إبداع الموسيقار والملحن الأرمني كوميداس

د. نورا أريسيان

(باحثة ومترجمة سورية)

“الشعب هو أكبر مبدع، اذهبوا وتعلموا منه. نحن نعرف الأرياف بجهلها ولكنها تتمثل أمام عيني كمكانٍ مقدّسٍ للفن الأرمني، فأرى هناك الأغنية الأرمنية على شفاه القرويات. فالمحراث والمنجل والأحجار كلها مقدسة بالنسبة لي”.

بهذه القناعة انطلق كوميداس في ظروف صعبة وجال لأكثر من عشرين عاماً في العديد من القرى في أرمينيا وجمع أكثر من ثلاثة آلاف أغنية شعبية من أفواه القرويين.

ولد صوغومون صوغومونيان في كوتاهيا (غرب تركيا) عام 1869 في عائلة تُعنى بالموسيقى. توفت والدته وهو لم يكمل السنة، وفقد والده عندما بلغ الحادية عشرة من عمره، فعاش في كنف جدته ولم يتحدث إلا باللغة التركية.

في عام 1881 وبفضل موهبته الغنائية، اختاره مطران القرية من بين /20/ طفلاً يتيماً لإيفاده الى “إيتشميادزين” -أو كاثوليكوسية عموم الأرمن أي مقر الكنيسة الأرثوذكسية الأرمنية في أرمينيا-.

رغم أن هذا الصغير لم يكن يتقن الأرمنية، إلا أنه كان قد تعلم الغناء وخاصة الألحان الدينية بالأرمنية في البيت من والده وأعمامه. وعندما خاطبه الكاثوليكوس (وهو رأس الكنيسة الأرمنية) لم يفهم هذا الصغير القروي والبائس، فغضب الكاثوليكوس وكاد أن يرفض المرشح الذي لا يتقن الأرمنية. لكن صوغومون أجابه: “أنا لا أتقن الأرمنية لكنني أغني بالأرمنية”. وبدأ بالغناء فاستمع إليه الكاثوليكوس وتأثر بصوته فبكى.

تعلم هذا الصبي الموهوب خلال عام واحد اللغة الأرمنية وكذلك الأرمنية القديمة الـ”كرابار”، وتابع كافة الدورات والدروس في معهد “كيفوركيان” التابع للكاثوليكوسية في إيتشميادزين، والذي يعتبر أهم مؤسسة تعليمية لرجال الدين في علوم اللاهوت والأدب والموسيقى وغيرها.

نصِّب كاهناً عام 1894، وسمي باسم “كوميداس” على اسم كاثوليكوس أرمني في القرن السابع، كان شاعراً وموسيقاراً. لفت كوميداس الانتباه، وسطع اسمه عندما أسس عدة جوقات غنائية. وبعد تخرجه من المعهد، تم تعيينه أستاذاً للموسيقى في ذات المعهد، وقائداً للجوقة في الكنيسة.

وفي الحقيقة تم تشكّل الموسيقى الأرمنية في منتصف القرن التاسع عشر، وبدأت تتطور وفق مبادئ الموسيقى الروسية مع إغفال اللغة الموسيقية الوطنية الأرمنية. فكانت الموسيقى والأغنية الشعبية الأرمنية “متعددة الأصوات” هي الوحيدة القادرة على خلق لغة الموسيقى الأرمنية واسلوبها الفريد. فقد كانت الأغنية الأرمنية الشعبية منها والكنسية “أحادية الصوت” منذ قرون طويلة. وأول من جعلها متعددة الأصوات هو “كارا مورزا”. وقد أتى الى معهد كيفوركيان وأسس فرقة ولم يحجب عن ناظريه موهبة صوغومون الذي ضمه الى مجموعته وجعله مساعداً له(1).

لقد كُتب الكثير عن فترة بقاء كوميداس في المعهد، وكيف كان بعكس زملائه الذين يذهبون في العطلة الى القرى، بينما كان كوميداس ينتظر الزوار في المعهد لكي يستمع الى أغانيهم وصلواتهم ويسجلها.

ويذكر أنه لم يكن يشارك في التدريبات الرياضية والركض الذي يمارسه الطلاب، بل كان يردد صوته النوتات الأرمنية: “خو، نيه، با، بو، …”، وثم الأوروبية: “دو، ري، مي، فا، صول، …”.

كانوا يطلقون عليه تسمية الـ”نوتجي” عندما كان يأخذ بمداد قلمه ويسجل الألحان المغناة من حوله. كان يبقى وحيداً في غرفته الفارغة، إلا من طاولة وكرسي عادي، أما سريره، فكان عبارة عن خشبة وأغطية بسيطة. كان يعيش حالة من الحلم بين تدفق الأنغام وعذوبة الأصوات.

كان لديه موهبة في تعليم الأغاني “متعددة الأصوات” بسرعة كبيرة. وهكذا درّس تلاميذه خلال اسبوعين “القداس” الذي قام بتوزيعه.

وبعد فترة تم إيفاد كوميداس الى برلين عام 1896 ليدرس الموسيقى في معهد البروفسور “ريتشارد شميت” وأكمل دراسته في التاريخ والفلسفة في جامعة “كايسر فريدريخ ويلهلم”. وفي نهاية الفترة الدراسية، كتب بحثاً في الموسيقى الكردية.

كان كوميداس مولعاً بدراسة موسيقى الشعوب، فقد درس الموسيقى الجيورجية والإيرانية والعربية والبيزنطية. وعند تواجده في أوروبا تعرف الى الموسيقى الفرنسية والألمانية والروسية.

قدم بحثه الى “المجمع الدولي للموسيقى”، ونال إعجاب المختصين، وكان أول موسيقي غير أوروبي ينضم الى عضوية المجمع وكان يشارك في اجتماعاتهم، ويلقي محاضرات، ويغني بنفسه.

عاد الى أرمينيا بعد حصوله على الدكتوراه في علوم الموسيقى. ومن هنا بدأت مسيرته في جمع وتسجيل الأغاني، حيث لم يتوقف عند حاجز كونه رجل دين، فكيف بكاهن يتنقل بين الأرياف ويجلس مع القرويين ويستمع الى أغانيهم. ووجد الحل بالتخفي والاستماع الى أغاني القرويين الشعبية من خلف الجدران، ومن أسطح منازلهم حيث كان يسجل ما يسمعه.

وهكذا جمع أكثر من ثلاثة آلاف أغنية أرمنية، وصاغها وقدمها بشكلها النهائي، فكانت متناغمة من خلال الغناء المنفرد والغناء الجماعي وبتعدد الأصوات. في الحقيقة، قام كوميداس بتنقية الموسيقى الأرمنية من ما يشوبها ليجعلها ذات طابع خاص متميز. طبعاً لم يكن همه في ذلك جمع تلك الأغاني فقط، بل دراستها حيث وجد قواعد الأغنية الأرمنية. إذ وجد أن الموسيقى الأرمنية لا تشبه الموسيقى الأوروبية، وجزم بأن الموسيقى الأرمنية مبنية على البعد (ذو الأربع) وليس على طريقة (ذو الثمانية). فحسب كوميداس أن كل أغنية أرمنية كنسية أو شعبية تكون مكتوبة على مبدأ البعد ذو الأربع (tetrachord).

كما أنه وجد قاعدة أخرى وهي بخصوص الأوزان. فالأوزان الأرمنية تتعلق بنبرة الكلمات، ونبرة القصيدة والمعنى. وبذلك ليست محددة بمقاييس الأوزان الأوروبية، فهي حرة، ما يعطيها غنىً أكبر. كان هدف كوميداس أيضاً إيقاظ الوعي لدى الأرمن من خلال جمع الموسيقى والألحان الأرمنية الشعبية وصياغتها في قالب وطني، ونشر جمالية الموسيقى الأرمنية لدى الشعوب الأخرى.

لقد تناول في العديد من مقالاته التي سطرها هوية الموسيقى الأرمنية، ما يجعله متأسفاً بأن التاريخ لم يكتب الكثير عن الألحان الأرمنية الروحية ولا عن النوتات. وينسب انطلاق وتنسيق الألحان الكنيسة الأرمنية القديمة الى “القديس ساهاك” في فترة اكتشاف الأحرف الأبجدية الأرمنية. فقد أدى اكتشاف الأحرف في القرن الخامس الميلادي وترجمة الكتاب المقدس الى ولادة أغاني دينية، ومع تطور الكنيسة ومراسم القداديس ظهر عدد من المنشدين الذين لحنوا التراتيل والأناشيد الدينية بهدف تبسيط معاني الأعياد المقدسة والطقوس الدينية. وهكذا غناء المزامير مهد لألحان التراتيل (2).

ونقتبس الأسطر التالية من مقالة كتبها كوميداس صدرت في 18 أيلول 1913 في جريدة “أزادامارد” الصادرة في القسطنطينية: “لقد قمت بتدوين مواد تاريخية وقعت بين يدي من مصادر أجنبية وأرمنية، ولكنني لم أدرسها. لقد كان محور دراستي واهتمامي المقامات الأرمنية القديمة التي شكلت فكرة عنها من خلال جمع وترتيب وتدقيق المواد خلال عشرين عاماً لوحدي. وقد قمت بهذا العمل من خلال التعمق في معاني المقامات بهدف وحيد وهو أن أتمكن من إظهار الألحان القديمة الأرمنية من المخطوطات، وملائمتها مع المتطلبات الحديثة من أجل تدعيم الموسيقى الكنسية، وأما الموسيقى الدنيوية فهي تعيش بفضل القرويين. وعندما نتملك من الموسيقى الكنسية والدنيوية نكون قد شكلنا فكرة أعمق عن الموسيقى الوطنية بشكلها الكامل”.

من أهم أعمال كوميداس المنشورة: “الموسيقى القروية الأرمنية” و”أغاني شعبية وكنسية أرمنية” اللتان تلقيان الضوء على النظريات الخاطئة بشأن الموسيقى الأرمنية. وفي عام 1906 صدر في باريس بجهود أصدقائه باكورة أعماله بعنوان (الغناء الأرمني) مجموعة “أغاني قروية” كما له العديد من الأعمال الهامة التي تطرقت الى دراسة الموسيقى الدينية الأرمنية حيث أثبت أنه هناك علاقة وطيدة بين الأغاني التراثية والدينية.

ومن أهم أعمال كوميداس هي صياغته للأصوات المتعددة في الأغاني التراثية التي تأتي من عمق الموسيقى الوطنية. وبفضل كوميداس، تم وضع أشكال جديدة للأصوات المتعددة في الأغاني الأرمنية مما ميزها عن أغاني الشعوب الشرقية الأخرى.

وظهرت قيمة أعمال كوميداس، عندما قام العديد من الباحثين من خلال دراسة أغانيه بالمقارنة مع أغاني شعوب أخرى. وكذلك عند إجراء مقارنات بين أشكال عديدة من الأغاني في مناطق مختلفة في أرمينيا وأريافها.

يعتبر بعض الباحثين أن الفترة ما بين 1899-1905 كانت أكثر الفترات ثراء، حيث كان كوميداس يتابع عدة مجالات في الثقافة الموسيقية في وقت واحد، فكان قائداً للجوقة في المعهد، ويقوم بتأليف وتحضير كتباً دراسية للموسيقى، ويؤلف كلمات أغاني شعبية، ويلحن، ويحضر دراسات للمجمع الدولي للموسيقى.

من أعماله أيضاً جمعه وتسجيله لأكثر من ثلاثة آلاف لحن أرمني، وكردي، وإيراني، وعربي، وعشرات الدفاتر التي تحوي نظريات تحويل النوتات الأرمنية، وأعمال حول دراسة الأغاني الشعبية، ومسودات أغاني وغيرها.

وما يعرف الآن من أعمال لكوميداس هو جزء من تلك الأعمال الضخمة والذي يشكل أساس علم الموسيقى الشعبية الأرمنية.

كان كوميداس يسعى الى إظهار الأغنية، كونها حياة القروي، وتجسيد فني لمشاعره وعمله. ولذلك يعتبر كوميداس باحث في الدراسات التراثية، وظاهرة فريدة في الثقافة الأرمنية الحديثة.

كان كوميداس حريصاً على الاحتكاك بالعالم الغربي، ونجح في تعريف الموسيقى الأرمنية أمام كبار الموسيقيين الاوروبيين. حيث كانت له مشاركة ناجحة في المؤتمر الدولي للموسيقى الكنسية في برلين عام 1901. وبعدها أطل على الفرنسيين بعد تمكنه من مشروعه في تأسيس جوقة. فدخل “معهد الدراسات الاجتماعية العليا” للتعرف على علوم الموسيقى الفرنسية، ودأب على دراسة أعمال الموسيقار كلود دوبوسيه وعزفها، وتعرّف على أعمال العديد من المؤلفين الكبار الفرنسيين أمثال: موريس رافيل وكابرييل فوريه وغيرهم.

استطاع كوميداس أن يجمع جوقة مؤلفة من مغنين أرمن وفرنسيين، ودربهم على الأغاني الشعبية، والأغاني الدينية الأرمنية. وبعد أن تمكن من إتقان اللغة الفرنسية، وكانت فرقته قد انتهت من التدريبات وأصبحت جاهزة، قرر تقديم الحفلة المنتظرة فى باريس، لتكون أول تجربة لتقديم الأغنية الأرمنية التراثية أمام النخبة من الجمهور الفرنسي عام 1906. وبعد العرض يتقدم كلود دوبوسيه نحو كوميداس وينحني أمامه قائلاً له: “أيها الأب كوميداس، أنا أنحني أمام براعة الموسيقى الأرمنية”. وقال للجمهور: “كان يكفي لكوميداس أن يكتب أغنية “أندوني” فقط، لكي يكون من الموسيقيين العظماء في العالم”.

وفي عام 1910 انتقل الى القسطنطينية وأسس جوقة الغناء “كوسان” المؤلفة من ثلاث مئة شخص. وبعد أن ارتفعت الأصوات بالأغنية الأرمنية، راح يؤسس فرقاً غنائية في كل المدن التي زارها مثل: برلين، وباريس، وجنيف، والاسكندرية، والقاهرة، وتبليسي، وباكو، حيث كانت تلك الفرق تنشد الأغنية الأرمنية الشعبية منها والكنيسة.

لقد أبدى كوميداس خلال حياته الموسيقية اهتماماً بالغاً بالموسيقى الأرمنية الشعبية، ودراسة الموسيقى الدينية على حدٍّ سواء، معتبراً إياهما أخ وأخت ولدا من ذات الجذور.

كان يقلقه وضع الموسيقى الكنسية بشكل عام، وقد بحث عن طرق جديدة ومبتكرة لتنقية الموسيقى الدينية وأساليب تطورها. حيث قدم من خلال كتاباته مشروعه موضحاً فيه أفكاره في إعادة إحياء وتطوير الموسيقى الدينية. حيث أخذ بعين الاعتبار الوضع المتردي للموسيقى الدينية، وبناء على الدراسات النظرية التي استكملها أقدم كوميداس على تأليف “القداس”.

ويتصدر “القداس” قمة أعماله التي ما زالت تُنشد حتى يومنا هذا أثناء الطقوس الدينية في الكنيسة الأرمنية. وقد اعتمد فيها المبادئ التالية: التخلص من التنغيمات الأجنبية، وخلق انسجام بين الاحتمالات التي أوجدها، واختيار ما هو الأقرب الى روح الموسيقى الكنسية الأرمنية، وملائمة نظم الشعر بمعنى الكلمات، والاستفادة من المقامات القديمة عند تغيير اللحن. وقد تم تسجيل “القداس” أول مرة في باريس عام 1933. والتي تعتبر من أهم الأعمال “متعددة الأصوات” التي ألفها كوميداس في إطار موسيقى الكنيسة الأرمنية.

لقد صاغها من خلال جمع الألحان من كهنة “إيتشميادزين”، وكهنة قرويين، وألحان تراثية قديمة انتقاها، لأنها تحمل الطابع الارمني (3).

من النادر جداً إيجاد فنان أو نحات أو رسام أرمني لم يتاثر بكوميداس وفنه. فقد أضحى كوميداس مادة دسمة للفنون الأخرى، كالفنون التشكيلية، والأفلام الوثائقية، والمسرحيات وغيرها. كما اندرج بين أعمال وإبداعات كبار وعمالقة الأدب الأرمني.

فقد تناول الشاعر المعروف باروير سيفاك عام 1959 في قمة أعماله الملحمية “الناقوس الذي لا يصمت” حياة الموسيقار كوميداس ومصيره، وتتجلى فيها رؤيته وأفكاره، إذ أن الكتابة عن كوميداس تعني الكتابة عن الشعب الأرمني بأكمله، بأغانيه، ودموعه، بماضيه ومستقبله. ومن خلال صوره الشاعرية عالج فكرة الوطن المسلوب، والقهر المستمر، وتشكل هذه الملحمة في بنيتها وخصوصية تعبيرها الشعري ظاهرة فريدة في الشعر الأرمني.

وقال عنه الموسيقار آرام خاتشادوريان: “موسيقى كوميداس هي صافية كتدفق ينبوع جبلي. فإذا أراد الملحنون الأرمن المعاصرون – وينبغي عليهم ذلك – المشاركة في تكوين المدرسة الموسيقية الأرمنية، فيجب عليهم التعرف على كوميداس من صميم قلوبهم”.

إن الأسلوب الخاص لتعدد الأصوات الذي اعتمده كوميداس أثرى الأغنية الأرمنية. ويمكن ذكر بعض الأغاني التي تبرز التعبير الصادق عن خلجاته وحزنه ومنها: (كارونا) أي “إنه الربيع”، و”شجرة المشمش” وآه حبيبتي مارال” و(أندوني) -أي المشرد من بيته-، والتي تصور عذاب الإنسان الأرمني المهجر من بيته.

أما أغنية “طائر الرهو” تحتل مكانة خاصة في قلوب الشعب الأرمني، فهي تمثل الحنين الى الوطن، وقد ظهرت في القرون الوسطى عندما كان الأرمني يتغرب في أي مدينة خارج وطنه. وعندما وصلت الى كوميداس نفض الغبار عنها، وألف لها لحناً خاصاً، بمرافقة موسيقة شفافة الى ان اضحت نشيداً لكل أرمني يحن الى وطنه.

إضافة الى الأغاني، برز كوميداس في الجوقة الكنسية أو التراثية، والتي كانت توزع بنمط تعدد الأصوات من أجل أصوات مختلطة. فقد لحن القداس للصوت الذكوري حصراً.

ومن الأغاني الجماعية نذكر: “صونا يار” (حبيبتي صونا)، “أغنية المزارع”، “سلسلة من أغاني الأعراس” وغيرها. وتنفرد أغنية “أيتها اللغة المدهشة” التي ألفها في استنبول عام 1913 بمناسبة الذكرى 1500 لاكتشاف اللغة الأرمنية والذكرى 400 لطباعة أول كتاب باللغة الأرمنية.

على كل حال يمكن حصر أعماله المنشورة من المقالات كالتالي: “فصول الكنيسة الأرمنية”، و”مواضيع من تاريخ الموسيقى الأرمنية في القرن التاسع عشر”، و”مقالات نقدية”، وغيرها. أما مجموعات الأغاني فهي كالتالي: “ألف لعبة لعبة”، و”ألحان كردية” و”(الغناء الأرمني) مجموعة أغاني قروية”، و”أغاني شعبية أرمنية”، و”أغاني دينية أرمنية”، “علم النوتات”، “كتب دراسية للموسيقى”، “أغاني أجنبية بلغات غربية”، “دراسة عن الموسيقى الكنسية الأرمنية”، “الغناء الأرمني” (4).

لا يمكن إغفال دور كوميداس في التربية الموسيقية، فبالاضافة الى الإرث الموسيقي الذي خلّفه، قام كوميداس برعاية وتنشئة جيل من تلامذته، من منشدين ومغنين، الذين تدربوا على يديه، ونشروا رسالته في أنحاء العالم، خلال حياته وبعد رحيله الأليم.

يمكن أن نستخلص من هذا بأن أعمال كوميداس في الغناء الجماعي والافرادي تنقسم الى قسمين: إبداعات مبنية على مصادر موسيقية شعبية ودينية. وأعمال تشمل مشاهد موسيقية.

فالموسيقار كوميداس كان يُعنى أكثر بأعماله التي تتعلق بالغناء الإفرادي والجماعي والتوزيع. فهي بحق أعمال تأسر القلوب، وتلامس جميع المواضيع مثل: الحوار الذاتي، والنشيد، وطبيعة الوطن، والمناظر الطبيعية، والأعراس الخ.

وهنا تظهر براعة كوميداس في التناغم، واسلوبه الحساس في اعتماد تعدد الأصوات (البوليفوني)، وكذلك الاسلوب الجديد الذي اعتمده بالتنسيق بين خصائص الموسيقى الشعبية وأساليب علم الموسيقى التي كان يعتمدها المؤلفون في أوروبا.

لقد فتحت ابداعات كوميداس واسلوبه في التأليف والتلحين افاقاً جديدة أمام تطور فن الموسيقى الأرمني، ووضعها في إطار تطور الموسيقى العالمية، كما كان لها أثرها الكبير على موسيقى الشعوب الشرقية.

تتمثل الأغاني القروية الأرمنية التي جمعها كوميداس كأنتولوجيا لفنّ الغناء لدى الشعب الأرمني، وفي النظريات التي تطرق لها كوميداس، أظهر أسس الموسيقى الشعبية، ووصف تطور تكوين الأغنية، وقام بتحليل اشكال الاغنية الأرمنية الشعبية وخصائص تأليفها، ووصف قيمتها الفنية. ومن المهم أيضاً ما كشفه عن حقيقة خصائص الاغنية الدينية، وتلاقي أسس الموسيقى الشعبية والدينية. أما المقالات التي كتبها حول النوتات فهي تسهم في دراسة الموسيقى في القرون الوسطى.

تكمن قيمة الفن الذي قام كوميداس بتقديمه ليس فقط في الموسيقى الأرمنية بل في تطور موسيقى الشعوب الأخرى في الشرق. بل يمكن القول أنه من الأمور التي تتمتع بمكانة خاصة، هي الأطياف التي تتناول موقع الأغنية في حياة الشعوب. حيث كان كوميداس يصف عملية خلق الأغنية الشعبية مدركاً عمق حياة ونفسية القروي الأرمني، فيأخذ المتلقي الى ميدان إبداع الشعب.

يملك كوميداس عدداً كبيراً من الأغاني (الفردية والجماعية) المبنية على أساس الأغاني الراقصة. فمن المعروف أن الأغاني الراقصة الشعبية القصيرة التي وزعها كوميداس منتشرة بين الشباب القرويين الأرمن. فخطوط الرقص تحمل روح الدعابة وأجواء الفرحة، فتشكلت سلسلة من الأغاني المميزة وهي: “الحبيبة شوغير”، و”خومار خاركي”، و”اذهبي اذهبي”، و”لا يمكنني اللعب”…

فمما يميزها جميعاً: الرقة، وتناغم الحركة، رغم اختلاف بنيتها فهذه الأغاني تتلاقى في التناغم وفق طبيعة الرقصة. فاستطاع كوميداس أن يعيد تأثير الآلات الايقاعية الشعبية بشكل ساحر.

وهناك أيضاً أغنية “حبيبتي صونا” التي لها مكانة خاصة بين الأغاني من حيث انفرادها بطابعها كنشيد في حلقة رقص جماعية. ليس بسبب موضوع الأغنية الشعبية فقط، بل لأن الصورة الحقيقية باتت أغنى وأثرى بفضل فانتازية كوميداس، وخياله الواسع للتعبير عن الطرب الشعبي والرجولة. فهذه الأغنية الجماعية المعقدة التي تشكلت من ثمانية أغاني جماعية وأغنيتين منفردتين، سوبرانو وتينور، حيكت على موضوع بسيط لأغنية راقصة شعبية.

إن الإرث الموسيقي الذي خلفه الراهب كوميداس غني ومتنوع، وهو يشمل تقريباً كافة مجالات الفن الموسيقي بدءاً من التأليف، والغناء، والقيادة، وجمع الأغاني الشعبية، وتنقية الأغاني من التأثيرات الغربية، والدراسة الموسيقية، وأعمال لا تنتهي.

وأما عن الأغاني التي كتبها، وقام بتوزيعها، فهي تشمل أغاني قروية، وأغاني جماعية، تتكلم عن الحب والشوق، وأغاني الغربة، وأغاني عن العمل، مثل الأناشيد، وأغاني خاصة بالحصاد، وأغاني طقسية تُعنى بأغاني الأعراس، وكذلك أغاني وطنية، وأخيراً أغاني، وتراتيل دينية من القرون الوسطى، تم توزيعها بحس مرهف، وفن راقي. إضافة الى ذلك يتمثل القداس الكوميداسي بالأصوات المتعددة كقيمة حقيقية يمكن أن تنافس أعمال موسيقيين عالميين.

فقد قال عنه ديمتري شوسداكوفيتش: “إن أعمال كوميداس في الموسيقى الأرمنية عظيمة جداً. لقد خرجت إبداعاته الجميلة عن حدود أرمينيا، ووأضحت فخراً للثقافة الموسيقية العالمية. كوميداس ليس فقط مؤلفاً كبيراً، بل هو موسيقار معروف، وباحث في التراث ومن الصعب تقييم أعماله في هذا المجال. إن الموسيقيين ومتذوقي الموسيقى والشعب السوفييتي يحترمون ويقدسون ذكرى كوميداس. إن المؤلفين السوفييت الأرمن يتبعون في أعمالهم على خطى كوميداس العظيم. إن موسيقاه تعيش وستعيش الى الأبد مع الموسيقى السوفيتية العظمى”.

نجا كوميداس من الاعتقال والترحيل بفضل تدخل أصدقائه الأتراك. ولكن ما رآه من عذابات الأرمن خلال التهجير جعل توازنه النفسي يختل. فأمضى بقية حياته في المشافي في استنبول، وثم نقل الى باريس عام 1919 حيث توفي عام 1935، وبعد عام نقل رفاته الى يريفان ليرقد في مدفن العظماء “البانتيون”.

في العام الماضي، احتفل العالم بالذكرى الـ 140 لولادة الموسيقار والملحن والقائد الموسيقي الأرمني كوميداس، كما أحيا عالم الموسيقيين هذا العام الذكرى 75 لرحيله. وحرص الأرمن لإطلاق اسمه على مدارس وشوارع في يريفان، وهناك متحف خاص باسمه، كما يوجد تمثال له في إحدى الحدائق العامة في يريفان، مواجه المعهد العالي للموسيقى في يريفان الذي يسمى أيضاً باسمه.

“كوميداس”، اسم يرمز الى شعب بأكمله بثقافته الغنية ومصيره الحزين. لقد اكتشف كوميداس الموسيقى والأغنية التقليدية ونشرها في أوروبا. فقد استطاع من خلال دراسة الأغنية الشعبية الأرمنية والألحان الكنسية، واكتشاف المقام الأرمني ونظرية الأصوات، أن يبرهن وبشكل علمي وتحليلي أن الموسيقى الأرمنية لها هوية خاصة بها.

كما تمكن من إزاحة ما أشيع عن الموسيقى الأرمنية بأنها حزينة وباكية دائماً. بل أثبت أنها حيوية وفي داخلها هناك روح وفلسفة الشعب الأرمني.

لقد أدرك أن الموسيقى هي صدى لحياة الشعب وما بداخله، وهي عنصر فعال على طريق الوعي الوطني. وبفضل الخامة الصوتية التي كان يتمتع بها، أوصل فن أداء الأغنية الأرمنية الى مستوى عالي. وبذلك يمكن اعتباره مؤسس مدرسة الغناء الأرمنية. فصوته يوحي بكل ملامح شخصيته وملامح الشعب الأرمني في آن معاً، ففي تقلبات صوته يمكن الاستماع والاحساس بتاريخ الشعب الأرمني على مر القرون.

لقد أثبت كوميداس أن الموسيقى والأغنية الأرمنية لها نفس خصائص اللغة الأرمنية. ولذلك نجح في جمع الأغاني الريفية والتراثية وصاغها حيث تشكل الكلمات والالحان والموسيقى وحدة متكاملة.

ونختم بما قاله كوميداس في الموسيقى: “إن الموسيقى لهي ضرب من الحركية، كالضوء والحرارة والكهرباء الخ. وهذا أمر بسيط جداً، لأنه الموسيقى تتكون من الأصوات التي ليست إلا حركات أتت من الجو. ولذلك يجب أن نرى في الأغنية أو اللحن الحركية أولاً. وتلك الحركية تتوافق مع حركية العالم الداخلي، أي المشاعر والاضطرابات. فحركات العالم الداخلي للانسان هي نتيجة لحركات العالم الخارجي. وهكذا، تعدد البيئة يولد تعدد المشاعر. وبما أن الموسيقى هي انعكاس للمشاعر، فتظهر أمامنا بحزن وسعادة وسمو، وفق البيئة التي يعيش ويشعر وينتج فيها هذا الشعب”.

المراجع:

  1. فارتانيان فارتان، “المسافر الى الأبد”، بيروت، 1991، ص 28.
  2. كيفوركيان هرانت، “العيش مع كوميداس”، حلب، 1993، ص 153.
  3. سافاريان خاتشيك، “المبدع كوميداس”، يريفان، 1999، ص 122.
  4. كيفوركيان هرانت، “العيش مع كوميداس”، حلب، 1993،  ص 148.
Share This