من ديار بكر إلى لالش رحلة ثلاثين يوماً من الحزن

معظم الذين أعرفهم من المهتمين بمجازر العام 1915 في ما يخص القضية الارمنية والسريانية، توجهوا إلى العاصمة الأرمنية يريفان للإحتفاء في شهر نيسان بالذكرى المئوية للمجازر التي طاولتهم. أما أنا فتعرضت لسخرية أهلي ومعارفي حينما قلت لهم إني مسافرة إلى جنوب تركيا للغرض نفسه، إذ قالوا لي إنه لن يكون هناك أي احتفال في ديار بكر بل الجميع سيكونون في أرمينيا أو في اسطنبول. وصلتُ ليلة 22 نيسان، قادمة من شيكاغو بعد سفر اكثر من 18 ساعة. كان هدفي الأول طبعا تذكر ما حدث للأرمن في ديار بكر قبل مئة عام، المدينة التي كان لها النصيب الأكبر من الترحيل في منطقة الأناضول. أما هدفي الثاني فكان شخصياً جدا، إذ اخترت المشي في خطى موكب المرحّلين والوقوف عند الكنائس والأمكنة التي وصفتُها في روايتي التي أتممت كتابتها أخيرا، وأغلب أبطالها من الأرمن. حوادث الرواية تبدأ في قرية قرب ديار بكر وتنتهي في الموصل مرورا بأماكن كثيرة مثل دير الزور ورأس العين في سوريا.

استيقظتُ صباح يوم الثالث والعشرين من شهر نيسان واتجهت إلى كنيسة القديس كيراكوس للأرمن في الحي القديم في ديار بكر. شوارع المدينة ذكّرتني بأحياء دمشق وحلب القديمة مما ضاعف حزني على ما يحدث في سوريا منذ خمس سنوات. دخلت الكنيسة التي أعيد ترميمها قبل بضعة أعوام. خلعت نعلي وولجت حافية لأتحسس برودة المكان كي لا أتخدر وأرتاح في الكنيسة الخالية إلا من مقاعد وشموع ذائبة. تركني الرجل المسؤول عن الكنيسة وهو أرمني، أن أتمشى وأصلي بصوت عالٍ، ثم حينما هدأت روحي بدأتُ بالتقاط بعض الصور.

خرجتُ إلى باحة الكنيسة الواسعة حيث بعض المقاعد والطاولات لتقديم الشاي والقهوة والمأكولات الخفيفة. هكذا هي بلاد الترك، فحيثما وجدت فسحة في مكان جميل سرعان ما تتحول إلى مقهى. وجدت نفسي أحتسي الشاي مع بعض الفرنسيين الأرمن الذين جاؤوا إلى تركيا للغرض نفسه. نصحوني بزيارة معرض للفنان الفرنسي الأرمني أنطوان آغوجيان، عنوانه “صرخة الصمت”، في قاعة كانت في السابق معبدا زرادشتيا هو عبارة عن غرفة واسعة تحت الأرض بقرب البوابة الشرقية عند سور ديار بكر. قبل أن أنطلق إلى المعرض، استطعت أن أميز وجه رجل كان جالسا إلى طاولة بقربي وقد بدا معروفا، إذ رأيته في برنامج وثائقي عن أرمن ديار بكر. كان غفور تركاي، وهذا اسمه، جالسا مع بعض الأشخاص ممّن ولدوا هم أيضا لعائلات كردية واختاروا أن يرجعوا إلى جذورهم القومية الارمنية. لقد غيّر غفور اسمه بعدما اعتنق الأرمنية إلى أوهانيس أوهانيان!

معرض الفنان الفرنسي أنطوان آغوجيان اخترق الزمن والنفوس في هذا التوقيت الحرج. وحشة المكان اضفت على الصور الفوتوغرافية المعروضة بعض الرهبة. معظم زوار المعرض كانوا من اهالي ديار بكر من الشباب والكثير من السياح الأتراك.

كم وددت لو تكلمت إحدى اللغتين الكردية أو التركية لأسأل الزوار عن مدى معرفتهم بالمذابح وإن كانوا يعترفون بها. يقال بأن أحفاد المستبد محمد رشيد والي ديار بكر في تلك الحقبة لا يزالون يعيشون في أحد الأحياء القديمة في ديار بكر.

تركتُ المعرض واتجهت إلى كنيسة مريمانة التي كانت ذات يوم تحتوي على مقعد البطريركية السريانية لكنيسة المشرق (بنيت الكنيسة في القرن الثالث الميلادي). من المحزن أن لا يتعدى المصلون في الكنيسة العشرة أشخاص، نصفهم أعضاء عائلة راعي الكنيسة نفسه، الخوري المحبوب يوسف.

في المساء كان الجو ماطرا وأنا أتمشى في طريقي إلى الكنيسة الأرمنية سورب كيراكوس مرة اخرى لحضور حفل موسيقي منفرد على البيانو. رغم حضوري المبكر كانت الكنيسة تغص بالحضور، أغلبهم من اكراد المنطقة.

على لهيب الشموع المحترقة عزف الفنان الأرمني رافي بدروسيان العديد من المعزوفات الموسيقية ذات اللحن الأرمني، الحزين منها والمبهج. قّدم كل معزوفة بشرح قصير باللغة التركية مع القليل من اللغة الإنكليزية. عزف مقطوعة “صيادو السمك قرب بحيرة سيفان” وايضا بعض اغنيات الحب الأرمنية القديمة. كان المكان مليئا بالصحافيين القادمين من أوروبا واسطنبول للتغطية الإعلامية. سرق حضورهم وكاميراتهم قليلا من رهبة الأمسية وخشوعها.
كان المطر غزيرا حين خرجت متجهة إلى الفندق إذ كان الوقت قد تجاوز التاسعة. عند الباب لفت نظري شخص بدا معروفا. “نيقولاس، أهذا أنت؟”، سألته بلغتنا الآشورية. كان استغرابه شديداً حينما ميّزني رغم الظلام. نيقولاس جيلو أستاذ مختص أكاديمياً بتاريخ المنطقة، نادى كل من كان معه في الفريق وعرفّني عليهم، وهم مجموعة من الصحافيين والمؤرخين والكتّاب، ثم دعاني للحضور معهم لتكملة السهرة في بيت صانع النبيذ وهو سرياني اسمه يوسف، يعيش في حي كان يسمى في يوم ما “حي الكفّار”. عند منتصف الليل رفعنا كؤوس الشراب نخب المحبة والتصالح والأيام الجميلة المقبلة.

الغريب أن أغلب الضيوف السريان وهم من سكان المنطقة لم يكونوا يعرفون لماذا جئنا نحن من بلاد بعيدة. ربما بالنسبة لهم لا يوجد ذكرى للمذابح، وخصوصا أن المنطقة عرفت مذابح وترحيلا وفتكا على مدى سنوات كثيرة قبل العام 1915 وبعده ولا يزالون يتعرضون للمضايقات من الدولة، هم والأكراد أيضا في ديار بكر.

تركنا بيت الرجل السرياني في وقت متأخر. كان بين المجموعة طالبة كردية اسمها ربيعة وكان عليها أن تستقل الباص وحدها فنصحتها بأن تقضي الليلة معي في الفندق. هكذا نمت في تلك الليلة في السرير مع شابة بالكاد أعرفها. لكن جمعني بها تأريخ مكان واحد: جبال حكاري العالية الواقعة في جنوب شرق تركيا، إذ هناك تقع قرية قصرا، التي فيها ولد أجدادي وكان والدي آخر من ولد فيها قبل أن ينزحوا جنوبا. جمعني بربيعة أنها تعمل أيضا متطوعة في منظمة للاجئين، أغلبهم نزحوا من كوباني سوريا وهم من الأيزيديين.

في يوم الرابع والعشرين استيقظنا فجرا أنا وربيعة على صوت المؤذن. اقترحتُ عليها أن نحكي قصصاً متعلقة بالحب والجمال. حكيتُ لها بعضاً من المآثر الآشورية كما وصفتها في روايتي الأولى “سهدوثا”. أما هي فروت لي حكايا كردية من حكاري. في التاسعة والنصف صباحا اتجهنا نحو كنيسة مريمانة لحضور القداس الوحيد الذي أقيم في هذه المناسبة في ديار بكر.

ليلى قصراني

النهار

Share This