عمليات التهجير في كيليكيا… استئصال الثقافة الأرمنية

تمايزت عمليات التهجير السابقة، حيث لم يجري التمييز بين “المذنبين” من وجهة نظر السلطة عن “المذنبين” من وجهة نظر المحليات الارمنية، عن عمليات التهجير من كيليكي في كون السلطات التركية لم تعد تعير اية أهمية للفرق بين الارمن الثوريين والارمن الموالين. كما ان هذه التهجيرات لم يكن لها علاقة بمدى قرب الارمن من الجبهات، وشملت الارمن على الاطلاق. كما لم تعد السلطات التركية تعير اهمية لضرورة خداع الارمن بتزويق قصة كاذبة لاسباب التهجير وجهة التهجير او تنبيه الارمن الى ضرورة التزود بالغذاء والماء، والتي تعني عمليا تهيئتهم للموت جوعاً. عدا عن ذلك شجعت الجندرمة المرافقة لقوافل المهجرين الارمن، جميع العصابات، بالاساس من الكرد والشركس وآغات التجمعات السكانية، على التعدي على افراد القافلة بالسلب والخطف والاغتصاب، بنتيجة ذلك بقي في نهاية المطاف، على قيد الحياة، حوالي 20% فقط. الامر نفسه تكرر مع جميع ارمن الاناضول، في حين ان ارمن المحافظات الغربية وصلوا بصورة اسهل، نسبيا، الى منطقة التجميع في دير الزور حيث جرى قتل غالبيتهم. في دير الزور جرى قتل حوالي 150 الف ارمني. ويوجد مايكفي من الادلة للقول ان العاملين في مراكز التصفية في دير الزور كانوا من الشركس والشيشان والعرب.

من الناحية العملية يعتبر أن عملية القضاء على الشعب الارمني في منطقة الاناضول قد بدأت منذ 24 ابريل عام 1915 ، عندما جرى اعتقال قادة المجتمع الارمني في منطقة استانبول وجرى نفيهم الى انقرة. في منتصف يونيو كان جميع القادة قد جرى اعدامهم. الى ذلك الوقت كان قد جرى القضاء التام على الارمن في بدليس والارضروم. في 9 يونيو ارسل وزير الداخلية رسالة الى محافظ ارضروم يطالبه فيها ببيع ممتلكات الارمن المهجرين، من حيث انه لايوجد أمل لعودتهم. على مدى صيف عام 1915 مساحة مناطق التهجير توسعت لتشمل سوريا الحالية. حسب خطة الترحيل، لايجوز أن يتجاوز عدد الأرمن عن عشرة بالمئة من مجمل عدد السكان المحليين.

احدى اكثر الشهادات تفصيلا على مذابح الارمن جاءت من اربعة مستخدمين عثمانيين، عرب، هربوا الى الجانب الروسي وسردوا حوادث المذابح الى الضابط المستشار السياسي البريطاني ماركس سايكس Mark Sykes هو نفسه الذي وقع اتفاقية سايكس – بيكو. حسب اقوال اللوتنانت سعيد أحمد المختار البادجه والذي كان موقع عمله، عام 1915، في طربزون، كان تعبير ” تهجير الارمن” يعني ذبحهم، وكان قد أطلع على أمر رسمي يقضي بأعدام الهاربين بدون محاكمة. ويضيف سعيد أحمد أن هناك تعليمات سرية تقضي تبديل تعبير ” الهاربين” بتعبير ” الارمن”، بما يدلل على وعي السلطات المركزية بسلوكها الجنائي ورغبتها في اخفاء الامر.

قتل الارمن رافقه نهب وحشي. حسب شهادة التاجر العربي محمد علي، صديق محافظ طربزون جمال عظمي، فأن الحلي والمجوهرات التي جرى انتزاعها من الارمن تصل قيمتها الى مابين 200-400 الف ليرة عثمانية ذهبية. ( مايعادل، في ذلك الوقت، 1،5 مليون دولار). القنصل الامريكي في حلب ارسل تقريرا الى وشنطون يشير فيه الى ان ” في تركيا توجد منظومة هائلة للنهب”. القنصل الامريكي في طربزون اشار في تقريره الى انه :” يوميا نلاحظ كتلة من النساء والاطفال الاتراك يسيرون في اعقاب الجنود الاتراك وينتزعون كل مايمكن حمله” وايضا أن ” مقر الاتحاد والترقي في طربزون ممتلئ بالنفائس والذهب من حصته من عملية النهب”.

تاكو ليفانيان، احد الارمن الذين جرى تهجيرهم من مدينة بالو، في شرق تركيا (محافظة إيلازيغ)، الى مدينة ديار بكر، يسرد ذكرياته قائلا:” اذاقونا الامرين. لم يقدموا لنا الطعام او الماء. كانت أمي تملك شئ من الطعام في حقيبتها كانت تقدم لنا منه نتف صغيرة بين الحين والاخر. بقينا نمشي مابين العشرة ايام والخمسة عشرة. في ارجلنا لم تبقى احذية. في النهاية وصلنا الى ديار بكر. هناك استجدينا الماء بللنا فيه بعض الخبز اليابس واكلناه. وصل الى سمعنا ان محافظ ديار بكر يطلب من الارمن فتاة جميلة للغاية، عمرها 12 عاما. في الليل كانت الجندرمة تبحث عن الفتاة وهم يحملون المصابيح. عثروا عليها ونزعوها من اهلها ووعدوا بأنهم سيعيدونها اليهم. بالفعل نفذوا وعدهم واعادوا الفتاة وهي تنزف وعلى حافة الموت، ووضعوها في حضن امها التي كانت تبكي. لم تتحمل الفتاة طويلا وماتت. بمساعدة من احد الجندرمة تمكنوا من حفر قبر لها وكتبوا عليه :”هنا ترقد شوشان”.

في نهاية عام 1915 كان الجزء الاكبر من ارمن الامبراطورية العثمانية قد تمت إبادتهم. وعلى الرغم من محاولات السلطات العثمانية اخفاء الامر والتعتيم عليه الا ان الهاربين من الارمن والذين تمكنوا من الوصول الى الغرب اخبروا بالبشاعات التي جرى ارتكابها ضد الشعب الارمني. في 27 يونيو من عام 1915 طلب الجاثليق (تعبير ارمني، يعني كبار الاساقفة، او البطاركة) من الولايات المتحدة التتدخل لوقف المذابح. وعلى الرغم من أن الحلفاء ادانوا رسميا عمليات الابادة الجماعية التي ارتكبها الاتراك والاكراد ضد الشعب الارمني، ولكنهم لم يستطيعوا فعل اي شئ عملي لوقف المجازر، بسبب الحرب الدائرة. غير انه، في الامبراطورية البريطانية وبعد تحقيقات رسمية، جرى نشر الكتاب الوثائقي(العلاقة مع الارمن في الامبراطورية العثمانية).استمرت عمليات ابادة ارمن الاناضول حتى بعد اغسطس من عام 1915.

استخدام الارمن في التجارب الطبية

في ظروف غياب شروط النظافة الصحية الاولية، انتشرت الامراض والاوبئة بسرعة بين جنود الجيش التركي، وكانت السبب في وفاة كل عاشر جندي. بشهادة توفيق سليم، الطبيب الضابط من الجيش التركي الثالث، من أجل تحضير اللقاحات ضد التيفوس، جرت تجارب في المستشفى المركزي لمدينة إرزينجان أستخدم فيه الارمن من جنود وطلاب المدرسة العسكرية، كأرانب للتجارب، وغالبيتهم ماتوا. أدلة غير مباشرة تشير الى ان بهاء الدين شاكر، خريج الاكاديمية الطبية العسكرية ومُنظم التشكيلات الخاصة والحاصل على لقب ” قصاب طربزون”، شارك في هذه التجارب. جرت التجارب تحت الاشراف المباشر من قبل بروفيسور المدرسة الطبية في استانبول حمدي اكنار الزيات. قام الزيات بحقن اشخاص التجربة بالدم الملوث بالتيفوس. بعد انتهاء الحرب قامت محكمة استنابول الخاصة بوضع الزيات في مستشفى المدرسة الطبية للعلاج الالزامي بسبب ” اختلال عقلي شديد”.

اليوم يعتبر حمدي الزيات مؤسس علم البكتريولوجيا التركي وتحول منزله الى نصب ومتحف في استانبول. التجارب التي قام بها حصلت على موافقة المفتش الصحي العام للقوات العثمانية سليمان نعمان. ادت هذه التجارب الى احتجاج الاطباء الالمان العاملين في تركيا وايضا احتجاج بضعة اطباء اتراك. احد الاطباء الاتراك هو جمال حيدر، والذي حضر شخصيا التجارب وكتب عنها رسالة الى وزير الداخلية عام 1918 حيث وصفها ” بالبربرية” و”الجريمة بحق العلم”. ومع حيدر تضامن الطبيب الرئيسي لمستشفى الهلال الاحمر في إرزيجان الدكتور صلاح الدين، متعهدا بمساعدة السلطات في البحث عن الجناة من الذين قاموا بتنظيم واجراء التجارب. غير ان وزير الدفاع رفض هذه الاتهامات، ولكن حيدر وصلاح الدين اصروا على شهاداتهم. وحسب صلاح الدين جرت ضغوطات شديدة عليه لحمله على الصمت. وبسبب الفوضى السياسية في المرحلة الانتقالية من حكم الامبراطورية الدستورية الى حكم الجمهورية التركية تمكن الجناة من تفادي العقوبة. حمدي الزيات قام بنشر نتائج تجاربه حيث اشار الى انها اجريت على ” مجرمين محكومين”.
بنتائج التحقيقات التي قامت بها المحكمة العسكرية الاستثنائية في عام 1919 اصبح معلوما وقائع تسميم الاطفال الارمن والحوامل الارمنيات من قبل مسؤولي المصحات الطبية وبقيادة مدير دوائر وزارة الصحة في طربزون علي صائب Ali Saib. من رفض تناول السم أجبر على تناوله او رمي في البحر ليغرق. من تمكن من البقاء حيا والوصول الى معسكرات التجميع جرى تزويده بالماء وفيه جرعة قاتلة من المورفين. شهود فرنسيين واتراك أكدوا حوادث تسمم الاطفال الارمن في المدارس والمستشفيات. كما استخدم الصائب حمامات بخار محمولة على السيارات بالتركية تسمى Etüv لقتل الاطفال بالبخار الحار.

محافظ ديار بكر، الدكتور محمد رشيد، أشاع ان الارمن ” ميكروبات خطرة” الامر الذي يبرر التخلص منهم. كان ذلك لتأكيد الاعتقاد ان الارمن اقل تطورا من المسلمين، الذن كانوا خير أمة وبالتالي افضل من الارمن. كما كان محمد رشيد اول من قام بربط حوافر الحمير على ارجل الارمن واول من قام بصلب الارمن على صورة صلب المسيح. مجمل هذه الممارسات توحي ان ماقامت به الفاشية الالمانية في عهد هتلر للقضاء على اليهود مستوحى من التجرية التركية في القضاء على الارمن.

استئصال الثقافة الأرمنية

تماما كما تقوم اسرائيل اليوم في اجتثاث معالم الثقافة الفلسطينية من الاراضي المحتلة قامت السلطات التركية بالممارسات نفسها ضد الارمن وبقية الاقليات المسيحية، لتكون تركيا هي المعلم الاول. حملة ابادة الارمن رافقتها حملة إبادة التراث الثقافي للارمن. لقد جرى تفجير النصب والكنائس الارمنية كما جرى حرث المقابر الارمنية وزرعها بالقمح والذرة. إضافة الى ذلك جرى تهديم الاحياء الارمنية او توطين الاتراك والاكراد فيها، وجرى تبديل تسمياتها.

عام 1914 كانت البطرياركية الارمنية في القسطنطينية تملك مالايقل عن 2549 مبنى منها 200 دير و 1600 كنيسة. في فترة حملة الابادة الجماعية جرى تحطيم الكثير من الانصاب والتماثيل الارمنية. الكثير من المعابد جرى هدمها والقسم الاكبر جرى تحويله الى جوامع. حتى عام 1960 كان يجري ، بشكل منظم، إزالة كل اثر على وجود الارمن على الارض التركية. فقط في الستينات اثار العلماء موضوع توثيق وترميم الاثار الروحية للارمن. في عام 1974 تمكن العلماء من العثور على 913 مبنى على الاراضي التركية كانت في السابق اديرة وكنائس. نصفها لم تعد موجودة اليوم، و252 من الباقي جرى هدمه وفقط 197 لازال موجودا في حالات من السلامة مختلفة.

في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات عثر ويليان دالريمبل على وثائق تثبت استمرار تهديم الابنية التاريخية للارمن. وعلى الرغم من ان الكثير من الابنية تهدمت بفعل الهزات الارضية وبفعل بحث الفلاحين الاتراك الدائب عن الكنوز جازمين ان الكهنة الارمن طمروها تحت التراب في ارض المعابد، إلا انه توجد اثباتات على حدوث تهديم منظم ايضا. حدث انه حكم على المؤرخ الفرنسي دج. م. توري، ثلاثة اشهر من العمل الاجتماعي، مع وقف التنفيذ، بسبب انه حاول رسم خريطة لمواقع معابد الارمن في مدينة وان. كان قد لاحظ ان السلطات ، ومنذ عام 1985، كانت تحاول تهديم الكنيسة الارمنية في مدينة اوشكافانك، ولكنها المحاولة فشلت، بسبب مقاومة السكان المحليين الذين كانوا يستخدمونها لخزن حبوبهم. القضاء على المعالم الثقافية للارمن تزايدت سرعته بعد ظهور المنظمات الارمنية الارهابية للانتقام من الضباط الاتراك.

احدى اوضح الامثلة على السعي المنظم للقضاء على التراث الثقافي الارمني، حسب ويليام دالريمبل، هو المجمع الكنسي الارمني ختسكون Khtzkonk Monastery قرب مدينة قارص والمؤلفة من خمسة كنائس، والذي منع الوصول اليه رسميا من تاريخ 1915 والى نهاية الستينات. حسب شهادة الشهود جرى تفجير الكنائس بالديناميت بواسطة الجيش، والذين كانوا يستخدمون المباني كحقل تجارب عسكرية للرمي. في الزمن الذي قام المؤرخ فيه بزيارة المجمع كان باقيا فقط كنيسة سرغيسا والتي تعود الى القرن الحادي عشر، وحيطانه كانت متضررة للغاية. كنيسة فاراغافانك جرى تحويلها الى سراي، اما الكنيسة بازيليكا والتي تعود الى القرن التاسع، فقد جرى تحويلها الى مخزن، وجرى فتح فتحات كبيرة في جدرانها للسماح بدخول سيارات النقل. المجمع الكنسي في المدينة الارمنية اديسا، والتي تحول اسمها الى شانلورفا، وتقع على الحدود مع سوريا اليوم، جرى تحويله، عام 1915، الى مستودع للحريق وفي عام 1994 جرى تحويله الى جامع بعد ان هدموا منه الاجزاء الغير ضرورية. في عام 1987، وتحت تأثير الضغط الدولي جرى ترميم كنيسة القديسة كريستا على بحيرة وان.

الاتراك والاجانب الذين دافعوا عن الأرمن

البحث وتوثيق مساعدة المسلمين للارمن مسألة صعبة، إذ أن من يساعد الارمن من المسلمين يهدده الحكم بالموت، ولذلك كانت المساعدات تجري في السر. ومع ذلك توجد معلومات عن العديد من قضايا انقاذ الاطفال الارمن من قبل عوائل مسلمة، وايضا احتجاجات صادرة عن موظفين عثمانيين، حيث رفضوا المشاركة قي عمليات القتل الجماعي للشعب الارمني. مثلا جلال بك، مسؤول مدينة حلب، رفض تهجير الارمن وأعلن انه من الضروري حماية الارمن، من حيث ان حق الحياة هو حق اساسي لجميع البشر، ومنع اي اعتداء على السكان الارمن. والموقف نفسه وقفه راحمي بك، محافظ مدينة سميرنا وحجي عادل بكمحافظ ميناء ادريانا بوليس Adrianópolis . وفي يونيو من عام 1915 جرى اقصاء جلال بك من منصبه عن إدارة حلب. وقائد معسكر الابادة في صحراء دير الزور القومندان علي سعيد بك، حاول تخفيف معاناة الارمن، فجرى عزله من منصبه وتعيين زكي بك مكانه، والذي مارس اقسى الاجراءات ضد الارمن. (في مدينة مرقدة القريبة من دير الزور لازال بالامكان العثور على مقابر الارمن الجماعية). جمال باشا، احد قادة تركيا الفتاة، كتب في مذكراته انه أصابه الرعب من الجرائم التي جرى ارتكابها ضد الارمن، وحاول تخفيف دوره فيها. غير ان المؤرخين يطعنون في صحة اقواله.

الالمان، الذين كانوا حلفاء الاتراك، وقفوا على العموم موقفا صامتا ضد جريمة ابادة الارمن. السفير الالماني البارون فون فانغيخين، على الرغم من الصورة الكاملة التي وضعها امامه القنصل، أحتج فقط على انتهاكات صغيرة. وفقط القنصل الثالث بعد فون فانغخين، الغراف فون فولف- ميترنيكس، وصف ممارسات الاتحاد والترقي على انها شوفينية، وتقصد إبادة الارمن. المبشر الالماني يوغينيوص ليبسيوس تمكن من زيارة السلطات في استانبول ، عام 1915، غير ان رجاءه بحماية الارمن والذي وجهه الى انور باشا بقي بدون اجابة. بعد عودته الى المانيا حاول ليبسيوس إثارة أهتمام الرأي العام الالماني بقضية الارمن في تركيا ولكنه فشل. الدكتور ارمين فيغنير ، والذي كان يخدم في تركيا لدى الفيلدمارشال فون غولتسه، جمع ارشيفا ضخما من الصور لعمليات الابادة الوحشية للارمن. في صوره نرى كيف ان طابور طويل من النساء والاطفال الارمن يسيرون تحت حراسة الجندرمة التركية، وهي احدى الصور التي اصبحت مشهورة للغاية، واصبحت من رموز ابادة الارمن. في عام 1919 قام فيغنير بكتابة رسالة الى الرئيس الامريكي ويلسون، يخبره فيها عن معلوماته وتفاصيل ابادة الارمن. والمعلم الالماني، Martin Niepage والذي كان يدرس في المدرسة التكنيكية في حلب، كتب كتابا عام 1916 وصف فيه عمليات القتل البربري ضد الارمن.

المحكمة العسكرية الاستثنائية، 1919-1920

بعد هزيمة تركيا عام 1918 وعقد هدنة مودروس طالبت الدول المنتصرة بمحاكمة المسؤولين عن الجرائم ضد الاسرى والارمن. غير ان البريطانيين اولوا اهمية رئيسية لمعاقبة المسؤولين عن الانتهاكات الوحشية ضد اسرى الحرب البريطانيين، وفقط بعد ذلك يجري تناول إبادة الارمن. منذ بداية اعمال المحكمة العسكرية الاستثنائية هرب خارج البلاد المتهمون الرئيسيون من قادة الاتحاد والترقي، محمد طلعت باشا، أنور باشا، أحمد جمال باشا، بهاء الدين شاكر، الدكتور ناظم سيلانكيلي بك، عثمان بدري، وجمال عظيم.
لائحة الاتهامات أعتبرت أن عمليات التهجير لم تكن بضرورة الاعمال العسكرية او لاسباب تنظيمية دفاعية وانما بنتيجة خطة للجنة المركزية للاتحاد والترقي، ونتائجها اصبحت محسوسة في كل قرية وزاوية من زوايا الامبراطورية العثمانية. الوثائق الرسمية للدولة التركية كانت هي الادلة الرئيسية التي اعتمدت عليها المحكمة وليس على الشهود. المحكمة اعتبرت ان تنظيم مجازر الارمن من قبل قادة الاتحاد والترقي أمر لايرقى اليه الشك. وأعتبرت المحكمة المتهمين الغائبين: طلعت، جمال أنور وناظم، مذنبين وحكمت عليهم بالاعدام شنقا. ومن المتهمين الحاضرين جرى الحكم على ثلاثة بالادانة والموت شنقا.

الامبراطورية العثمانية ونشوء الجمهورية الارمينية

بنتيجة هدنة مودروس، والتي جرى عقدها 30 اكتوبر 1918 استسلمت الامبراطورية العثمانية لقوات الحلفاء. طبقا لهذه المعاهدة تنسحب تركيا من القفقاس وكيليكي وكل البلدان العربية. بريطانيا على تغيير المطالبة بأنسحاب القوات التركية من ستة مناطق ارمنية الى حق الحلفاء ادخال قوات الى هذه المناطق ” في حال نشوء فوضى”. غير ان قوات الحلفاء لم ينفذوا هذه الفقرة. عند انسحاب القوات الرتكية من منطقة يريفان، قام الجيش التركي بنهب كل شئ وقع بين يديه: مخازن الطعام، قطعان الحيوانات، أدوات العمل، الملابس، الموبيليا وحتى ابواب ونوافذ الابنية الحكومية ونزعوا خطوط سكة الحديد بعد ان ساقوا عربات القطار. في اعوام 1918-1918 جرى موت جماعي في ارمينيا بسبب افتقاد الملابس والدواء والطعام. وبسبب ذلك اجتاح البلاد وباء التيفوس، بنتيجته مات 200 الف ارمني، اي 20% من السكان. هذه الممارسة يعتبرها بعض المؤرخين استمرار للابادة الجماعية للارمن.

الجمهورية التركية والمسألة الأرمنية

بعد نشوء الجمهورية التركية لم تشعر النخبة السياسية والثقافية بضرورة الابتعاد عن جريمة ابادة الشعب الارمني وادانة حوادثها او النأي بالنفس عن قادة هذه الجريمة. النخبة السياسية، بالاساس تتألف من من القادة السابقين للاتحاد والترقي، والكثير منهم شارك شخصيا في ابادة الارمن بالتحالف مع قادة و رؤساء عشائر وقبائل، حصلوا على ارباح كبيرة من نهب وتهجير الارمن والاغريق. إدانة إبادة الارمن ستؤدي الى فرط عقد هذا التحالف.

في اكتوبر من عام 1927، في مؤتمر حزب الجمهورية، تكلم كمال اتاتورك عدة ايام، كيف انه في خضم النضال من أجل الاستقلال ولدت القومية التركية. نص خطاب كمال جرى إعتماده التاريخ الرسمي للدولة. القانون الجنائي التركي يجرم ويعاقب التشكيك او نقد تصورات كمال اتاتورك للتاريخ التركي، مما يجعل من المستحيل حدوث نقاشات في المجتمع التركي.

حسب الاحصائيات الرسمية، كان عدد الارمن في تركيا عام 1927 يصل الى 77 الف شخص. وحسب اتفاقية لوزان، كان على تركيا ان تضمن الحماية والاستقرار وحرية الازدهار وبعض الامتيازات للارمن. غير ان بنود هذه الاتفاقية لم يجري تنفيذها. أستمر ارمن تركيا بالهجرة من البلاد او الاجبار على الاسلام. ” قانون اسم العائلة” الذي جرى اصداره 21 يونيو من عام 1934، يجبر اليهود والاغريق والارمن على التخلي على اسماء عوائلهم التقليدية والتحول الى استخدام اسماء تركية. في فترة الحرب العالمية الثانية، جرى اصدار قانون ضريبة انتقائية على الممتلكات أدت الى افلاس التجار اليهود والارمن والاغريق.

في السنوات الاخيرة اصبح الاعلام التركي ونخبته المثقفة والاكاديميات العلمية والمواطنين يناقشون المسألة الارمنية، الامر الذي عارضه القوميون والحكومة التركية. محرر الجريدة الارمنية هرانت دينك، والكاتب اورهان باموك، وناشر راكاب زاراكولو، اليف شافاق، جرى توجيه تهمة “اهانة الاتراك” اليهم. جرى محاكمة دينك وزاركولو وادينوا. في 19 يناير من عام 2007 جرى اغتيال هرانت دينك من قبل احد الشوفينيين الاتراك. في جازته خرج مئات الاتراك رافعين لائحات مكتوب عليها ” كلنا ارمن، كلنا هرانت”. في ذات الوقت قسم من الاتراك يعتبرون قاتل غرانت على انه بطل قومي.

طريف سردست

من سلسة مقالات بعنوان (إبادة العثمانيون للأرمن)

Share This