الخوف من مواجهة التاريخ: خطوات أساسيّة على طريق المصالحة التركيّة – اﻷرمنيّة

تانير أكتشام*

مقدّمة
تزايدتْ سياسةُ الاعتذار في العالم حتى سمّى البعضُ القرنَ العشرين “عصرََ الاعتذار”.1 وقد قُدّمتْ هذه الاعتذاراتُ من جهاتٍ مختلفة، أفرادًا ومنظّمات مهنيّة وتجاريّة وزعماء دينيين وحكوماتٍ ورؤساءَ دول؛ كلٌ يعتذر لخطإ ما ارتُكب في الماضي.2 ثمة محاولات كثيرة لشرح سبب هذا التضخّم في الاعتذارات، وأكثرُها يتمحور حول أفكارٍ من قبيل العولمة، وانحسار الدول – الأمم، وتزايد النزعة الأخلاقيّة في العالم، وتأثير الهولوكوست [المحرقة النازيّة]، إلخ.3 نقدّم ههنا عرضًا موجزًا لهذه الشروح.

يفسّر ألازار باركان تزايدَ الاعتذارات بتسليط الضوء على “تركيزٍ جديدٍ على الأخلاق.” بالنسبة إليه، تشكّل “الأخلاقُ العالميّة،” المتجسّدةُ في قوانينِ حقوق الإنسان وأعرافه، محدِّدًا أوّليًا لظاهرة الاعتذار العالميّة. إذ يقول إنّ “تفتّح الشعور بالذنْب في العالم” قاد إلى استراتيجيّات مختلفة للاعتذار.4 ويرى جون توربي أنّ الاعتذار السياسيّ نتاجٌ للأعراف الدوليّة بشكل عامّ، ولنجاح نشر الوعي بالهولوكوست بشكل خاصّ، وأنّ الهولوكوست حدّد معاييرَ الاعتذار الكونيّة.5 أما ميشيل – رولف ترويلوت فيجد أنّ موجة الاعتذارات السياسيّة تعبّر عن انتصار أفراد ليبراليّين على الجماعة؛ ففي عالمنا الكونيّ نفكّر بالجماعات وكأنها أفراد، وننسب إليها بعضَ خصائصهم كالعيب والشرف والذنْب والكرامة والكبرياء، وبذلك نتوقّع منها أن تتصرّف ضمن هذه التصنيفات الأخلاقيّة المترسّخة.6 يختلف جيفري ك. أوليك وبريندا كوفلين مع هذا الطرح ويعتبران أنّ “صعود الندم بأشكاله جميعِها علامةٌ على فشل الدولة في خلق آليّات دفاعٍ سيكولوجيّة مُواتية،” ويعكس انحسارَ الجماعات، كالدولة – الأمّة، لا انتصارها.7

أما يورغان هبرماس فيرى أنّ الأفق الزمنيّ للتاريخ قد قُلب: فاليومَ يحلّ رعبُ الماضي وتذكّر الضحايا محلّ جاذبيّة يوتوبيات القرنين التاسع عشر والعشرين التي كانت قد هيمنتْ على نظرتنا عن المستقبل وعن أنفسنا. والمفارقة أنّ هذه اليوتوبيات عينَها كانت مصدر الكثير من الضحايا الذين نستذكرهم الآن. إنّ تذكّر الضحايا وحدَه، لا اليوتوبيا نفسها، هو القادرُ على تشكيل أساسٍ لا شكّ فيه لأحكامنا الأخلاقيّة، وهو جزءٌ مهمّ من الهويّة العالميّة الجمعيّة.8

وأما برنارد غيسن فيرفض أن تكون أنساقٌ ثقافيّة مختلفة، كانهيار اليوتوبيات العظمى، أساسًا وحيدًا لصعود النسق الجديد للهويّة الجمعيّة؛9 ذلك لأنّ انحسار اليوتوبيات العظمى والالتفاتَ إلى الذاكرة حصلا في أمم مختلفة بدرجاتٍ متفاوتة. وهو يفسّر اعتناق طقس الاعتراف الجديد بالتواصل المتسارع، وبتضاؤل أهميّة المسافة بين الشعوب والثقافات والأديان، حتى لم يعد “الآخرون” أجانب غير مرئيين، بل باتوا قريبين إلى حدّ أننا نستطيع أن نراهم ونتواصلَ معهم كلّ يوم. لذلك فإنّ الكليشيهات القديمة لتعريف “الآخرين” بعباراتٍ مزدريةٍ لم تعد صالحة اليوم، ومن نتائج ذلك أننا لم نعد قادرين على أن نتحدّث بفخرٍ عن إبادة العدو وأن نحتفي بانتصاراتنا الماضية التي تقوم على النقاوة الإثنيّة وإقصاء الآخرين. علاوةً على ذلك، كما يقول غيسن، فإنّ هذه الاستذكارات الثقافيّة لا تستمرّ إلاّ إنْ نُقلتْ من مستوى الطقس القوميّ الجادّ والرصين إلى مستوى الفولكلور العديم الضرر؛ فعلى هذه الاستذكارات الجديدة ألاّ تسيء إلى مشاعر الغرباء (الخُرّج)؛ بل إنها قد تجتذب السيّاح أيضًا. وأحدُ طرق تحديد هويّة الذات هو خلقُ صورةٍ لاسياسيّةٍ عن الجماعة الضحيّة يستجيبها المراقبون الخارجّيون. هكذا يصبح التركيزُ على الضحايا بدلاً من المنتصرين، على الماضي بدلاً من المستقبل، على المصير المشابه للخُرّج بدلاً من تجانس الدُخّل، وعلى انقطاع الاستمراريّة بين الماضي والحاضر.

بإمكان المرء أن يقدّم تفسيرًا آخر لنزعة الاعتذار المتزايدة، وهو أنها لا تكلّف شيئًا، إذ إنّ “كثيرًا من هذه الجهود – وربما جميعها – ليس سوى جهدٍ رخيصٍ لتلطيف شعور ذنْبٍ متلكّئ يتعلّق بسوء فعلٍ ماضٍ.”10 يصبح الاعتذار بالمحصّلة لفتةً فارغةَ المضمون. إذا كان في هذا التقييم بعضُ حقيقة، فعلينا أن نأخذ في الاعتبار أنّ اعتذارات الدول قد تلعب دورًا أهمّ بكثير من حيث تطوير أعراف ومعايير جديدة في العلاقات الدوليّة. وأيًا كانت أسبابُ هذه الاعتذارات، فإنّ ما يهمّ هو أنّ عمليّة التصالح مع الماضي قد ابتُنيتْ ضمن نماذج جديدة. وهذه المقالة محاولة لمعاينة التوتّر التركيّ – الأرمنيّ ضمن نموذج جديد.

ضرورة إيجاد نموذج جديد

حتى الآن، كان يُنظر إلى المشكلة التركيّة ـ الأرمنيّة ضمن إطار النموذج القديم الذي أنتج هذه الصراعات، ألا وهو انهيارُ الأمبراطوريّة العثمانيّة وتخاصمُ جماعات إثنيّة وقوميّة مختلفة. بإمكان المرء أن يلقي بتبعة هذه الصراعات على رغبة كلّ من تلك الجماعات في ترسيم حدودها، وهو ما أدّى إلى الإبادة العرقيّة داخل هذه الحدود. اقتراحي هو ضرورة إيجاد إطار مفاهيميّ جديد، ووضع الصراع ضمن إطار النموذج الجديد للعدالة الانتقاليّة، كجزء من جهود الدَقْرطة داخل الدول ـ الأمم الموجودة حاليًا. ينبغي ألا يُنظر إلى الصراع على أنّه مجرّدُ خلافٍ بين فريقَين على أرضٍ أو حدود، بل باعتباره قضيّةَ حقوق إنسان داخل كلا المجتمعيْن وبينهما كجزءٍ من عمليّة دقرطتهما.

وذلك يعني أنّ على تركيا وأرمينيا، كدولتين متجاورتين، تمرّان بمرحلة انتقاليّة، أن تُقاربا الصراعَ كجزء من سيرورة انتقالهما باتجاه الديمقراطيّة: تركيا في عملية قبولها في الاتحاد الأوروبيّ، وأرمينيا في واقعها الجديد كدولة مستقلة بعد انفصالها عن الاتحاد السوفييتيّ. وعلى كل منهما أن تتعامل مع ماضيها كجزء من عملية الدقرطة، وأن تحاول إعادةَ تعريف نفسها، وتعريفَ الأخرى من خلال الحاضر لا الماضي. لكنْ حتى يتحقّق ذلك، على كلّ من المجتمعيْن أن يتفاعل مع الآخر، فاصلاً بشكل واضح بين الماضي والحاضر، بدلاً من البقاء رهينَ الماضي.

جوهر مجادلتي هو أن العلاقات التركيّة – الأرمنيّة الراهنة يمكن أن تتّصف بصرف النظر عن كلّ اختلافٍ صغيرٍ بين الماضي والحاضر والمستقبل، وهو ما يقود إلى إحساس باللازمنيّة. لاحظتْ تينا روزنبرغ، عند الحديث عن أوروبا الشرقيّة، أنّ “أوّل درس تعلّمتُه هو أنّ العديد من الدول لا تتعامل مع ماضيها لأنّ الماضي لا يزال معها.”11 وبالمثل، فإنّ العلاقات التركيّة – الأرمنيّة الراهنة مبتلية بحضور الماضي باستمرار، ومن ثمّ بـ”مِثليّة” الفاعلين sameness of actors في تصرّفاتهم وعلاقاتهم المتبادلة ووجهاتِ نظرهم. فاعلو اليوم يستمرّون بالتصرّف بعضهم تجاه بعض كما فعل سابقوهم. ولكي تتحلّى هذه المثليّةُ بالصدقيّة، يُفترضُ ضمنًا ثباتٌ نسبيٌّ للهويّة الجمعيّة على مرّ الزمن، وتقام سلسلةُ نَسَبٍ تصل المُذنبَ والضحيّةَ الأصليّيْن بممثّليهما اليوم، فيُخلقُ إحساسٌ بالمثليّة بين جماعات اليوم ونظيراتِها في الماضي. وهكذا يمْكن تخيّلُ الفاعلين الجمعيين بوصفهم مُجرَّداتٍ لاتاريخيّةً.

عقليّةٌ كهذه تقاربُ التاريخَ من وجهة نظر مزدوجة: فمن جهة، يُطرح التاريخُ جانبًا من أجل وصلِ فاعلي الماضي بممثّليهم الراهنين؛ ومن جهةٍ أخرى، تَستخدم هذه العقليةُ حدثًا تاريخيًا معيّنًا لتعيين هذه الجماعات في علاقتها بعضها ببعض. وبالنتيجة، بات الشعبان التركيّ والأرمنيّ اليوم مجرّدَيْن واحدهما بالنسبة إلى الآخر، تعميمَيْن لاتاريخيّين؛ بل هما ليسا تعريفَيْن بقدر ما هما ابتناءان. وباعتبارهما كذلك، يمكن المرءَ أن يستبدل بسهولةٍ كلمةَ “تركيّ” و”أرمنيّ” بأيّة صفةٍ من الصفات التي تشكّل “الآخر.” فبدلاً من تصنيفٍ معيّنٍ تاريخيًا، لدينا ابتناءاتٌ فارغة. وبذلك يكون التركيُّ ما ليس الأرمنيُّ إيّاه، ويكون الأرمنيُّ ما ليس التركيُّ إيّاه. فما الذي يمْكن فعلُه لبعث الحياة في هذه الأشكال الطينيّة، ولتحويل المجرَّدات إلى لحم ودم؟
نتيجةً لهذا الدمج بين الماضي والحاضر في مساحةٍ لازمنيّة، يتجمّد التاريخُ أيضًا. ولقد أسهمت الحرب الباردة، مع دعم الغرب غير المشروط لتركيا متراسًا ضدّ الاتحاد السوفييتيّ، في ذلك التجميد. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتيّ، برز الأتراكُ والأرمن من الجليد متجلّدين في الماضي، فواصل كلُّ فريق النظر إلى علاقته الراهنة بالآخر ضمن سياق الفترة التي كان فيها الزمنُ متجمّدًا، أيْ خلال بناء دولتيْهما في بدايات القرن العشرين. إنّ عدم إمكانيّة تمييز الاختلافات بين الماضي والحاضر، وحقيقةَ أنّ كلا الفريقين لا يزال سجينَ ماضيه، مؤشّرٌ قويٌّ على أنّ كلا المجتمعين مصدومٌ نفسيًا. والطريق الوحيدة أمامهما لتعلّم كيفيّة التمييز بين الماضي والحاضر وكيفيّة بناء مستقبل جديد هي مواجهةُ ماضيهما، تاريخِهما المشترك، والتفاعلُ مباشرة بعضهما مع بعض.

لماذا تعاني تركيا صعوباتٍ في مواجهة تاريخها؟

لماذا تتجنّب الدولة التركيّة مواجهة ماضيها؟ قد تكون كلمة “التجنّب” في الواقع لطيفة أكثر من اللزوم. وإلاّ فكيف نفسّر عمق المقاومة التركيّة، والغضب والهياج الدفاعيّ، كلما ذُكر موضوعٌ من قبيل الإبادة الجماعيّة الأرمنيّة؟

تبدو الإجابة بسيطة للوهلة الأولى. إذ تشعر تركيا بأنها تُتّهم ظلمًا؛ وعندها يكون الموقفُ الدفاعيّ مُتوقَّعًا جدًا. لكنّ الأمر ليس بهذه البساطة. فمن المتوقّع أيضًا أن يقوم شخص يشعر بأنه يُتهم ظلمًا بمواجهة متّهِِمِه، وبأن يطالب بالدليل، وأن يتحدّى النتائج. لكنّ تركيا تجرّم أيّة مناقشة للموضوع. والحال أنه يمكن فهمُ موقف تركيا تجاه الماضي بطريقتين. سأبدأ أولاً بملاحظةٍ عامّة، ثمّ ألتفت إلى الإبادة الأرمنيّة بشكل خاصّ.

إنّ نقص الوعي التاريخيّ في المجتمع التركيّ يبعث على الدهشة، حتى ليذهب المرءُ إلى حدّ تشخيص فقدان الذاكرة مرضًا اجتماعيًا هناك. وهذا لا يقتصر على فترة الحرب العالميّة الأولى وإنّما يمتدّ إلى أحداث في الستينيّات والسبعينيّات. النفور من مناقشة الماضي مضربُ الأمثال في الثقافة التركيّة، إذ تُتبّل الأحاديثُ اليوميّةُ بتعابير تفيد بأنّ الماضي لا يهمّ وأنّ المكوث فيه ليس صحيًا. على سبيل المثال، كلمة boşver تعني “انسَ ذلك، لا يهمّ”؛ وتعبير başka işin gücün mü yok? تمكن ترجمتُه بـ “أليس لديك شيءٌ آفضلُ تقلق عليه؟” بهذه الطريقة لا تُنسى الإبادةُ الجماعيّة الأرمنيّة وحسب، وإنّما الماضي الحديث أيضًا. المجتمع التركيّ ينزع إلى النسيان، لا بل يحبّ النسيان. يمكن أن نجادل أنّ في ذلك خللاً ثقافيًا جدّيًا ومصدرًا لكثير من مشاكل تركيا الراهنة. ولأنّ المجتمع التركيّ يفضّل المضيَّ إلى الأمام من دون مواجهةٍ ملائمةٍ للصراعات المُضمرة، فإنّ التوترات الاجتماعيّة تتراكم إلى أن تتفجر على نحو مُبالغ فيه.

يعزِّز هذه الرغبةَ في النسيان واقعٌ تاريخيٌّ آخر: رغبةُ الجمهوريّة الجديدة في خلق تاريخٍ جديدٍ لنفسها. والحال أنّ امتلاك أرض، وشعبٍ متجانسٍ، شرط ضروريّ لبناء الأمّة، لكنه غيرُ كافٍ. فبالإضافة إلى ما يُزعم أنهما الشرطان الإثنو- ثقافيّان أو الإثنو- دينيّان “الموضوعيّان” للأمّة، فإنّ شرط الذاكرة الجمعيّة ضروريّ هو الآخر؛ إنّه الأساس السيكولوجيّ للأمة “المتخيَّلة،” وللدولة القوميّة فيما بعد. خلال عمليّة خلق الذاكرة الجمعيّة، لا بدّ من إعادة كتابة التاريخ القوميّ بشكل فريد يعكس تجربةَ الجماعة القوميّة عبر الزمن. وغاية هذا العمل هي خلقُ شعور مشترك بين أفراد الجماعة بأنهم كانوا متّحدين في الماضي ولا يزالون يمثّلون جماعةً متّحدة. بتعبير إرنست رينان المفصِح، “لا يمكن تشكيلُ أمّة إلاّ بتحريف ماضيها”؛12 “وأكثرُ أشكال التحريف شيوعًا هو ‘النسيان’.”13

حين أخذ مؤسّسو الجمهوريّة التركيّة هذه المهمّةَ على عاتقهم، واجهوا تحدّيًا إضافيًا. إذ لم يكن في وسع الكوادر الكماليّة هؤلاء أن يتطلّعوا إلى قرونٍ قريبة العهد من أجل تأريخ قوميّ تركيّ وشرعيّة قوميّة. من الأسباب الأساسيّة لذلك ميلُ الإسلام إلى “عكس القَوْمَنة،”، وهو ما نجح بشكل خاصّ مع الأتراك العثمانيين الذين تماهوْا بشكلٍ كاملٍ تقريبًا مع المجتمع الإسلاميّ. وكان ذلك من العمق بحيث تنوسي كلُّ الماضي التركيّ السابق للإسلام تقريبًا. هيمنةُ الإسلام على الهويّة القوميّة أقصتْ كلَّ ما كان يُدعى تركيًا إلى النسيان طوال فترة التاريخ العثمانيّ. وكان على حكّام الجمهوريّة الجديدة، من أجل إيجاد أو استعادة تاريخٍ تركيٍّ جديد لأنفسهم، القفزُ إلى الوراء ستمائة عام، متجاوزين بذلك العثمانيين.

ردًا على إهمال العثمانيين خلْقَ إحساسٍ بالتركيّة، وبهدف قطع أيّة صلة بالماضي العثمانيّ، قام مؤسّسُ الجمهوريّة بإقصاء الفترة العثمانيّة إلى النسيان، وعملَ على حجْب الذاكرة الجمعيّة من خلال مُقتَرَبٍ راديكاليٍّ تَمثّلَ في هجر الأبجديّة العربيّة وإدخال أبجديّةٍ لاتينيّةٍ جديدةٍ مع “ثورة” 1928. وفي الأعوام التي تلتْ ذلك، تمّ تأسيسُ معهدٍ للغة التركيّة بهدف إعادة اكتشاف كلماتٍ تركيّةٍ قديمة، أو ابتداع كلماتٍ جديدة. تتريكُ اللغة هذا تمّ بسرعةٍ وجذريّةٍ بلغتا من الحدّة أنْ حُرمت الأجيالُ اللاحقةُ الاطّلاعَ على شهادات أسلافهم الكتابيّة على الماضي؛ فبالنسبة إلى قارئ تركيّ حديث، تبدو النصوصُ الكتابيّة المُلتّنة (من اللاتينيّة) في الثلاثينيّات لغةً أجنبيّةً هي نفسها. وهكذا أصبحتْ علاقةُ المجتمع التركيّ بماضيه وتاريخه محدّدةً بالشكل الذي حدّده بضعةُ أساتذةِ تاريخٍ مُصادَقٍ عليهم رسميًا. من الصعب تخيّلُ مجتمعٍ لا يعرف تاريخَه القوميّ ما قبل عام 1928، لكن الحقيقة هي أنّ الناس لا يستطيعون وإنْ قراءةَ مذكّراتِ آبائهم وأجدادهم. وهكذا فإنّ المجتمع التركيّ اليوم يعتمد على ما علِق في الذاكرة والتجربة والتقليد الشفاهيّ.

هذه الملاحظاتُ تفيد في فهم فقدان الذاكرة الاجتماعيّ في تركيا، لكنها لا تفسّر لماذا يسبِّب موضوعُ الإبادة الأرمنيّة كلَّ هذا الانزعاج لدى الأتراك. لا بدّ، إذن، أن تكون هناك أسبابٌ أخرى، أكثر تحديدًا، لهذه الحساسيّة.

1- الخوف من الذنْب و/أو العار. أوّل ما يتبادر إلى الذهن في محاولة شرح الصعوبة التي تعانيها تركيا في مواجهة ماضيها هو الخوفُ من الذنْب، وما قد يتلو ذلك من عار.14 ربما تكون كلماتُ أدولف آيخمان، إذ حاول قسّيسٌ حثّه على الاعتراف بإحساسه بالذنْب، مفيدة في هذا الصدد: “لا أستطيع أن أسمح لك بغرس الشكّ في قلبي في هذه المرحلة المتأخّرة.”15 الحقّ أنّ الدولة التركيّة أو المجتمع التركيّ يعانيان مشكلةً مشابهة. فبعد تسعين سنةً، يطوّر المرءُ هويّةً معيّنة؛ وإذا ما قبلتْ تركيا ذنْبَها فجأةً الآن، فقد تكون الأعباءُ الأخلاقيّةُ والمادّيّةُ ثقيلة جدًا.

علاوةً على ذلك، يعني الاعترافُ بهذا الذنْب قبولَ أمرٍ مدمِّرة جدًا، وخطر على الهويّة القوميّة التركيّة وعلى صورة الأتراك عن أنفسهم. باختصار، تخاف تركيا من أنّ تمزِّق مواجهتُها لتاريخها نسيجَ المجتمع التركيّ إربًا. هذا الخوف يمْكن شرحُه بفكرة هبرماس عن وجود عنفٍ سرّيٍّ داخل بُنية النسيج الاجتماعيّ ومؤسّساتِ المجتمع، وهذا العنف يخلق بُنية اتصالٍ في المجتمع تشرعن التقييدات الضمنيّة وتستبعد مواضيع معيّنةً من الخطاب العامّ.16 من المهمّ أن ندرك أن هذه البُنية لا تُفرض على المجتمع من قبل الحكّام، بل تُقبل وتُستدخَل من قِبل المحكومين. وبسبب”العنف السرّي” هذا، لا تُقصى المواضيعُ التي يريد المجتمعُ تجنّبها إلى ساحة الماضي وحسب، بل تُنسى تمامًا بإجماعٍ عامّ بين أفراد المجتمع. يصف فرويد هذا بأنه سيكولوجيّة إنسانيّة طبيعيّة تمامًا: “ما يجده المجتمعُ مصدرَ إزعاج يتحوّل إلى خطأ.”17 وهذا ما حدث مع الإبادة الجماعيّة للأرمن: المزعج يُقْصى عن الخطاب العامّ باعتباره خطأ، إنْ لم يكن باعتباره قضيّةً غيرَ موجودةٍ أصلاً. لقد طوّر المجتمعُ التركيّ تخدّرًا أخلاقيًا في ما يتعلّق بموضوع الإبادة الأرمنيّة.

ما نتحدّث عنه هنا هو وجودُ واقعٍ اتصاليّ في المجتمع،18 يمكن وصفُه بأنّه سرّ جمعيّ بين أفراد هذا المجتمع. أجادل بأنّ الإبادة الأرمنيّة قد قُذفتْ، بهذه الطريقة، إلى “ثقب الذاكرة الأسود.” لقد قدّم هذا الإجماعُ المجتمعيّ على “حلفٍ جمعيٍّ للصمت” أولَ هويّةٍ قوميّةٍ بعد تأسيس الجمهوريّة التركيّة. فإذا واجه المجتمعُ التركيُّ التاريخَ الآن، غدا كلُّ شيء عرضةً للمساءلة، بما في ذلك المؤسّساتُ الاجتماعيّة، وأنظمة الاعتقاد، والثفاقة، واللغة نفسُها؛ بل إنّ صورة المجتمع عن نفسه بشكل عامّ تكون عرضةً للمساءلة. ولا شكّ أنّ لذلك بعضَ الآثار المدمِّرة، إذ ليس سهلاً تغييرُ واقع اجتماعيّ تمّت مأسستُه على مرّ تسعين سنة خلت!

2- الخوف من العقاب. سبب آخر لعدم الرغبة في مواجهة التاريخ هو الخوفُ من العقاب. فأكثر المجادلات شيوعًاً هي أنّ تركيا ستُضطرّ، إذا اعترفتْ بالإبادة، إلى دفع تعويضٍ على شكل أرضٍ أو مال. ينظر البعضُ إلى الإصلاح كنوع من الابتزاز الأخلاقيّ، كمحاولةٍ لغشّ تركيا لدفع كميّاتٍ كبيرةٍ من الأرض والمال. يدفع القوميّون على كلا الجانبين بمسألةٍ مفادُها أنّ على تركيا أن تسلّم أرضًا لأرمينيا. ولكنْ ليس لهذه القضيّة أيُّ أساس قانونيّ تبعًا للقانون الدوليّ.19 ولوادّعى البعضُ أنّ هناك مسألة أرض لم تُحلّ بعد، فلن تكون أيّةُ مصالحةٍ بين الدولتين ممكنة.

لقد تحدّث رئيسُ الوزراء الألمانيّ السابق هلمت كول عن أهمية “تثقيب” الحدود في عمليّات المصالحة. وحدّد الهدف من جهود المصالحة الألمانيّة – الفرنسيّة والإسرائيليّة والبولونيّة بالكلمات الآتية: “نريد أن نحقّق الأهداف التي أعلنها أديناور باعتبارها الغايات الأساس للسياسة الخارجيّة الألمانيّة عام 1949: الفهم والمصالحة، وبخاصّة مع فرنسا وإسرائيل وبولونيا. نودّ أن نخلق مع جارتنا الشرقيّة بولونيا ما كان ممكنًا مع… فرنسا. علينا أن نتعلّم درسًا حازمًا… أنه لن تكون مشاكلُ حدوديّةٌ في أوروبا مرةً أخرى… علينا أن نجعل الحدود مثقّبة، كما هي الحال بين ألمانيا وفرنسا… ولهذا نريد أن تصبح بولونيا… جزءًا من الاتحاد الأوروبيّ.”20

إذا طرحنا جانبًا مشكلة إعطاء أرض لأرمينيا، فسيكون لأطروحة التعويض/الإصلاح هذه شيءٌ من الملموسيّة، على شكل تعويض من الخسائر الفرديّة، ممتلكاتٍ وثروات. وذلك يعني أن تُوافق تركيا على دفع مبلغٍ محدّد من المال لتعويض الأرمن من خسائرهم في الماضي. لذا يمكن القول إنّ أحد أسباب ممانعة تركيا للتاريخ هو أنها إذا اعترفتْ باقتراف خطإ في الماضي، فسيتوجّب عليها دفعُ تعويضات الآن. وعليه، يمكن الاستنتاج من هذا النوع من المجادلات أنّ ما يهمّ تركيا ليس ما حدث فعلاً في الماضي، بل ما قد يترتّب على الاعتراف بذلك من عواقب. بيد أنّ هناك مؤشِّرات أخرى تعارض هذه الفرضيّة. ففي 18/6/1987، أعلن الاتحادُ الأوروبيّ أنّ أحداث 1915 تُعتبر إبادةً جماعيّةً بحسب اتفاقيّة الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعيّة والمعاقبة عليها لعام 1948، لكنه أضاف أنّ البرلمان “يقرّ بأنّ تركيا اليوم لا يمكن أن تتحمّل مسؤوليّة الفاجعة التي حلّت بأرمن الإمبراطوريّة العثمانيّة، ويؤكّد أنه ليس ممكنًا اشتقاقُ أيّة مطالب سياسيّةٍ أو قانونيّةٍ أو ماديّةٍ بناءً على الاعتراف بهذا الحدث التاريخيّ كعمل إبادةٍ.” وقد أقرّ البرلمان قراراتٍ أخرى معدّلةَ المضمون بعض الشيء في السنوات التالية،21 لكنها لم تنفعْ في شيء. وحتى حين أعلن الرئيسُ الأرمنيّ السابق روبرت كوشاريان أنّ الأرمن لا يطالبون تركيا بأيّة أرض، وأنّهم قد يقْنعون بإقرارٍ لفظيٍّ فقط، ظلّ الأتراكُ غير مقتنعين وغارقين في قلقهم العميق من هذه القضيّة.22 ومع ذلك، يمكن أن يجادل المرء أنّ ضمانةً قويّة من المجتمع الدوليّ تحمي تركيا من أيّة عواقب مقابل الاعتراف بالإبادة قد تخفّف عنها الضغط. لكنْ، لمّا كانت تركيا غيرَ مستعدّة لمواجهة التاريخ، فإنه يبدو أنّ هناك أسبابًا أخرى عميقة لذلك، ندعوها بـ”الجوانب الأخلاقيّة” للقضيّة.

3- ما بعد الصدمة النفسيّة والخوف من الماضي. إذا صنّفنا جانب العقاب سببًا مادّيًا، فسأجادل أنّه ليس العاملَ المسيطر في ردّ فعل تركيا على مواجهة تاريخها. فثمة مجادلات أخلاقيّة تبدو أكثر أهميّةً. إحداها هي الصدمة النفسيّة الماضية وصعوباتُ مواجهتها؛ والأخرى هي الاحتمالُ المرعب لأن يُنعت بعضُ الآباء من مؤسِّسي الجمهوريّة بالسارقين والقتلة. أخيرًا، قد يسأل البعض: أين ينتهي الشعورُ بالذنب واتهام الذات؟

لطالما كان يُنظر للأرمن بوصفهم رموزًا تُذكّر دائمًا بأكثر الأحداث التاريخيّة صدمًَا للأتراك: انهيار الإمبراطوريّة.23 ويمكننا وصفُ هذه العملية على النحو الآتي: وقعت الإمبراطوريّة العثمانيّة، التي امتدت يومًا على ثلاثِ قارّات، أسيرةَ الانحلال والتجزئة خلال 150 عامًا من وجودها. أيقظت الحروبُ والهزائمُ والخسائرُ الكبيرة في الأرواح التي تلت ذلك مخاوفَ عميقةً تتعلّق بديمومة الإمبراطوريّة. يكفي أن نستذكر أنه “بين عاميْ 1870 و1920، فقدت الإمبراطوريّة 85 بالمئة من الأراضي التي كانت تحْكمها و75 بالمئة من سكّانها.”24 وترافق الانهيار مع ما اعتبرته النخبة الحاكمة سلسلةً مستمرةً من الإذلالات والإهانات للشرف العثمانيّ – التركيّ من قِبل القوى العظمى. شعر الحكّام العثمانيون أنهم سيصبحون نكرات؛ أنهم سيُطرحون جانبًا، سيُجتثّون، وأنّ بلادهم ستتقاسمها القوى الأوروبيّةُ والشعوبُ الأخرى القاطنة في الأناضول. بتعبير آخر، كان يواجههم محوُ الدولة بشكل كامل. مع تأسيس الجمهورية التركيّة، ظنّ القادة أنهم لأموا جراحَ الماضي، إذ اعتبروا تأسيس الجمهوريّة عام 1923 بدايةً جديدةً لعصرٍ جديد. ومن الطبيعيّ أن يُعتبر كلُّ ما قد يُذكّر بالفترة السابقة أمرًا يجب تجنّبه. باختصار، يرى المجتمعُ التركيُّ نفسه عنقاءً انبعثتْ من رمادها، لكنّ الأرمن يذكّرونهم بذلك الرماد. لقد اعتُبرت الجمهوريّة، وهي رمزُ الانتصار الأخلاقيّ لمشروع جماعيّ بُني على ركام الإمبراطوريّة وحظي باحترام أقرانه أيضًا، مرهمًا لجراح الهزيمة والموت خلال الحرب. من المفهوم، إذن، أن يتمّ تجنّب أيّ نقاش عن الفترة التي سبقت الجمهوريّة.

من المعروف في علم النفس أنّ بعض المرضى النفسيين تنقصهم المرونةُ العاطفيّة لمواجهة الصدمة النفسيّة التي تسبّبتْ في مرضهم. ويمْكن قولُ الشيء نفسه عن كلّ جماعة مرّت بصدمات نفسيّة عظمى في تاريخها، لكنها لم تمتلك ما يكفي من الشجاعة – أو ربما لم تسنحْ لها الفرصة – لمواجهة تلك الصدمات، بل آثرتْ أن تكبتها أو أن تنساها. هذا النوع من مقاربة التاريخ يشْبه حالة عقليّة معيّنة تُوصف في التحليل النفسيّ بالشخصيّة الهستيريّة.25 يعاني الأتراك هذه المشكلة الاجتماعيّة – النفسانيّة، التي حلّها الوحيد هو مواجهة مباشرة مع أحداث الماضي ومناقشة مفتوحة لهذا التاريخ.26 لن يَبْرأ المجتمعُ التركيُّ من جراحه حتى يستطيع مواجهة الماضي وإعادةَ دمج ذكرى الصدمة النفسيّة في سرد تاريخيّ متماسك.

4- معضلة تحويل الأبطال إلى مجرمين. ثمة عامل إضافيّ عزّز الحاجةَ إلى تجنّب مواجهة التاريخ. “فإذا تبيّنتْ جماعة أنّهم [أيْ آباءها المؤسِّسين]، بدلاً من أن يكونوا أبطالاً، كانوا آثمين أو مرتكبي جرائم انتهكوا الأسسَ الثقافيّة لهويّتهم نفسها، فستغدو أيّةُ إشارة ٍإلى الماضي صادمةً حقًا. ليس بإمكان الجماعةَ أن تتعايش مع التناقض الجوهريّ بين ادّعاءات الهويّة والاعتراف إلا من خلال فصام شخصيّة جمعيّ، من خلال الإنكار، أو الفصلِ بين الأشياء، أو الانسحاب.”27

هذه هي الحال تمامًا في تركيا. فقد ضمنت استمراريّةُ النخبة الحاكمة، من الإمبراطوريّة العثمانيّة إلى الجمهوريّة، أنه ستكون هناك علاقةٌ قويّةٌ بين إبادة الأرمن وتأسيسِ تركيا الحديثة. وثمة رابطة ثلاثيّة الأبعاد. أولاً، بعد خسارة الحرب عام 1918، نُظّمت الحركةُ القوميّة في الأناضول من قِبل الجهة نفسها التي نظّمت الإبادة الأرمنيّة. وحتى قبل الحرب، كانت هذه الجهة، أيْ “جمعيّة الاتحاد والترقّي،” قد رسمتْ خططًا للمقاومة في حال الهزيمة العسكريّة، فأسّستْ بعد الهدنة مباشرة أولى منظّمات الدفاع والمقاومة في الأناضول، وإحداها، كاراكول، بأمرٍ مباشرٍ من قائدَي الجمعيّة، طلال وأنور.28 كانت مهمّة كاراكول الأساسيّة هي تنظيم المقاومة، وتدبير طريق فرار سرّي لأعضاء الجمعيّة المطلوبين بتهمة ارتكاب جرائم حرب. الرابطة المهمّة الثانية هي نتيجة طبيعيّة للأولى: فقد كان عدد لا بأس به من منظّمي الحركة القوميّة الأوائل قد شاركوا هم أنفسُهم في الإبادة، إذ كان الكثير (إنْ لم تكن الغالبيّة) من قادة الوحدات الأولى في “القوات الوطنيّة” في مناطق بحر مرمرة وبحر إيجة والبحر الأسود مطلوبين من قبل قوات الاحتلال والحكومة في إسطنبول. الرابط الثالث بين الجمهوريّة والإبادة الأرمنيّة هو بروز طبقة من الرجال الأغنياء في الأناضول ممن ارتبحوا بشكل مباشر من الإبادة، وكانت هذه الطبقة تحمل لواء الحركة القوميّة في مناطق معيّنة.

من الجليّ أنّ هناك تناقضًا صارخًا داخل الهويّة التركيّة؛ فقد يتقوّض المجتمع إنْ نعت المرءُ أولئك الذين يُعتبرون “المخلّصين العظماء” “الذين خلقوا أمّةً من لا شيء” بالـ “قتلة واللصوص.” يمكن، إذنْ، اعتبارُ الإبادة الأرمنيّة المرجعيّة الصادمة نفسيًا بالنسبة إلى الهويّة القوميّة التركيّة بعد العام 1923. ولا شكّ في أن إنكار الإبادة يبدو أسهلَ بكثير من أخذ زمام المبادرة ومواجهة تحطّم صورة عزيزة على النفس عن الجمهوريّة والهويّة القوميّة التركيّة.

5- أين سينتهي كل هذا؟. من الآراء الأخرى الشائعة في تركيا اعتبارُ مناقشة المظالم التاريخيّة نوعًا من صندوق باندورا [المليء بالمفاجأات]. فأين يبدأ نقاش كهذا، والأهمّ أين ينتهي؟ يجادل العديدون في تركيا أنّ حفر الماضي قد يكون في الواقع ضارًا، وهذا موقفٌ قد يعكس عجز المجتمع عن مواجهة المظالم التاريخيّة بسبب ضخامة الآثام المُرتكبة. إنّ تاريخ العنف الجماعيّ في تركيا العثمانيّة ليشبهُ، فعلاً، بئرًا لا قرار لها.

فإذا أخذنا نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين نقطة بداية، أمكننا أن نصنّف المظالمَ التاريخيّة في فئتين رئيستيْن. فقبل 1923، كان محور الصراع يدور بين المسلمين وغير المسلمين بشكلٍ أسا؛ بل ثمة أعمال عنف متأخرة تجاه غير المسلمين خلال فترة الجمهوريّة، كمذبحة المسيحيين (لا سيّما اليونان) في إسطنبول عام 1955. بيْد أنّ المحور الرئيس للصراع خلال الجمهوريّة انتقل بين الشعوب المسلمة: فبين عاميْ 1920 و1938 فقط، قُمع أكثرُ من 20 انتفاضة كرديّة، ما أدّى إلى مئات القتلى.29 ومع الاقتراب من نهايات القرن العشرين، تزعزع استقرارُ المجتمع بسلسلةٍ من الانقلابات والاختفاءات والتعذيب وفِرق الموت وقمعِ الأكراد والهجمات على العلويين والصدامات المسلّحة بين القوميّين الفاشيّين واليساريّين. فكيف يستطيع مجتمع أن يتحمل كلّ هذا الدمار في تاريخه الحديث؟ من الطبيعيّ أن يرغب في التستّر عليه ونسيانِه.

إحدى السمات المهمّة للصراعات المحليّة في فترة الجمهوريّة هي التغيّر المستمرّ في التحالفات بين قطاعات المجتمع المسلم المختلفة. فبسبب تبادل أدوار الضحيّة، والجلاّد، والمتعاطف، والمراقِب، عبر مراحل مختلفة، يواجه كلّ من المجموعات الإثنيّة والدينيّة والسياسيّة المتقاطعة تحدّياتٍ متفرّدةً في عَرض نفسه تاريخيًا بصورةٍ إيجابيّة. يساهم هذا التاريخ المتشابك، بالإضافة إلى نفور ثقافيّ مشترك من مواجهة الماضي، في زيادة تعقيد مهمّة التصالح مع الظلم التاريخيّ في تركيا. قال كيفن أفروش: “الثقافة تهمّ.”30 وكذلك التاريخ.

دعوني أستشهدْ بمثال قريب عن واقعتين وردتا في التقارير الإخباريّة في اليوم نفسه. في منطقة دياربكر، اكتُشفتْ مقبرةٌ جماعيّة تحوي حوالى عشرة قرويين أكراد.31 يبدو أنّ هؤلاء “المفقودين،” الذين كانوا قد اعتُقلوا من قبل قوّات أمن الدولة، قُتلوا رميًا بالرصاص ودُفنوا معًا. في أخبار أخرى، طلبتْ ليلى زانا، وهي قائدة كرديّة بارزة أمضتْ عشر سنوات في السجن، أن تجتمع بقائد حزب قوميّ محافظ. كرئيس أمن داخليّ سابق في تركيا، يُحتمل أنّ هذا الرجل، قبل سنوات خلتْ، كان مسؤولاً عن الجرائم الشنعاء التي اكتُشفتْ في المناطق الكرديّة، بما فيها المقبرةُ الجماعيّة قرب دياربكر. لكنْ يبدو أنّ كلا الفريقين قرّر أنه من الأسهل أن يبقى ساكتًا عن الماضي من أن يواجه الآخر بأفعاله الماضية. وهكذا يستمرّ فقدانُ الذاكرة. صفّق المعلّقون في الصُحف للاجتماع الودّيّ بوصفه خطوة شجاعة تبعث على الإعجاب على طريق التئام جراح الماضي.32

* جامعة كلارك، قسم التاريخ، كرسيّ روبرت آرام وماريان كالوسديان وستيفن وماريون موغار في دراسات الإبادة الأرمنيّة.

    1-ألازار باركان، ذنب الأمم: التعويض والتفاوض على المظالم التاريخية (نيويورك: دبليو دبليو نورتن، 2000)، ص XVII.
    2-جون توربي، “إعادة تشكيل ما تمّ تحطيمه: إعادة التفكير والإصلاح،” مجلة مودرن هيستري 73، حزيران 2001، ص334-338.
    3-ميشيل- رولف ترويلوت، “طقوس انسحابيّة: اعتذارات تاريخيّة في العصر العالميّ،” إنترفينشنز 2، 2000، ص171-186.
    4-جيفري ك. أوليك وبريندا كفلين، “سياسة الندم: إطارات تحليليّة،” في جون تروبي (تحرير)، السياسة والماضي: عن إصلاح المظالم التاريخيّة (نيويورك، أوكسفورد: دار راومان وليتفيلد، 2003)، ص56.
    5- مُقتبس في بيرنارد غيسن، “صدمة الجلادين،” في جيفري سي. أليكساندر، روي آيرمان، بيرنارد غيسن، نيل ج. سميلسر، بيوتر شتومبكا (تحرير)، الصدمة الثقافيّة والهويّة الجمعيّة (باركلي، لوس أنجلس، لندن: مطبعة جامعة كاليفورنيا، 2004)، ص146.
    6-لمصدر السابق، ص151-154.
    7- مارك جيبني وإيريك روكستروم، “حال اعتذارات الدولة،” هيومان رايتس كورترلي 23، 2001، ص912-913.
    8-مقتبس في مارثا ميناو، بين الانتقام والمسامحة (بوسطن: بيكون برس، 1998)، ص120.
    9- إرنست رينان في أولريخ شنيكنر، حق تقرير المصير، السياسة الإثنو- قوميّة والدوليّة (هامبورغ، 1996)، ص26.

10- إرنست رينان، مقتبس في غاري سميث، “العمل على النسيان،” في غاري سميث وهينديرك م. إمريخ (تحرير)، عن استخدام النسيان (برلين، 1996)، ص15.
11- نموذج رووث بينيديكت الثقافي عن الذنب مقابل ثقافة العار غنيّ عن التعريف. تبعًا لهذا التصنيف، تُجبِر ثقافة الذنْب الجماعة على التحدّث عن أخطاء الماضي؛ وعلى العكس، تتجنّب ثقافةُ العار التحدثَ عن الماضي وتتبنّى شيفرة صمت. أستخدمُ ههنا كلا التعبيرين من دون التمييز الواضح بينهما؛ ذلك أنّ اهتمامي لا يتركز على ما إذا كان موقفُ تركيا في إنكار الإبادة مبنيًا على الذنب أم العار. للمزيد من المعلومات عن ثقافتي الذنب والعار،انظر إيان بوروما، رواتب الذنب: ذكريات الحرب في ألمانيا واليابان (لندن: فينيكس، 2002)، ص252-253.
12- غيسين سوان، السياسة والدَين: القوة المدمّرة للصمت (فرانكفورت، 1997)، ص109.
13-يورغان هبرماس، “يوتوبيا الحاكم الفاضل،” في الثقافة والنقد (فرانكفورت، 1973)، ص386-387.
14- سيغموند فرويد، محاضرات تمهيديّة في التحليل النفسيّ، الأعمال المختارة (فرانكفورت)، ص 16.
15-استعرتُ تعبير “الواقع الاتصاليّ” من إلياس سيبرسكي، الذي يستخدمها إحدى مزايا المنظمات السريّة. إلياس سيبرسكي، المنظمات السريّة والعلنيّة: أسئلة التأويل البنيويّ للظواهر الاجتماعيّة (شتوتغارت، 1967)، ص.51.
16-اتفاقيّتا موسكو وكارس (1921)، الموقّعتان من قبل أرمينيا وتركيا، حددتا الحدود الرسميّة بين الدولتين. اليوم، لا تحتلّ تركيا، تبعًا للقانون الدوليّ، أيّة أراضٍ أرمنيّة.
17-خطاب أمام مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجيّة، شيكاغو، 19 حزيران 1997، نشرة مكتب الحكومة الفيدراليّة للصحافة والمعلومات، رقم 63، 30 تموز 1997، ص751.
18-من أجل قائمة بالقرارات الصادرة عن إبادة الأرمن، انظر
http://www.armenian-genocide.org/affirmation/resolutions/index.php
19-آغوس 2، شباط 2001، عدد 253.
20-ثمة الكثير من الاختلاف على تعبير “الصدمة النفسيّة الجمعيّة.” لكنْ، “رغم الصعوبات المترافقة مع الاستخدام الواسع للعبارة بشكل عامّ، يبدو أنّ هناك حاجة لتعبير كهذا.” أنجيلا كوهنر، “مفهوم ’الصدمة النفسيّة الجمعيّة’،” ورقة غير منشورة قُدّمتْ في ندوة “الشبكة الدوليّة لأبحاث الصدمة النفسيّة العابرة للمناهج،” 28-30 حزيران 2002، فيزبادن-ناورود، ألمانيا، ص1.
21- بناء وتطور مراكز البحث والتوثيق التاريخيين، الأرشيف العثمانيّ، مجموعة يلدز: القضيّة الأرمنيّة، المجلد 1 (إسطنبول، 1999)، ص XII.
22 -للمزيد من المعلومات، انظر ستافروس مينتسوس، الهستيريا: الديناميّات النفسيّة للإنتاج اللاواعي (ميونيخ، 1980)، ص72-82.
23-تانر أكجام، من الإمبراطوريّة إلى الجمهوريّة: القوميّة التركيّة وإبادة الأرمن (لندن، 2004)، ص208-226.
24- برنارد غيسن، سابق، ص114.
25-للمزيد من المعلومات، انظر تانر أكجام، “إبادة الأرمن والجمهوريّة التركيّة،” ورقة غير منشورة قُدّمتْ في مؤتمر “الأرمن والأتراك: ألف عام من العلاقات،” فينيسيا، جزيرة سان جيورجيو ماغيوري، 28-30 تشرين الأول 2004.
26-من أجل كرونولوجيّة لهذه الانتفاضات، انظر كَنَل كورماي باشكانليي، الانتفاضات في الجمهورية التركية 1924 – 1938 (أنقرة، 1972)، ص496.
27-كيفن آفروش، الثقافة وحلّ النزاعات (واشنطن: مطبعة المعهد الأمريكيّ للسلام، 2002، الطبعة الثالثة)، ص ix.
28-راديكال، 10 تشرين الثاني 2004، ص1.
29-أرتوغول أوزكوك، “بالنسبة لمن كان هذا الموعد صعبًا؟”، حريت، 10 تشرين الثاني 2004.

مجلة الآداب عدد ١١-١٢ /٢٠١٠

Share This