطورية وليس فقط من سكنة الجبهة الشرقية.

في البداية جمعوا الرجال الاصحاء واخبروهم ان الحكومة، وبسبب ضرورات الحرب، وتعبيرا عن نيات الحكومة الطيبة تجاههم، قررت نقلهم الى مساكن جديدة. كان يجري نقل الرجال الى السجون ولايعطوا اية فرصة للاتصال بأهلهم بعد ذلك. بعد ذلك يجري نقلهم الى الصحراء ورميهم بالرصاص او بالسلاح الابيض. بعد ذلك يجري تجميع الاطفال والعجائز والنساء ويخبرون ان عليهم الانتقال الى بيوت جديدة. هؤلاء يجري وضعهم في قوافل لانهاية لها وتسير على الاقدام، وتحت حراسة الجندرمة، من قرية الى اخرى ليصلوا بهم الى الطرق الصحراوية. من لايستطيع الاستمرار بالمشي يجري قتله، ولم يكن هناك استثناء حتى للحوامل. كان يجري اختيار الطرق الصحراوية الطويلة والمنعزلة، بحيث تضمن موت أكبر عدد ممكن قدر الامكان.

المرحلة الاولى من تهجير الارمن بدأت في ابريل من عام 1915، بترحيل أرمن مدينة سوليمانلي (زيتونة)، ودورتيول القريبة منها، والتي تبعد 26 كيلومتر عن الاسكندرونة. في 24 ابريل جرى اعتقال ارمن استانبول والاسكندرونة واضنة. في 9 مايس اتخذت حكومة الامبراطورية قرارا بتهجير ارمن شرق الاناضول من اماكن سكنهم. وخوفا من ان يتعاون المهجرين الارمن مع القوات الروسية أتخذ القرار ان يتم التهجير في الجنوب. غير ان فوضى الحرب لم تجعل بالامكان تنفيذ هذا الامر. بعد انتفاضة فانا بدأت المرحلة الرابعة من التهجير حيث صدر الامر بتهجير جميع الارمن القاطنين في منطقة كيليكيا.

عملية الترحيل الاول

جمعية الاتحاد والترقي تطرفا لتنظيم الدعاية المعادية للارمن، بما فيهم رشيد بيك، الذي اشتهر في منطقة ديار بكر، بممارساته الفظة، بما فيها الاغتصاب. والاعتداءات الجسدية والاعتقال، وفي النهاية اصبح اشهر قاتل للأرمن.

وعلى الرغم من الادعاء ان القرار بالترحيل العام للارمن قد اُتخذ في اذار، غير ان حقيقة ان ترحيل الارمن من منطقة استانبول لم تحدث في ذلك الوقت يستدعي الاعتقاد ان مصير ترحيل الارمن كان متوقف على مجرى احداث الحرب.

وعلى الرغم من تأكيد منظمة “تركيا الفتاة” على ان الترحيل كان ردا على عدم ولاء الارمن في الجبهة الشرقية، فإن اول عملية ترحيل جرت ليس من منطقة الجبهة الشرقية وانما من مركز الاناضول الى سوريا، تحت قيادة أحمد جمال باشا المعروف في سوريا بالسفاح لمجرد شنقه بضعة سوريين. بعد الهزيمة في مصر اعتبر جمال باشا ان الارمن في منطقة زيتونة ودورتيول يشكلون خطرا محتملا وقرر تغيير البنية الديموغرافية للمنطقة الواقعة تحت ادارته. بدأ جمال باشا بنفي سكان مدينة زيتونة بتاريخ 8 ابريل، وهي مدينة كان سكانها يتمتعون بحرية نسبية منذ عهود، وكانوا على الدوام في صدام مع السلطات التركية. كتبرير للنفي قامت السلطات التركية بالادعاء بوجود خطة سرية بين سكان زيتونة الارمن وبين السلطات العسكرية الروسية، غير انه لم يجري العثور على اية مستمسكات كما انه لم يصدر عن الارمن اي عمل معادي.

جرى ارسال ثلاثة الاف جندي تركي الى مدينة زيتونة، استباحت القرى الواقعة حول المدينة قبل دخولها المدينة. بنتيجة الاخبار التي سبقت الجنود، انتفض بضعة شبان ارمن وتحصنوا في دير المدينة. حسب المؤرخين الارمن، تمكن المنتفضين من قتل 300 جندي تركي، حسب المؤرخين الاتراك قتل سبعة جنود وضابط واحد فقط قبل سقوط الدير. غير ان قادة المدينة الارمن طلبوا من المنتفضين الاستسلام كما طلبوا من السلطات اعتقالهم ومعاقبتهم. وعلى الرغم من ان طلعت باشا، وزير الداخلية التركية، عبر عن شكره لمساعدة الارمن على اعتقال الهاربين من الجيش، غير انه في تصريح لاحق صور الاحداث وكأنها انتفاضة ارمنية خدمة للقوى الاجنبية، في تطابق مع الرواية الرسمية. وعلى الرغم من ان الجموع الرئيسية للارمن عارضوا الانتفاضة على الحكومة التركية الا ان التهجير كان جماعي، حيث ارسلوا الى كونيا او صحراء دير الزور، ليموتوا. بعد مدينة زيتونة جرى اخلاء مدينة كيليكي، وهي تهجيرات جرت قبل انتفاضة آيالة وان ( مدينة وان)، وهي الحادثة التي تتخذها الحكومة التركية حجة رسمية لتبرير عمليات تهجير الارمن وابادتهم. وعلى الرغم من ان اجراءات الحكومة التركية كانت متجاوزة كل الحدود الا انها كانت، حتى ذلك الوقت، لاتزال لم تشمل كل مناطق الخلافة العثمانية.

انتفاضة أيالة وان

بعد هزيمة العثمانيون في موقعة ساريكاميش، وهي مدينة كانت ذات اكثرية ارمنية (الان كردية)، اصبحت مدينة وان (في محافظة وان) ذات اهمية استراتيجية لكلا الطرفين. بعد دخول القوات الروسية في مدينة ساراي توجهت السلطات التركية الى مدينة داشانكو بطلب تسليم الارمن الهاربون من الخدمة العسكرية. قام الاتراك بقطع خطوط التلفون عن المدينة واصبحوا يمارسون التحرش بالنساء والابتزاز ضد السكان المحليين. بنتيجة هذه الاستفزازات نشأت صدامات بين الجيش التركي وحلفائه من عصابات الشبيحة يطلق عليها اسم ” تشتيس” عادة تكون من ابناء قبائل الاكراد والشركس، وبين مجموعات الدفاع الذاتي الارمنية. في فبراير من عام 1915 جرى تعيين جودت بك وهو اخو زوجة انور باشا، محافظا على محافظة فان، المحافظة الوحيدة في الامبراطورية العثمانية حيث الارمن الاكثرية المطلقة. كان دجفدت بك، من فترة حملة جمع الاسلحة التي جرت في عصر عبد الحميد، معروفا بالوحشية ضد الارمن . كان دجفدت بك عائدا لتوه من حملة فاشلة على الجبهة الفارسية وترافقه وحدات غير نظامية من الشركس والاكراد يطلق عليهم “قصاب طابوري (قوات الجزارين)”.

منذ نهاية 1914 والسلطات التركية تلاحظ تصاعدا في المزاج المعادي لتركيا في منطقة وان، وللتهيئة لقمع انتفاضة محتملة روجت السلطات لاشاعات ان الارمن وبعض القبائل الفارسية في منطقة وان تزود اعداء الاتراك بالاسلحة. وفي محاولة لتهدئة السلطات التركية قام قادة الارمن بالاعلان عن التعاون مع المحافظ الجديد على الرغم من سمعته. في بداية اذار من عام 1915 طلب دجفدت بك من مدينة تشاتاكا الارمنية بأرسال جميع الذكور في اعمار مابين 18-45 ( حوالي 4000 شخص) الى السخرة لصالح الجيش تحت التهديد بالاعدام لمن يرفض التنفيذ. غير ان الارمن ارسلوا 400 فقط. بالنسبة للبقية اقترحوا دفع ضريبة الاعفاء من الخدمة، حسب القانون الساري. غير ان دجفدت بك رفض. في ذات الوقت حدثت قضية اخرى. دجفدت بك ارسل مجموعة من الجنود الارمن والاتراك الى قرية شاداخ للنظر في تاريخ وضع الارمن في السجون. في الطريق جرى قتل اربعة من الجنود، كلهم من الارمن. دجفدت بك رد على ذلك بأرسال قصاب طابوري (طابور الجزارين) في 17 ابريل لمحو سكنة مدينة تشاتاكا من الوجود، غير ان القوات الغير نظامية لم تفرق بين القرى الارمنية واجتاحات جميع المنطقة.

الابادة الجماعية بدأت في 19 ابريل، عندما جرى قتل 2500 شخص في محيط مدينة وان وبعد بضعة ايام وصل العدد الى خمسين الفا. الهجوم على وان كان بنتيجة استفزازت مخططة من اعضاء جمعية الاتحاد والترقي، وهو الامر الذي اعترف به لاحقا جنرالان تركيان هما ابراهيم عباس وحسان تاشين. وتحت التهديد بالاعدام جرى منع السكان المسلمين من حماية الارمن. وفي انتظار الهجوم التركي قام سكان وان بتحصين مدينتهم تحصينا فعالا. كان عدد السكان الارمن، في مدينة وان، حوالي 30 الف ولكن المسلحين منهم 1500 فقط. عندما وصل الجيش الروسي الى وان بتاريخ 16 مايس اضطر الاتراك الى الانسحاب، ليقوم الجنرال الروسي نيقولاي بتعيين حكومة ارمنية على البلدة. غير ان الروس انسحبوا بعد ستة اسابيع والتحق بهم القادرون من الأرمن.

انتفاضة الارمن لم تكن عملية مخططة، فالارمن حاولوا ابقاء طريق يصلهم الى فارس في حالة الاضطرار الى الهروب في حين ان دجفدت بك استخدم الانتفاضة مبرر لابادة الارمن وهي ردة فعل لم تكن ممارسة في ذلك الوقت، إذ كانت تجري العديد من الانتفاضات، في تاريخ الخلافة العثمانية، لم تؤدي الى إبادة جماعية، ونرى انه في نفس الفترة كانت هناك انتفاضة للاكراد في منطقة بتليسا وانتفاضة للاشوريين في منطقة باشكاله.

إستمرار عمليات التهجير                                                              

وحتى اذا كانت العملية الاساسية للابادة الجماعية للارمن جرت بدون تخطيط مسبق الا انه بعد اذار من عام 1915 وبنتيجة الدعاية المنظمة لدعاة الاتحاد والترقي، جرت إبادة جماعية منظمة للارمن. انتفاضة وان وجرائم قتل متفرقة، إذ حسب الاحصائيات التركية الرسمية، جرى قتل 150 الف مسلم من قبل الارمن في منطقة وان ( حسب احصائيات خليل بيرقدار جرى قتل 12 الف مسلم في كل الاناضول على مدى عام 1915) الادعاء الذي تعكزت السلطات التركية عليه لتبرير ابادتها للارمن. في استانبول جرى اعتقال 235 من زعماء ومشاهير الارمن ونفيهم. بعد ذلك اعتقل 600 وتبعهم 5000 ارمني. غالبيتهم جرى قتلهم في منطقة استانبول. هذه الاعمال لم تكن خاضعة لاي قانون وفي مقابلة وزير الخارجية طلعت باشا مع السفير الامريكي برر هذه الافعال بأنها اعمال ” دفاع ذاتي”. في 30 مايس من عام 1915 أقر مجلس الوزراء قانون النفي، بموجبه اعطي قادة الجيوش الحق بقمع الانتفاضات المسلحة ونفي المشتبه في ولائهم والمتهمين بالتجسس. وقد نص القانون على حماية المنفيين وتعويضهم عن ممتلكاتهم. غير انه في الواقع لم يجري مراعاة هذه الشروط ابدا.

الدور الرئيسي في القضاء على الارمن لعبته ” التشكيلات الخاصة” الموجودة في منطقة الارضروم والتي وصل عددها الى 34 الفا وتتكون بالدرجة الرئيسية من محكومين جرى اطلاق سراحهم لهذا الغرض. مساهمات هذه المنظمة في إبادة الارمن، ظهرت للوجود للمرة الاولى في ديسمبر من عام 1914 ، نصف عام قبل انتفاضة وان، الحجة الرسمية للسلطات التركية، عندما قامت بتنظيف المناطق التي انسحب منها الروس من الارمن. رئيس التشكيلات الخاصة بهاء الدين شاكر، شارك بنشاط في عمليات ابادة الارمن بما فيه من خلال تشكيل وحدات الموت.

في 18 ابريل جرت اجتماعات جماهيرية حاشدة في منطقة ارضروم وخلالها جرى توجيه الاتهام للارمن بالخيانة كما جرى تهديد كل مسلم يقوم بمساعدة ارمني بأنه سيتلقى نفس المصير. في الاسبوع التالي اصبح ارمن منطقة ارضروم مستهدفين في غزوات اباحة دورية. في منتصف مايس جرت مذبحة في مدينة خنوس وضواحيها، حيث قتل 19 الف ارمني. من مجموع 65 الف ارمني من سكنة ارضروم بقي على قيد الحياة مئة ارمني، بسبب عملهم في معامل عسكرية هامة. الكثير منهم جرى ذبحهم وقذفهم في منحدر نهري قرب قرية كيماكس وقسم جرى نفيهم الى حلب والموصل، بعضهم تمكن من البقاء على قيد الحياة. في قرية بايبورت الارمنية، من منطقة ارضروم، في البداية جردوهم من اموالهم واخذوا بناتهم الصغيرات مقابل وثيقة عدم تعرض للاسرة، غير انه لاحقا قامت عصابات الشبيحة ” تشتيس” بالهجوم عليهم. وعندما حاولوا الهروب الى مدينة ارزيرجان، والتي كان قد جرى تطهيرها من الارمن سابقا، تصدت لهم الجندرمة بالرصاص.
إباحة الارمن ورفع الحماية القانونية عنهم اخذت مقاييس لاتوصف. النساء والاطفال من مدينة أردو الساحلية، جرى شحنهم في علابات القطار بحجة نقلهم الى مدينة سامبسون، غير ان المحطة الاخيرة كانت في عرض البحر. في فترة الاحكام العرفية عام 1919 قام رئيس شرطة مدينة طربزون بأرسال الصبايا والطفلات الارمن كهدايا الى قادة منطقة استانبول من اعضاء الاتحاد والترقي. كما قام محافظ طربزون بخطف البنات الارمن من مستشفيات الهلال الاحمر لأغتصابهن وابقائهن رهائن لديه. الجزء الجنوبي من ارمينيا التركية جرى تنظيفه من الارمن بواسطة ” طابور القصابين” تحت رعاية دجفدت بك. وحتى ارمن بدليس، المشهورين بخضوعهم للقانون التركي طلب منهم دجفدت باشا، في البداية، دفع البدل، وبعد ان تأكد من تجفيف مواردهم المالية قام بتهجير غالبيتهم. بتاريخ 25 ايلول قامت قوات دجفدت بمحاصرة القرية وبعد فترة قصيرة استسلم الارمن. الرجال جرى قتلهم في مكانهم، في حين جرى توزيع النساء والفتيات ” الجيدات” على الاتراك والاكراد المحليين، وأما البقية فقد جرى نقلهم الى الجنوب لتغريقهم في نهر دجلة. بالمجموع جرى قتل 15 الف من سكنة بدليس وتم توزيع مساكنهم واراضيهم على المهاجرين من الاتراك والاكراد.

في ذات الوقت جرى ذبح السكان في المناطق المحيطة بمدينة بدليس. بعد الانتهاء من بدليس توجهت قوات دجفدت الى منطقة موش، حيث كان يسود سلام مؤقت بعد مذابح مايس. بمجرد وصول القوات، التي في الاساس تتألف من الاكراد والاتراك، بدأت عمليات قتل الرجال بالحراب اما النساء والاطفال فيساقوا الى الحظائر حيث يحرقون احياء. بالانتهاء من منطقة موش انتقلت عصابات دجفدت الى مدينة ساسون، الواقعة على شواطئ البحر الاسود، والتي قام الارمن بالدفاع عنها حتى استنفذوا رصيدهم من الذخيرة والطعام. بسقوط المدينة قامت قوات دجفدت بشحن السكان على البواخر وقذفهم في عرض البحر. في ذلك لم يجري التفريق بين الارمن البروتستانت والارمن الكاثوليك. في مدينة خاربوته ( لاحقا اصبحت إيلازيغ) جرى قتل، الى جانب 13 الف جندي ارمني، جميع طلاب ومعلمي مدرسة الفرات العليا، وجميع رجال الدين الارمن. إضافة الى ذلك جرى تهجير سكان ميرزفون حيث المدرسة الارمنية العليا “الاناضول” تحت رعاية الكنيسة البروتستانتية. من خلال السفير الامريكي تمكن الارمن من الحصول على عهد من انور باشا وطلعت باشا بضمان أمن أعضاء الهيئة التدريسية. غير ان محافظ المنطقة اعلن ان لاعلم له بأي عهد، وأرسل الارمن بمسيرة صحراوية طويلة حتى ماتوا. كما تعرض اغلب ارمن مدينة انقرة الى التهجير على الرغم من انهم من اتباع المذهب الكاثوليكي.

طريف سردست

من سلسة مقالات بعنوان (إبادة العثمانيون للأرمن)

Share This