تجاوزات التاريخ الأربعة

أحداثٌ أربعة رصًّعتِ الكرة الأرضية والحضارات القائمة- أحداثٌ مختلفة، بعضها جيدة (مثل الديانات التوحيدية الثلاثة، على الرغم من أعتراض البعض بخصوصها)، وبعضها شريرة (مثل الطوفان العظيم الذي غَمَرَ اليابسة متجاوزاً القمم العالية، فجاءت الى الوجود جزر البحر الأبيض المتوسط مثل سانتوريني). أثَّرَت هذه الحوادث على البشرية التي خزنتها في ذاكرتها المتوارثة.

لم يتجاوز التاريخُ هذه الأحداث، بل تطّبَّعت فيه وستبقى الى أن يُصبح الزمن بلا ذاكرة.

أثَّرت أربعة أحداثٍ متميِّزة في القرن الماضي على الأُمم و الدول، فأمتدَّ بها الزمن نحو الحاضر، ولهذا السبب أضحَت هدفاً للبحثِ و التدقيقِ المستمرين.

وبنظرة خاطفة على تلك الأحداث يتبيَّن أنها عديمة الديمومة أيضاً على الرغم من أنها تركت آثاراً في ذاكرة التاريخ، والأخير في مرحلة تجاوزها في الوقت الذي نتطرَّقُ اليها الآن.

من الضرورة أن ننظرَ الى الخلف لتأكيد الماضي وتوقُّع ِ المستقبل وأستقبالِه.

ولأجلِ ذلك يجب البدء من انتهاء الحرب العالمية الأولى عندما كانت باريس في 1919 مركز أستقطاب الفعاليات السياسية. كانت جُثّة  الدولة العثمانية (“رجل أوروبا المريض”) وُضِعَتْ على منضدةِ التشريح بحضور بريطانيا العظمى والحلفاء المنتصرين في الحرب. بدأت واكتمَلَت تقطيع أوصالِ الجُثّة حسب توصيات مارك سايكس البريطاني وجورج بيكو الفرنسي، وكان الأثنانُ من بيروقراطيي وزارتيهما الخارجية. وكانا باشرا بعمليهما قبل سنتين من ذلك التاريخ بإعطاءِ ما ليس لفرنسا الى فرنسا، وما ليس لبريطانيا الى بريطانيا. وعليه وقَعت سوريا تحت الأنتداب الفرنسي، وفلسطين وبلاد ما بين النهرين وقبرص تحت الأنتداب البريطاني. أمّا لبنان التي كانت إدارياً ضمن سوريا، أصبحت كياناً منفصلاً تحت الأنتداب الفرنسي.

وفي العاشر من آب 1920 وُقِّعَتْ على معاهدة في مدينة سيفر في فرنسا و دُعِيَتْ في حينِها “معاهدة السلام مع تركيا”. شرعَنَت معاهدة سيفر أتفاقية سايكس- بيكو، إذ كان الدافع من المعاهدة تقسيم الأراضي الواقعة شرقي البحر الأبيض المتوسط … و هكذا صارت.

جاء تقسيم الأراضي الجديد بمشاكل لم تكن في الحسبان، حيث رُسِمًتْ خطوط الحدود بين سوريا و العراق بشكلٍ تعسُّفي باستعمالِ مسطرةٍ عادية الى خطوطٍ مستقيمة، فقُسِّمَت مثلاً عشيرة شمَّر بين سوريا و العراق.

وفي الوقتِ نفسهِ وَقَعَ الملك فيصل الهاشمي، الذي تُوِّجَ ملكاً على سوريا، ضحية صراعِ القوة والأرض بين بريطانيا و فرنسا، وبعد ستة أشهر خلعته فرنسا عن عرش سوريا. وبسبب أشتراك عائلتهِ (مع لورنس العرب) في الحرب الى جانب الحلفاء، كان على الأنكليز إيجادِ عرشٍ له. وبعد مفاوضاتٍ طويلة صاحبها ليَّ الأذرُع، وجدوا له عرشاً في كيانٍ جديد أوجَدوه بأسمِ العراق والتي كانت منطقةُ الموصل المختلَف  عليها، من ضمنِ أراضيه. وتُوِّجَ تحت أسم فيصل الأول ملك العراق. وأمّا أخوه الأمير عبد الله، الذي أصبح ملك الأردن بعد حين، تُوِّجَ في شرقِ الأردن عندما كانت أسرائيلُ في بدايةِ خَلْقِها تحقيقاً لأتفاقيةِ سايكس – بيكو ووعدِ بلفور. ونتيجة لاستحضاراتٍ بريطانية لاحقة، أصبح عبد الله بن الحسين الهاشمي ملكاً على الأردن التي أُسْتُقْطِعَت من فلسطين.

وأستمرَّت كلُّ هذه الفوضى الناتجة عن أتفاقية سايكس – بيكو لمدة قرنٍ تقريباً، وما الحروب التي قامت و تُقامُ في شرق البحر الأبيض المتوسط، بشكلٍ أو بآخر، تَدُلُّ على تفكيكِ أوصالِ الكياناتِ التي مَنَعَت معاهدةُ سيفر من حدوثِها. و بكلمةٍ أخرى، هذا هو موت ترتيبات سايكس – بيكو.

تجاوزَ التاريخُ سايكس – بيكو…

نتجَ عن تفكيكِ أوصالِ الدولة العثمانية تفكيك نظامِ حكمِ الخلافة. كانت البلادُ العربية الأسلامية جزءاً غير مرغوبٍ بها في دولةِ الخلافة العثمانية، فأحَسَّت بالاستقلالِ عن الظلم الذي لحقها من نظامِ الحكم. لهذا السبب، شاركوا في الحرب ضد العثمانيين بمساعدة لورنس العرب.

تَمَخَّضتِ الأحداثُ في تركيا عن مجيء ضابطٍ تركي بأسم مصطفى كمال (أتاتورك)، فقادَ حملة عسكرية (تقولُ بعض المصادر إن القوى الأوروبية هي التي حرَّضَتْهُ و عاوَنَتْهُ) لتأسيس جمهوريةٍ عصرية وعلمانية. ونجحَ في أحتلالِ ولاية بعد أخرى في حملة إعداماتٍ بالجملة، وقطع رقابَ الملالي، وأخضعَ الأقوامَ الموجودة في تركيا الى سلطته. و لا تستطيع الذاكرة أن تُمحيَ المجازر التي أقامها في درسيم (حالياً تونجيلي)، و إحراقه مدينة سميرنا (إزمير الحالية) مع سكانها من اليونانيين. وقد روى شهود العيان مآساة تلك المدينة، حيث كان سكانها يقفزون الى البحر بالآلاف تخلُّصاً من لهب الحرائق لئلا يحترقوا أحياءاً. كان هذا الحل أختيارهم الوحيد حيث حوصِرَت المدينةُ من الشرقِ والشمالِ والجنوب بقوات مصطفى كمال. لم يكن هناك أي أملٍ بالنجاة غير سفن البحرية البريطانية (الراسية في الميناء-آ.د.). حتى هؤلاء لم يمدوا يد العون لأن الوقت كان الرابعة عصراً وضباطُ السفنِ يتناولون الشاي في ذلك الوقت المعتاد عليه، ويستمعون الى الفرقة الموسيقية وهي تعزفُ أعذب الألحان  على أجهزةِ الكمان. مات الآلافُ من الرجالِ والنساءِ والأطفال غرقاً في الوقت الذي كان بإمكانِ البحرية البريطانية إنقاذهم … ولم تفعل.

ذاقَ الأكرادُ أيضاً من هول المجازر إذ لم تعتبرْهُم الدول العظمى من “الأقليات” ليوضَعوا ضمن بنود معاهدة لوزان 1923-1924 في مجال حماية الأقليات الأثنية في تركيا. جاءت المعاهدة الى الوجود نتيجة الخيال الأستعماري للورد جورج كيرزون البريطاني وعصمت إينويَنو الذي مَثَّلَ الجمهورية التركية المشكَّلة حديثاً من قِبلِ مصطفى كمال. وجاءت هذه الى الوجود لإلغاء معاهدة سيفر الموقَّعة في 10 آب 1920 (رأت الدول الأوروبية أن التحالف مع تركيا قوية أفضل من تقطيع أوصالها الى شعوب المنطقة من أرمن و أكراد بكياناتٍ ضعيفة…فوقّعت معاهدة لوزان… وألغت معاهدة سيفر…- آ.د.)، و لم تعترفْ بالأكراد كأقلَية حالهم حال المسيحيين واليهود الذين تمتعوا بالحماية الإجبارية حسب بنود معاهدة لوزان.

غَيَّرَ مصطفى كمال الحروف العربية، حتى كتابة القرآن بها، الى الحروف اللاتينية. سَنَّ قوانينَ ثورية، بعضها تجميلية، وأكثرها مثاراً للسخرية كانshapka kanunu  أي قانون القبعات، التي أجْبَرَتِ الناسَ على تبديل الطربوش التركي التقليدي بالقبعة الأوروبيةfedora  السائدة آنذاك وبالقبعة ذات الحافة الواقية للشمس.

أّسَّسَ مصطفى كمال نوعاً من الديمقراطية على مبدأ لكل شخصٍ صوتٌ أنتخابيٌ واحد  one-man, one-vote system ، و أسَّسَ أيضاً حزب الشعب الجُمهوري Cumhuriyet Halk Partisi-CHP  الذي سيطرَ على الحياة السياسية للدولة لنصف قرن. وكانت جريدة ulus  لسان الحزب الرسمي تنشرُ مبادئ الثورة التجديدية في الجُمهوريةِ الحديثة.

بعد عقدين من الزمنِ أو أكثر، و ضمن صراعٍ سياسيٍّ داخلي، نجحَ الحزبُ في الحكمِ على رئيسِ الجمهورية جلال بايار و رئيس الوزراء عدنان مندريس بالموت. لم يُنَفَّذ الحكمُ بالأول لكبرِهِ بالسن، أمّا الثاني فشُىنقَ علناُ. كان سببُ إدانتيهما هو الفساد. إضافة الى هذا أتُّهِمَ رئيسُ الوزراء عدنان مندريس على أن رجال الأمن وجدوا قطعة من ملابس داخلية نسائية في قاصتهِ الخاصة…

أصبحت جمهورية تركيا جزءاً من حلفِ بغداد الذي كان أتحاداً بين تركيا و العراق و إيران و باكستان، أما الولايات المتحدة الأمريكية فكانت تحضر بصفة مراقب. وكانت الأستراتيجية المتوخاة من الحلف أحتواء الحدود الجنوبية للأتحاد السوفييتي منعاً لإنتشار النفوذ الشيوعي جنوبا. وقد عُقِدَ الحلفُ بعد معاهدة بورتسموث في 1948 التي كان لها الأهداف ذاتها، ولكنها تحلَّلت وسقطَت بمدة قصيرة.

أنضَمَّتْ تركيا الى حلف شمال الأطلسي NATO  بعد أن وافقت الدول العظمى على أنضمامِها بسبب موقعها الجغرافي.

بإمكان تركيا الآن أن تُقَدِّمَ نفسها كدولةٍ ذات سيادة و علمانية و ديمقراطية.

ذات سيادة، كانت في السابق.

ديمقراطية، كانت في الماضي، لدرجةٍ ما.

ولكن علمانية، لم تكن.

امتّدَّت ديمقراطيتُها الى نظام شخص واحد، صوت واحد في الأنتخابات، ولكنها كانت مقَصِّرة فيما يخص حقوق الأنسان وحقوق المرأة، وحق إبداء الرأي، و الحقوق المدنية كافة. واجه الصحفيون الأعتقال بِتُهَمَةِ إهانة ما هو تركي. وتَعَرَّضَ الى التُهَمَةِ نفسها الأدباءُ والكُتّاب. حَمَلَت تركيا كلَّ هذه الوقاحاتِ وتجرَّأت الى تقديمِ طلب الانضمام الى الأتحاد الأوروبي. وتستمر كل هذه الى يومنا هذا.

غَيَّرَ “قانون القبعات” ما على رأسِ الأتراك، ولكنه لم يتمكّن من تغييرِ ما في داخل الرؤوس…أي طريقة التفكير.

نَتَجَ عن الزمنِ والأحداثِ والتعصُّبِ الديني أخيراً الحالةُ السياسيةُ الحالية التي تسعى الى تأسيسِ خلافةٍ أسلامية معاصرة يدفعها تأجيج سياسي للأغلبية التركية في البلد.

ليس على رئيسِ الجمهوريةِ رجب طيّب أردوغان أن يبذلَ قصارى جهدِهِ لتحقيقِ مأربه، فالأتراك جاهزون و مستعدّون لذلك.

ترأّسَ الرئيسُ السابق عبد الله غول حزب “العدالة و التنمية” الجديد. وتبعهُ سياسيٌّ أكثر فطنة، رجب طيّب أردوغان، رئيس وزرائِهِ السابق ورئيس الجُمهورية الحالي، الذي أُنتُخِبَ بأنتخاباتٍ شفافية سيطر عليها بأغلبية ساحقة جاءت بشخصٍ حُلمُهُ إحياء الخلافة العثمانية، وعكست تلك الأنتخاباتُ عقليةَ ونفسيّةَ المواطن المُنْتَخِب.

انتهجَ أردوغان سياسة َدفْنِ الكمالية وتأسيس خلافة على النمط العثماني. وقد دعا مؤخّراً رؤوساءَ وملوكَ العالم، مع رئيس جمهورية أرمينيا، لحضورِ الأحتفالاتِ المزمع إقامتها لإحياءِ ذكرى أنتصارِ العثمانيين على بريطانيا في معركة كاليبولي (جاناك كاليه – جنّة قلعة) في 24 نيسان 2015، وهو اليوم الذي يتذكّره الأرمن في إحياءِ ذكرى الإبادة الجماعية التي أرتكَبَتْهُ تركيا العثمانية قبل 100 سنة. وهذا العمل هو أكثر من دليل على رغبَتِهِ في التقدُّم نحو خلافة عثمانية هو على رأسِها.

لقد نجحَ في مسعاه…فقد ماتت الكمالية وتجاوزها التاريخ.

في الوقتِ الذي يجري كل هذا في تركيا، أستجَدَّت أحداثٌ تُقلِقُ أمنَ المنطقة، وعلى رأسِها ما دُعيَ بالربيع العربي، الذي أبتدأ في تونس عندما أقْدَمَ مواطنٌ عادي من الباعة المتجوّلين على حرقِ نفسِه حيّاً أحتجاجاً على فسادِ الحُكمِ في تونس و تجاوزاتِه على الشعب. أشْعَلَت هذه الحادثةُ ناراً غير مسيطرٍ عليها في الدول العربية القابلة للأشتعال. نتجَت عن تلك الشرارة حرائقٌ في ليبيا ومصرَ وسوريا واليمن. كان العراقُ في موقفٍ متأزِّمٍ بعد إنتهاء حكم صدام حسين في 2003. وخرّجَ من تحتِ الرماد العداء السُنّي-الشيعي، فالصراع المسلَّحِ بينهما. لم تتمكن الطائفتانِ من السيطرة على خلافاتِهِما من ألفيَّةٍ و نصف الماضية، و الحرب القائمةُ بينهما هي حربٌ بالنيابة. تبحَثُ إيران دائماً عن مصالِحِها الجيو-سياسية في الدولِ العربية من خلالِ التجمُّعاتِ الشيعية في لبنان وسوريا، والعراق بصورةٍ خاصة. أمّا العربيةُ السعودية فتقومُ بتمويل سُنَّة المنطقة.

قّدَّمَ أردوغان نفسَهُ كبطلٍ في الدولِ العربية وكمغامرٍ دائمي وخليفةٍ كارهٍ للحقوقِ المدنية عندما أتَّخَذَ موقفاً مُدافِعاً لفلسطين. أتَّهمَ أسرائيلَ بقتلِ المدنيينَ في غزّة و معاملتها غير الأنسانية للفلسطينيين، في الوقتِ الذي ينكرُ الإبادةَ الجماعية للأرمنِ من قِبَلِ أسلافِهِ. وقّدَّمَ دعماً غير مشروط للأخوان المسلمين في مصر ورئيسِها السابق محمد مرسي، فأنتَقَمَتِ الأدارةُ الجديدة لمصر بتقديمِها قضية الإبادة الجماعية الأرمنية كدليلٍ على إجرامِ تركيا و معاملتِها اللاأنسانية للأقلياتِ في البلد.

أنسَحبَ أردوغان من مؤتمَرِ دافوس في 2009 محتَجّاً على عدمِ منحِهِ الوقت الكافي للكلام في المؤتمر عكس نظيره ممثّل أسرائيل (ففرِحَ العرب والفلسطينيون على أن انسحابَه كان بسبب وجود رئيس دولة أسرائيل – آ.د.). وفي محاولةٍ منه أستفزاز أسرائيل بكسرِهِ الحصارَ المفروضِ على غزّة، أرسلَ سفينة مافي مرمرة مُحَمَّلة بشحنةِ بضاعةٍ مجهولةِ الهُوية حيثُ تصّدَّتها البحرية الأسرائيلية  وكانت النتيجةُ مقتلَ تسعة من البحارة الأتراك.

عندما ننظرُ الى العالمِ العربيِّ الآن، نرى أن الربيعَ العربيَّ قد مات، و تجاوزه التاريخ.

لديَّ لوحةٌ مؤطّرة ومعلَّقة في مكتبتي تتضمَّنُ صفحة كاملة لمقابلة صحفية أجراها صحفيٌّ لجريدة  Ozgur Politica  بتاريخ 30 نيسان 1996 وضع لها عنواناً  “القضية الأرمنية والكردية ذات علاقة متبادلة”. كانت تلك المقابلة صدى للخطابِ الذي ألقيتُهُ في البرلمان الكردي في المنفى في مدينة بروكسيل. أَكَّدْتُ فيه على حقوقنا في أرمينيا الغربية حسب البنود في القسم VI من المواد 88-93 من معاهدة سيفر وأستناداً الى الخارطة الني رَسَمَها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسن.

كان الخطاب ذا توقيت مناسب بسبب الفعاليات السياسية التي كانت تجري خلف الكواليس من قِبَل ألمانيا والرئيس التركي توركوت أوزال والبروفيسور دوغو إركيل لتشكيلِ نوعٍ من الحكمِ الذاتي للأكراد ضمن حدود تركيا، أي ضم أرمينيا الغربية – الولايات الأرمنية الست حسب معاهدة سيفر- الى المقاطعاتِ الكردية المقترَحَة.

كان هذا العمل غير ممكن، وأنا كنتُ هناك لأقولها صراحة.

تحوَّلَت القضيةُ الكردية الى صراعٍ للتحرير عن طريقِ العملياتِ العسكرية في 1984 بقيادة عبد الله أوجلان. كان حزبُهُ ذا التوجُّه الماركسي يدعى حزب العمال الكردستاني PKK .

أستهلَكَتِ الحربُ 35,000 ضحية من الجانبين، وخَلَقَت لتركيا موقف عدم أستقرار وتوازن كدولة ولنظامِها الشوفيني ذي التوجُّه التركي على حساب الأقليات الأثنية في الدولة، بعد أن أنكَرَ مصطفى كمال وجمهوريتُهُ الجديدة الهُويةَ الوطنية للأكراد وعَرَّفَهُم تحت أسم “أتراك الجبل”.

بدأ الكفاح الكردي من أجل حكمٍ ذاتي في أواسطِ القرن التاسع عشر بقيادة الأمير بدرخان الذي أعلنَ الحربَ على الخلافة العثمانية المركزية بتجنيدِ 40,000 من الأرمن والأكراد. لكن حركتَه فشلت. سَحَقَتِ الحكومةُ محاولاتٍ أخرى متعاقِبة قام بها عددٌ من الشيوخِ ورؤوساء القبائل مثل الشيخ سعيد والشيخ عبيد الله. وفي العقودِ الأولى من القرنِ العشرين أرتكبَ مصطفى كمال أتاتورك جريمة إبادةٍ جماعية ضد الأكراد، خاصةً سكان درسيم، إذ أختطَفَ الأطفالَ من صدورِ أمّهاتهم وأودعهم في أماكن بعيدة ليشبُّوا أتراكاً. و أصْدَرَ قانوناً يجْرِّمُ التحدُّث، وحتى الغناء، باللغة الكردية، ومنع الأحتفال بعيد نوروز.

في أثناءِ حملَةِ أتاتورك ضدَّ الأكراد دَمَّرَ ثلاثة آلآف قرية كردية ورَحَّلَ ثلاثة ملايين من الأكراد من ديارِهِم و أصبحوا لاجئينَ في مدنٍ من الأكواخ حول أسطنبول.

بعد أن خّسرَت الحكومةُ في ساحة القتال، نَقَلَت تركيا الحربَ الى القرى الكردية والتجمُّعات السكانية المختلفة، في الوقت الذي شَكَّلَت “حرسُ القرى” Korucu  من القبائل الكردية المخلِصة للدولة لمعاملة أقرانِهِم من الأكراد بطرقٍ حيوانية. قَتَلوا وأغتصبوا بوحشية الرجالَ والنساءَ والأطفال. وفي حادثةٍ معروفة اختطفوا عروسةً يوم عرسها وأجبروها على التعرّي ثم أغتصبوها أمام أنظار أهلها و القرويين.

بعد أن فشَلَ نظامُ أردوغان في إلحاقِ الهزيمة بـPKK ، أنتدَبَ سياسة “Verkurtul”، أي (أدفع وكُن حُرّاً). فاوضوا أوجالان بعد أن قُبِضَ عليه في كينيا و سُجِنَ في جزيرةِ إمرالي. و في العام الماضي، وافقَتْ الحكومة التركية على القيامِ باحتفالاتِ نَوروز وأعطوا الأكرادَ محطّةً إذاعية، وكذلك سَمَحَت تشكيل حزبٍ سياسي بصورة قانونية باسمHalkin Democratic Partisi (HDP)  أي، حزبُ الشعب الديمقراطي الذي إفتتحَ مكاتبَ له في واشنطن. ورَشَّحَ رئيس الحزب صلاح الدين ديميرتاش نفسَه لأنتخاباتِ الرئاسة ضدّ أردوغان. حصلَ على 10 بالمائة من الأصوات فقط، إذ لم يُدْلِ الأكرادُ بأصواتِهِم لصالحِهِ ففاز أردوغان بمساعدة السياسي الكردي مسعود برزاني الذي شاركَه منصَّة الخطابة في ديار بكر.

وأخيراً، قام عبد الله أوجلان بالإشادةِ بالمشاركةِ الكردية في معركة كاليبولي كدليلٍ على الإخلاص الكردي لتلك الحكومة التي جَلَبَتْ الى شعبِهِ الموتَ و الدمار.

وأعتماداً على المُعْطياتِ كافة…من الواضحِ أن الثورةَ الكردية قد ماتت، ومن الممكن أن نقول أنّها استُبْدِلَتْ بعملية تطوُّر. وهذا هو التجاوز الرابعِ للتاريخ في القرنِ الماضي.

هل القضيّتان الأرمنية والكردية مرتبطتانِ مع بعض؟..المستقبلُ وحده سيُجيب عن هذا السؤال…

 

الدكتور هنري أستارجيان

ترجمة: آرا دمبكجيان

Share This