شهادة في مذابح الأرمن … قصة “حلاوة روح” لللأستاذ صريح البني

أيلول 1966

حين قرأ لائحةَ الأعمال المطلوبة منه، على ضفتي نهر الفرات، شعر أنه أمام أستاذه في امتحانٍ، لم يستعد له جيداً.. رفع عينيه نحو المدير العام ابراهيم فرهود، حائراً.. ابتسم الأخير وقال:

  • لائحة طويلة؟ ولكنك ستنفذ ما فيها خلال أسبوعين، لا تقلق.. لدينا في الطبقة مسّاحٌ عتيق، سيساعدك..

حمل معه كتابين جامعيين، ليرجع إليهما، في مهمته الحقلية الأولى، بعد عودته إلى بلده، منذ أقل من شهرين.

بدا مرتبكاً، خلافاً لإسماعيل، الواثق من نفسِه، العارف جيداً كيف يَرصد، وأين يعثر على النقاط المساحية الاستنادية. كانا يقيسان، مع ثلاثة عمّال، التفريعة الجديدة المؤدية إلى الطبقة، من طريق حلب- الرقة، لتحميلها على الخارطة المتوفِّرة، وهي مُنجَزة قبل تنفيذ التفريعة.

اتجها، بعد أن أنهيا عملهما، نحو دكانٍ يجاور البيوت الحوارية السبع التي أنشأها الفريق السويدي من طابقٍ واحد لإقامته وعمله، مطلع الستينات.

على غير الأصول المهنية، نصب اسماعيل الجهاز المساحي، كيفما اتفق، ووجّه نظّارته باتجاه الدكّان الذي يبعد أمتاراً قليلة، ثم سأل بصوتٍ مرتفع:

  • أستاذ.. متى سنزيل هذه الخرابة؟
  • خلال أيامٍ، بعد أن يُعيَّن محور الطريق، وتُؤخذ عيناتُ التربة..

همس اسماعيل:

  • سيحضر إلينا، بعد لحظات.. أنصحُك بأن تزوره في إحدى الأمسيات، فهو مُحدِّثٌ طريف ومثقفٌ أكثر مما يوحي به هذا الدكّان.. ما يرويه لك، لن تسمعه من أحدٍ آخر..

فعلاً، خرج من الدكّان رجلٌ في الستينات من عمره، قامتُه مربوعة، تحمل رأساً كبيرةً.. وهو ينظر من فوق نظارتِه المستريحة فوق قاعدة أنفه الكبير..

اتجه صوبَ اسماعيل ورفيقه بخطواتٍ متمهِّلة، سببها آلام مزمنة في رجليه. حياهما مستطلعاً وجهَ المهندس الذي لا يُليِّن تقاطيعه أثرٌ لابتسامة: هل الأمر جاد، هذا المرّة؟

قال اسماعيل:

  • ألم أخبرك بأن أيامك باتت معدودةً، عندنا، يا خاتشيك.

أجابه بعربيةٍ خلتْ، تقريباً، من لكنةٍ تُميّز الأرمن السوريين:

  • خير ان شاء الله، أنا قاعد في هذه الخرابة، كما تسميها، من أجلكم، بابا. عندما يرغبون سأمضي، فقد اعتدتُ على الترحال..
  • أين ستذهب؟
  • إلى أرض الله الواسعة.. لا يهمّ، دائماً كنتُ أجد مشروعاً ألتحق به. عند ما أغادر، ستفتقد جيرتي لك، لكن ربما يجد المهندس مكاناً مناسباً لدكاني، بعيداً عن ساحات البناء؟

نَسيَ خاتشيك متى تعرّض لأولِ مقلبٍ من المسّاح اسماعيل الذي يصغره بسنواتٍ قليلة. مضى على وجودهما معاً، في الطبقة، أكثر من عامين. اشتركا ببعض العادات، منها تناولهما، في بعض الأمسيات، قليلاً مما يُنعشُ قلبَ الإنسان، وفق خاتشيك، وحبهما المزاح الذي لا يرفع ضغط الدم العالي، لديهما..

الدكان هو الوحيد لشراء المعلبات والمشروبات والسجائر.. افتُتح، منذ أقل من ثلاث سنوات، لتخديم العاملين القلائل الذين حضروا إلى الطبقة، مع فريق الخبراء السويديين، وبعض العابرين من قرى صغيرة، مجاورة.

لا تتجاوز مساحة الدكّان عشرةَ أمتارٍ مربّعة، ويتألف من ثلاثة جدران من البلوك الاسمنتي العاري، لا يتعدّى ارتفاعها المترين، إضافة إلى بابٍ خشبي متهالك في الطرف الرابع، المتجه، شرقاً، نحو البيوت السبع، وهو بابٌ نادراً ما يُشاهد مُغلقاً، ثم سقف من ألواح التوتياء وبعض الأغصان اليابسة، فوق أربعة أعمدة خشبية تستند إلى الجدران. أما أرضيته فصبة اسمنتية رقيقة مرتفعة، قليلاً، عن التراب المحيط، كي لا تتسرب مياه الأمطار إلى الداخل، إذا هطلت، وهي قليلاً ما تفعل..

ينام خاتشيك في جزءٍ خلفي من الدكان يتسع لسريرٍ واحد.. يكفي أن تزيحَ الستارة القماشية الفاصلة بين جناحي العمل والنوم، كما يسميهما اسماعيل، لتلامس ساقُك السرير.

ابتعد المهندس ليراجع سجل القياسات التي نفّذاها خلال النهار، تحت المظلة القماشية الواسعة التي تُخيّم فوق الجهاز.. تاركاً اسماعيل يكمل مشاكسته لخاتشيك..

ينقبض قلبُ القادم، حديثاً، إلى الطبقة، قبل أن يَعتادَ رؤيةَ مشهدٍ واحدٍ رماديٍ، شاحب، متموّج قليلاً، على ضفتي الجزيرة و الشاميّة.. خلافاً لوادي النهر، خلال موسم زراعة القطن.. مازال طقس أيلول حاراً وجافاً. لا يُرى أي أثرٍ لشجرةٍ، في مدى الجهات الأربع.. لكن أغصاناً خضراء قليلةً بدأت تطلُّ من أعلى سور أحد البيوت السبعة، وهو أصغرها وأقربها إلى الدكّان.. يقطنه اسماعيل مع زوجته، المرأة الوحيدة، في المشروع، تلك الأيام.. وهو استثناءٌ حظيَ به اسماعيل لدور المسّاح المميّز، في بدايةِ كل مشروعٍ إنشائي.

يغادر عاملو المؤسسة إلى حلب والرقة، بعد ظهر الخميس، من كلِّ أسبوع، للقاء أسرِهم، ويعودون، صباح السبت. كان عددُهم لا يتجاوز الأربعين، فالمشروع مازال في مرحلةً استطلاعٍ أولي، تُمهِّدُ للتحريات الهندسية ووضع التصاميم، أما أعمال البناء الرئيسة فلن يُباشر بها قبل سنةٍ، على الأقل..

يناوب، في عطلة نهاية الأسبوع، ستة أو سبعة من العاملين، بغرض الحراسة والطوارئ، أو لا يغادرون الطبقة، بسبب بعد المنطقة، التي قدموا منها..

خرج سامح، مساء الخميس، واتجه صوب دكّان خاتشيك. أراد طمأنته، فالوقت مازال باكراً لترحيله، وعندما تجهز سوق الحيّ الأول، قريباً، ضمن مخطط بناء المدينة التي سيقطنها العاملون في إنشاء السد، فسيساعده في الحصول على دكّانٍ بديل، في تلك السوق..

رحّب به خاتشيك واستبقاه لشربِ كأسٍ من الشاي.

قال له:

– أخافتني نظرتك، بابا، أكثر من حديث اسماعيل الذي حفظته، ولكنني مستعدٌ، على كلّ حال، لتلك اللحظة التي سيقولون لي فيها: عليك أن تترك هذا المكان وتجد بديلاً له..

هكذا بدأ تعارفهما وتحوّل صداقةً ستدوم إلى يوم غادر فيه سامح الطبقة، بعد عشر سنوات، عائداً إلى دمشق، مع أسرته.

جلسا متقابلين، خارج الدكان، على كرسيين صغيرين منخفضين من القشّ، دون مساند، يرتشفان الشاي الذي حضَّره خاتشيك، وتركه يختمر، كما يحبون تناوله في هذه الديار.. تبادلا حديثاً تقليدياً عن حرارة الجو وعواصف الطوز التي تجيء، عادةً، مطلع كلٍ من فصلي الربيع والخريف. اشتكى خاتشيك من الحياة الضيقة في الطبقة، ولكن الحال سيتبدل، خلال أشهر.. وطمأن ضيفه أن العقارب قليلاً ما تدخل البيوت المسكونة، وهو شاهدها مرتين في دكّانه، دون أن تلدَعه.. وعلى كل حال فلدى الممرض فيصل حقنٌ شافيةٌ منها..

سأله سامح:

  • هل زرتَ قلعة جعبر، على الضفة اليسرى؟. أفكر بالذهاب إليها غداً الجمعة..
  • لا .. فأنا أخاف عبور الفرات بزورق حسين الهايس.. يمكنُه أن يأخذَك اليها، فهو مناوب غداً.. سمعت أن الجيش سيرسل لنا، قريباً، عبّارة كبيرة، يمكن أن تنقل، بين الضفتين، سياراتٍ صغيرة وشاحنات وحفارات.. أنا لا أعرف إذا كنتُ سأزور القلعةَ، في يومٍ ما، ذلك أنها قريبة جداً من ضريح سُليمان شاه، ولا أرغب لقاء الجنود الأتراك الذين يحرسونه..

يقول لي اسماعيل: إنك تخاف أن يبتلعَك النهر.. فأعترف له بأن الفرات يثير لديَّ أحزاناً كثيرة.. ولكنني لست أحمقاً لأحمِّله مسؤولية من أُغرقوا فيه..

قفزت نصيحة اسماعيل إلى ذاكرة سامح.. فتعجل الدخولَ إلى جعبة مضيفه.. سائلاً:

  • سمعت أن أسراً أرمنية عديدة، من سورية ولبنان، عادت إلى وطنها الأم، مطلع الخمسينات، على ظهر باخرةٍ كبيرة، أرسلها الاتحاد السوفياتي إلى بيروت.. هل فكّرت بالعودة معهم؟

لم يكن خاتشيك جاهزاً لحديثٍ يطلق الشجون، في لقائه الأول مع ضيفه.. صمتَ للحظات، ثم وقف و توجّه نحو فانوس الكاز المعلّق بجانب باب الدكان.. قال، وهو يُشعلُه:

  • وعدوني أنهم سيمددون خطَّ كهرباء لي من التيار الواصل لبيت اسماعيل، وما زلت أنتظر..

ثم تابع، وهو يجلس:

  • هذه أول مرّة يسألني أحدهم، في الطبقة، مثل سؤالك.. نعم، فكّرت، بابا، ولم أذهب.. أنا في سورية منذ كان عمري اثني عشر سنة. جئت قسراً، إلى حلب من تركيا، عام 1915، لا أعرف أحداً في أرمينيا، حتى لو نَبشتُ طويلاً في دماغي، فلن أتذكر الأشخاص الذين ربما بقوا أحياءَ، مثلي، وعادوا إلى قريتنا. في ذهني صورة غائمة عن المكان الذي عشتُ فيه..

لي ابن وحيد، أصبح شاباً وتزوج.. هاكوب وأبناؤه هم كلّ أسرتي، ألتقيهم كل شهر، تقريباً. زوجتي توفيت منذ سنوات..

أشعل سيجارة من النوع الثقيل، وتابع:

  • كما ترى، بابا، أنا كالبدو الرحل، أو مثلكم أنتم المسّاحون والجيولوجيون، تنتقلون من مشروعٍ في الشمال إلى مشروعٍ في الجنوب..

قبل أن أعمل بائعاً، كنتُ ميكانيكياً، كعديدٍ من الأرمن الذين قدموا إليكم. تدرّبت على يد أحد أشطر ميكانيكيي حلب، تلك الأيام. كان أرمنياً اسمه بوغوص، جاء إلى سورية من بلدة قريبة من قريتنا. سمعتُ أنه توفي ودفن في أرمينيا، قبل فترةٍ قصيرة، وهو يزور أحد أبنائه الذي عاد إلى وطن أجداده، على متن الباخرة التي سألتني عنها. حزنتُ لأجله ، ولكن حلمَه كان أن يُدفن في مسقط رأسه، وقد تحقق.

تعلّمت، فيما بعد، تشغيل وصيانة مضخّات المياه التي انتشرت على ضفاف الفرات والخابور والبليخ، مطلع الخمسينات، حين توسعت زراعة القطن، في الحسكة و دير الزور والرقة..

أعود أحياناً لمناطقَ قريبةٍ من تلك التي عملت فيها ميكانيكياً، ولكن في مهنتي الجديدة كبائع.. وأفرح عندما أجد بعض الفلاحين ما زال يذكرني..

إذا استنجد أحدهُم بي، لأصلح مضخّته.. فإني أنسى آلام الروماتيزم وأنقضّ على المضخّة، كعاشقٍ ملهوف.. ثم لا أستطيع النوم، ليلتَها، لأن الآلام تعاودني..

كلّ ما أرجوه، الآن، أن أحيا ما تبقى لي، بأوجاعٍ أقل.. فأنا لم أعد في أحسن أحوالي، كما ترى، وفوق كل ذلك، يريد المسّاح اسماعيل أن يتخلّص مني ومن دكّاني، مع أنه لا يستطيع الاستغناء عني أو عنها..

ضحكا معاً..

توقّع سامح أن لدى خاتشيك شهية البوح أكثر.. وتفريغ ما في قلبه، متحللاً من بعض آلام جسده وذكرياته.. كان يتوق لسماع حكاية الأرمني الستّيني.. سأله:

  • ولكنك لم تقل لي: كيف جئتَ لبلدِنا وأنت في الثانية عشرة؟

صمت خاتشيك، لم يكن راغباً في الكلام أكثر، خلافاً لما تمناه ضيفُه الذي فضّل أن يكفَّ، اليوم، عن طرح أسئلةٍ أخرى، ويترك صديقه الجديد يتحدث، على هواه، وقتَ يشاء..

وقف وهمّ بتوديع خاتشيك. رجاه الأخير أن يجلس قليلاً، فوقتُ النوم مازال بعيداً، وغداً يوم راحة.. وبدل أن يفتحَ ملفَ ذكرياتِه، قال:

  • لقد اشتريتَ منّي أكثر مما بعتني.. وهذا ليس من العدل.. ماذا عنك أنت؟ سمعتُ أنك درست في تشيكوسلوفاكيا؟ يقولون إنه بلدٌ جميل.. ما الذي أعادك، بابا، بهذه السرعة؟
  • لم أزر البلد منذ ست سنوات.. فقد غادرتها عام 1959، من بيروت، مطروداً، مع مجموعةٍ من الشباب السوريين، لأسبابٍ سياسية.. لم يكن لدينا جوازات سفر تتيح لنا العودة. حصلت على جوازٍ من سفارتنا في براغ، قبل تخرجي بسنةٍ واحدة، وكان صالحاً للعودة، فقط.

سأل خاتشيك:

  • لماذا لم تعمل في بلدٍ متقدم وغني، لتكسب خبرةً ومالاً، ثم ترجع، فراتب الموظف صغير، هنا؟
  • تعجلت العودةَ لأنني نويتُ العمل في سدّ الفرات، منذ بداية إنشائه. هل تصدق أنني، يوم وصولي إلى دمشق، سمعت إعلاناً، في نهاية نشرة أخبار التلفزيون المسائية، يقول: ترغب مؤسسة سد الفرات توظيف مهندسٍ طبوغرافي؟.. راجعتُ إدارتَها، في اليوم التالي، ثم باشرتُ العمل خلال أسبوعين.. وكما ترى فأنا المهندس الثالث الذي وصل الطبقة، بعد عدنان ووليد..

ما نراه، في بداية كلّ مشروعٍ، ثمين لا يُعوّض.. مع أنهم ينسوننا، غالباً، في نهايته.. من سيتذكر، عند انتهاء بناء السد، المسّاحين ورفاقهم الجيولوجيين وأصحاب المهن الشبيهة الذين أسسوا؟

قدرنا أن نبقى جنوداً مجهولين.. وهذا لا يحزنني كثيراً.. لعلنا نبقى متواضعين.. ولا تكبر رؤوسنا..

أول أمس، كنا نعيّن في الوادي، على بعد أمتارٍ قليلة من مجرى النهر، مواقع السبور الجيولوجية الأولى التي حُفرت، حديثاً، لمعرفة نوعية التربة، قلت لإسماعيل، وأنا أتباهى بمعلوماتي:

  • هل تعرف أنه، في هذه الأماكن التي نعمل فيها، وُلدت مهنتُنا؟. فعلى ضفاف الفرات، كما النيل.. ظهر المسّاح الأول، في التاريخ.. كان يعيد حدود أراضي المزارعين التي يمحوها فيضان النهر..

سأل خاتشيك، مبتسماً:

  • أخبرني: هل كان المسّاح الأول يحبُّ أكلَ الدجاج؟ يقولون، عندنا، إن بعض المسّاحين كالدرك، فيما يتعلق بالدجاج..

ضحك سامح وأجاب:

  • نكتفي، الآن، بشربِ كأسٍ من الشاي، إذا قدّمه لنا فلّاحٌ كريم، ونحن نقف وراءَ جهازنا، بالقرب من أرضه أو بيته.. هذا ما حصل اليوم معنا.. عندما يكون الحرّ شديداً، منتصف النهار، فلا شيء يروي الظمأ ويخفف الإحسّاسَ بالحر كالشاي الساخن..
  • ولكن مهنتكم صعبة.. أنظر إلى حياة اسماعيل، أنه مشرّدٌ أبدي.. حسناً أنه تزوج للمرة الثانية، ووجد، أخيراً، من ترعاه..
  • مهنتك أيضاً صعبة، كل المهن صعبة، وممتعة إذا أحببناها.. تخيّل أن عملنا يبدأ من رصدِ نجمة الشمال، ثم نهبط إلى الأرض لقياسِها، ونبقى ملتصقين بها، كلَّ يوم وعلى مدى العمر.. تعجبني تسمية قيّاس الأرض أكثر من كلمة مسّاح.. جميلٌ أن تدخلَ الأرض في اسم مهنتِك..

سأل خاتشيك:

  • لعلك تركت في تشيكوسلوفاكيا صديقة، أو ربما زوجة؟
  • لا، ليس زوجةً، ولا أعرف إذا كنا سنتمكن من الزواج، فالحكومة هناك، كما حكومتنا، تمانعان.. كلاهما لا ترغبان تشجيع الزواج من الأجانب..
  • هل ستتقبل هي العيش في هذه المنطقة، تاركةً بلدَها وأهلَها؟
  • ستزور سورية بعد أقل من شهر.. أنا لم أقدم لها وعداً قاطعاً بالزواج، ولكننا اتفقنا أن تتعرف على البلد، أولاً، ثم تقرر هي.. من جهتي، لن أتركها، فقد تعارفنا منذ خمس سنوات، في ليلة رأس السنة.. وطبعاً، لا أستطيع أن أمنعها من اختيار العيش في بلدِها، إذا وجدت بيئتنا قاسيةً..

استمرا يتسامران، إلى وقتٍ متأخر، كان السكون شاملاً، إلا من أصواتِ حشراتٍ ليليةٍ. لم يزر أحدٌ الدكان فيقطع حديثهما. أصبح الطقس لطيفاً، يسمح بالنوم.. قبل أن يتمنى لصديقه الجديد ليلةً سعيدة، قال سامح:

  • أتمنى أن أسمع شيئاً عن ظروف مجيئك إلى سورية.. أعرف من إسماعيل أن لديك قصة مليئة بالمغامرات. سأعود للاستماع إليها، عندما تنوي الحديث..

هزّ خاتشيك رأسه وكأنه يَعدُه خيراً..

الخميس التالي:

  • كنت أعيش في قرية أرمنية صغيرة، لا يتجاوز عدد سكانها المائة، شرق الامبراطورية العثمانية، مع والدتي وشقيقتي آراز التي تصغرني بثلاث سنوات.. وهي قرية لا تبعد كثيراً عن الحدود مع روسيا، زمن القياصرة.

أشعل سيجارةً، ثم تابع بكلماتٍ متباعدة ، كأنه ينقّبُ عنها في تلافيف ذاكرته: لاشك أنك سمعتَ عن مذابح الأرمن، أنا عشتُها..

توفيَ والدي، بعد أن وُلدت شقيقتي بأشهر. قتله الأتراك كما فعلوا مع الكثيرين من الأرمن، هذا ما قالته لي الوالدة، حين سألتها عن سبب غيابه الطويل.. كان عمري، حينذاك، أربع سنوات. أتذكّر، قليلاً، بيتنا الصغير وبعض الأقرباء: جدّيَ وعمي وعمتي التي كان لها صبي اسمه فاهيه، وهو يكبرني بعدة أشهر, تعلّقتُ به كثيراً، وتبعته كظله ونحن نلعب، سويةً، مع أطفال القرية.

جاء دورُنا في الموت، أمي وشقيقتي وفاهيه وأنا وكثيرون من أهالي قريتنا. كان ذلك أيام الحرب العالمية الأولى، بعد وفاة والدي، بعدة سنوات.. عرفت، فيما بعد، أن الأتراك اتهمونا، نحن الأرمن، بالتعاون مع الروس ضدهم، في الحرب الدائرة وقبلها، لأننا مسيحيون مثلهم.. لذلك رأوا أن يتخلصوا منّا، بأية صورة. نصيبنا كان نقلَنا إلى بلاد الشام، وهناك تمّ قَتلنا بطرقٍ مختلفة..

جاء ضابطٌ تركي إلى قريتنا وأبلغنا بضرورة الرحيل، خلال يومين, لحمايتنا من الحرب، فبلاد الشام أكثر أمناً. كانت أوقاتاً حزينةً ومخيفةً..

اتجهت مسيرة أهل القرية نحو الجنوب الغربي من الأناضول، وقام بحراستها رجال دركٍ أتراك، تمّ استبدالهم عدّة مرات، وكانوا يمتطون الخيول.. ضمّت المسيرة كلّ من لم يمت، حتى ذلك الحين، من أبناء القرية، كباراً و صغاراً. انضم إلينا القاطنون في القرى المتناثرة في الجوار. فاتسعت القافلة، ثم عادت تتقلص، من جديد، نتيجة هلاك الكثيرين، على الطريق..

كان لدينا عربة قديمة، كّلُها، تقريباً، من الخشب، حتى دواليبها، ولها حافتان مرتفعتان في جانبيها، بينما تتأرجح من مقدمتها ومؤخرتها سيقانُ من يقودُها أو القاعدون في الخلف.. كان يجرّها بغل بنّي اللون، في منتصف عمره، أسميناه: هامبيراتر، وتعني الصابر، بالعربية. لم يكن في العربة مخمّدات اهتزاز، ولك أن تتخيل معاناة من يركبها لمسافاتٍ طويلة. أحياناً كان السير على الأقدام، لفترةٍ قصيرة، أكثر رحمةً من الاستمرار في ركوبِها.. ولكنها اتسعت لنا ولعمي وعمتي و فاهيه، ولقليلٍ من الأغطية ومؤونة مدخَّنة كي لا تفسُد.. كانت العربة مناسبةً للنوم فيها، ليلاً.

لم يمتلك البعض عربةً مثلُنا، وكان عليه أن يركب الدواب أو يسير على قدميه.. في طرقٍ ترابيةٍ وعرة..

اضطررنا إلى بيع العربة، في قريةٍ تركية، فصابر كاد أن يلفظ أنفاسه.. بسبب حمولتنا الثقيلة التي أنهكته، ولأننا لم نعد قادرين على إطعامه.. رفض أن يتابع السير، ولم يستجب لأيٍ من محاولاتِ تشجيعه.. صلَّت عمتي من أجله، ونحن نودِّعُه.. وعندما ابتعدنا عنه، قليلاً، أصدر صوتاً قوياً ملتاعاً..

قال عمي بحزنٍ ساخر:

  • صابر يودعنا، على طريقته، ويعتذر لأنه لم يعد قادراً على حَملِنا..

تابعنا السير على أقدامِنا، حاملين أمتعتنا وما تبقى من مؤونة، وبعض النقود التي شارفتْ على النفاذ.. فقد اشترينا بأثمان باهظة، القليل مما يلزمنا، في القرى التركية التي مررنا بها..

لا أستطيع أن أذكر لك كم قطعنا من الطريق، قبل أن نبيع العربة، لأن وجهة سيرنا لم تكن معروفة لنا، بصورةٍ واضحة، فقد قيل إننا نذهب إلى بلاد الشام.. ولم يعنِ لنا ذلك الكثير..

ساءت أحوالُنا، بعد ذلك، بشدّة.. أصبحنا ننام في العراء، منهكين، عندما يحلّ الظلام، ثم نستيقظ، مطلع الفجر، ونتابع مسيرة الموت.. كثيراً ما سمعتُ والدتي تتمتمُ بصلاةٍ قصيرةٍ، إلى يسوع ومريم، لينجّينا، أنا وآراز.. كانت تطلب منّا أن نتلوها معها.. ونحن ملتصقين بها.. انحفرت صلواتها تلك، في ذاكرتي.. فهي الكلمات القليلة التي سمعتها منها، خلال سيرنا المتواصل، دون نهاية..

حاول رجالٌ، من قافلتِنا، الهرب.. ربما نجا بعضهم، فلم نعد نراه بيننا، ولكننا سمعنا، في أحيان كثيرة، أصواتَ رصاصٍ قريب.. وبالكاد أصبح الأمر يعنينا..

بعد أيامٍ قليلة، لم تعد أختي آراز قادرة على المتابعة، حملها عمي جزءاً من الطريق. كانت تذوي وتذوب، بسرعة، ولم تعد تأكل أيَّ طعام، ثم لم تعد تستفيق.. اقتربتُ منها وحاولت التكلم معها.. لم تجبني..

تطلّع إلى البعيد، حيث ذكرياته، وتابع بصوتٍ خفيض، بالكاد يُسمع:

  • ماتت آراز..

صمت وهو يدير رأسه، بعيداً عن عيني ضيفِه، ثم تابع، بعد برهة: رفضت أمي متابعة السير، وأرادت أن تبقى بجانب المكان الذي دفنّا فيه أختي، على عجل.. أهَلَنا بعض التراب فوق جسدها الصغير الضامر حدّ التلاشي.. كان قبراً وحيداً في البرّية، لن تشاهده على بعد خمسة أمتار..

هدّد دركي، من مرافقينا، والدتي بدفنها جانب ابنتها، في الحال، إذا لم تتابع السير..

بالنسبة إليّ، كان موت آراز، هو اللحظة الأقسى في رحلتنا الرهيبة، بل في حياتي كلّها.. بقيتُ أنظر خلفي، حيث تركنا آراز الحبيبة الحلوة الصغيرة، تحت التراب.. فهمت ماذا يعني الموت، بأقسى صورةٍ يمكن أن يتعرض لها قلبُ طفل..

ثم، بعد ثلاثة أيام، مات فاهيه.. ولحقته عمتي..

لا تسألني كيف استطعنا أنا وأمي وعمي وبعض الرجال ونسوة قليلات، من قريتنا وغيرها من القرى، أن نبقى أحياء.. هي أرادة الرب الذي أمدّنا بقوةٍ، لتحمّل مزيدٍ من العذاب.. أصبح الموت أمراً عادياً، بل مشتهىً بالنسبة لكثيرين، ولا تصل أخباره لمن هم في مقدمة القافلة، فالميت، غالباً، ما يكون ممن هم في آخرِها.

لم نعد ندفن من تفيضُ أرواحُهم، فيستريحون.. لم يبق لدينا طاقة لدفنِهم.. أصبحتْ جثثُهم طعاماً للذئاب، إن وجدتْ فيهم ما يُؤكل..

سرنا وسرنا، ونحن نهلك كلّ يومٍ.. انكمشت أجسادنا وأصبحنا قطعاً متحركة من اللحم والعظم البشري المشوّه.. غارت عيوننا وأصبحت وجوهنا غامقةَ اللون، أقرب للسواد..

لم نعد نتبادل أيّ كلمة، فقد جفّ لعابُ أفواهنا، ولكن والدتي استمرت في تلاوة صلواتها، دون صوت.. ولم نعد نتناول سوى لقمٍ قليلة، دون أن نشعر بطعمِها..

وصلنا ضفةَ الفرات اليسرى، جنوب بلدة جرابلس.. كان عددنا لا يتجاوز ربعَ من انضموا إلى القافلة، منذ بداية رحلة العذاب.. هكذا تخلص الأتراك من أكثرِنا..

كان بانتظارنا مجموعة جديدة من رجال الدرك الذين سينقلوننا إلى الضفّة الشامية، فوقَ عبّارةٍ خشبية متهالكة مصنوعة من جذوع أشجار مربوطة إلى بعضها البعض.. كان الجزء الأكبر منها فوق الأرض، وجزء آخر ملامس للماء غير العميق، في ما يشبه خليج صغير ضمن مجرى النهر.. لم يكن لها أطراف مرتفعة لتحمي ركابها، ولو قليلاً..

إلى جانب العبّارة شاهدنا زورقاً يمكن أن يُشدّ إلى طرفيها الأماميين بوَصْلتين معدنيتين، وهو مخصص لرجال الدرك الذين سيقودون به العبارة، وفق مسارٍ محدد، لإيصالها بسلام.. هذا ما قالوه، بابا.. أيّ سلام؟

كان جريان النهر مازال قوياً، كما هو حاله، أواخر نيسان، عندما تذوب ثلوج الأناضول، وترفع منسوب المياه، فتنغمر مساحاتٌ شاسعة من الأراضي المجاورة للنهر..

قطع خاتشيك حديثه، لحظةً، ثم أكمل:

ستعرف، في الربيع القادم، ماذا يعني فيضان الفرات؟. يصبح النهر مخيفاً.. خشيَ رجال الدرك عبوره، وقرروا الانتظار، عدة أيام، ريثما يتراجع الفيضان..

انتظرنا الفرج، ونحن نراقب منسوب المياه، مصدّقين أن نجاتنا متعلقة بانخفاضه.. وعندها لن يبقى أمامنا، سوى عبور النهر والوصول إلى الشاميّة..

بدأ الفيضان بالانحسار.. قام بعض أفراد الدرك من زورقِهم، وعددٌ من رجالنا الذين بقوا على الشاطئ، بسحب العبارة إلى النهر.. أمرونا بالنزول إليها، ثمَّ تحرّكت، بعد أن حُلّت حبالٌ مربوطةٌ بينها وبين أوتادٍ معدنية، لمنعها من الانزلاق إلى الماء.

لكن وصول العبّارة إلى الضفة اليمنى بدا غيرَ مضمون، فهي تبتعد عن الضفة التي كنا فوقها، دون أن تقترب من الضفة المقابلة، إلى المكان الذي كان ينبغي الوصول له وقد ارتفع فوقه علمٌ، لكي يساعد رجال الدرك في توجيه زورقهم والعبّارة صوبه.. أصبحت تتحرك وفق هوى تيار الماء الدافع لها نحو وسط النهر..

أمسكنا ببعضنا البعض، كنّا على مستوى الماء، تقريباً، وهو يخترق ما بين جذوع الأشجار، فيبلل أجسادنا، ثم يعود إلى الأسفل، مع ميل العبّارة إلى هذا الجانب أو ذاك..

لم يمضِ وقتٌ طويل، ونحن فوق العبّارة، قبل أن نجدَها، فجأة، تتفكك أربطة جذوعها، ويذهب كلُّ جذعٍ في اتجاه.. أما الزورق فكان يبتعد عنا..

حتى الآن، أسمع أصوات الرجال والنساء الذين تساقطوا في النهر.. لم أميّز بينها صوتَ أمي.. كنتُ لمحتُها للحظة، قريبةً مني، جالسةً القرفصاء، تنظر إلى المياه بخوف.. فليس في قريتنا نهر..

لم أشاهد والدتي تسقط في الماء، مع أنّي كنت ملتصقاً بها.. ولم أشاهدها، بعد ذلك.. أبداً..

وجدتُ نفسي محيطاً، بقوةٍ، جزعين متلاصقين بيديَّ ورجليَّ.. أصبح الجذعان اللذان لم يحلّ رباطهما، أشبه بقاربٍ ضيقٍ وطويل، دون حوافٍ.. كنت أجدُ نفسي تحت سطح الماء، ثم فوقه.. استمر “قاربي” البائس يتقدم مع التيار.. وبقيت ممسكاً به.. غدا جزءاً منّي..

عرفتُ ماذا تعني ” حلاوة الروح”..

نظرتُ، وأنا فوق الماء، إلى الأمام.. كنت أقترب، بسرعة، من بقعةِ أرضٍ.. ثم اصطدم قاربي بها، كانت حويجةً صغيرة من تلك التي تراها في مجرى الفرات، وقد يغمرُها النهر خلال ذروة فيضانه..

انحرف “قاربي” إلى اليمين وتابع عومَه في مجرى أضيق، بين الحويجة والطرف الأيمن للنهر، أصبح تدفق الماء أقل سرعةً، وابتعد القارب أكثر عن الحويجة، مقترباً من الضفة المرتفعة، سنتمترات قليلة، عن سطح الماء.. تباطأ القارب.. أعاقه نتوءٌ في التربة، داخل النهر.. بدا وكأنه يتوقف للحظة، بعد أن أصبح ملاصقاً الضفة.. رفعت صدري، مستنداً إلى ذراعيَّ، ثم قلت في قلبي: يا يسوع.. وارتميتُ، بما بقيَ لديّ من قوة، فوق الأرض الموحِلة .. أكثر من نصفي أصبح على اليابسة، واستطعت، بقدرةِ قادر، أن أسحب إليها ما تبقى من جسدي.. زحفتُ عدّة أمتار، مبتعداً عن شاطئ الماء.. ثم فقدتُ قوايَّ، كلّها..

حاولتُ رفع رأسي وفشلت.. لم أستطع تحريك أية قطعةٍ من جسدي.. كنت أرتجف من شدّة البرد وأُفرِّغ ما في جوفي، بجانب وجهي الملتصق بالتراب، فيعود إلى أنفي..

بعدها.. همدَ كلُ شيء.. لا صوت، لا حركة.. لم أعد أرى أيَّ شيء..

غبتُ عن الوعي..

صمت خاتشيك.. بدا منهكاً، بعد أن استعاد شريطَ ذكرياته الأقسى، تنفس بعمق..ثم وقف وباشر تحضير وجبة الشاي الثانية.. اقترح ضيفُه أن يتركَه يرتاح ويشربا الشاي، في المرّة القادمة.. قال خاتشيك:

  • أرجو أن تبقى.. لتسمع بقيةَ قصتي.. إذا لم تكن قد تعبتَ.. لن أطيلَ عليك، بابا، لأنك تعرف من وجودي معك، أنني نجوت.. فما بقي هو تفاصيل قليلة، سأرويها لك، كي تعرف لمن أدين ببقائي حيّاً..

كان سامح مشدوداً، بكلِّ جوارحه، لما يسمعه، بل شاهده شريطاً سينمائياً حيّاً واقعياً، شيقاً ومثيراً… اكتشف أن الله زوّد خاتشيك بكل أدوات التعبير الممكنة.. الحنجرة واللسان والعينين والحاجبين وتقاطيع الوجه وحركات اليدين، والأهم موهبة الراوي العارف متى يرفع صوته ومتى يخفضُه، وكيف يبتسم أو يصمت، متأملاً أثر ما يحكيه على وجه من يسمعه.. وظّف خاتشيك، كلّ ذلك، لينقل قسوةَ ما عاشه وصدقَ أحاسيس قلبه .. كان كممثلٍ وحيد، في مسرحيةٍ تشيكية، بقيَ مسيطراً على المشاهدين المأخوذين به، لأكثر من ساعة..

صبّ خاتشيك الشاي في الكأسين، ثم جلس وتابع:

  • لا أعرف كم بقيت غائباً، في العالمٍ الآخر.. عندما بدأت أستعيد أجزاءَ من وعيي، شاهدتُ وجوهاً غائمة زائغة، لم أستطع تمييزها. كنت أغيب عن الوعي مجدداً، ثم أفيق..

وبدأت أسمع أصواتاً قريبة منّي.. كانوا يتحدثون إليّ بلغة غريبة.. لم أعرف ماذا يريدون مني.. ولماذا أنا بينهم؟. عندما بدأت وجوهُهم وأجسادُهم تستقرّ أمام عينيّ، شعرت بالخوف.. ماذا سيفعلون بي؟، كانت أشكالهم ولباسهم غيرَ ما شاهدته، حتى ذلك الحين.. كان بينهم بعض النسوة والأولاد.

جلبوا لي شراب اللبن الرائب وأطعموني.. تراجع خوفي بالتدريج، وبدأت أستعيد اللحظات التي سبقت موتي المؤقت..

لا أذكر كم بقيت بينهم، لأسترد شيئاً من عافيتي.. أقدّر أنها فترة اقتربت من أسبوعين.. كانوا طيبين ورحيمين.. منهم تعلمت أولى الكلمات العربية..

ثم حملوني بعربةٍ، قريبٌ شكلها من تلك التي غادرنا بها قريتي.. سارت بنا ليومٍ أو أقل، عابرين قرى عديدة صغيرة، ثم قرية أكبر، ذكروا أنها منبج.. وهناك استرحنا في منزولٍ.. غادرناه، صباحاً، وتابعنا مسيرنا.. إلى أن وصلنا مدينةً حلب. كان المساء قد حلّ، فبتنا ليلتنا في منزولٍ كبير، وفي اليوم التالي أوصلوني إلى ميتمٍ للصبية الأرمن المشردين من أمثالي.. فرحت وأنا أسمع اللغة الأرمنية، من جديد..

استعدت الجالية الأرمنية في حلب لاستقبال الناجين من المذبحة. كانت جاليةً نشيطةً وعلاقاتها قوية مع أهالي حلب، من مختلف الأديان.. وأصبحتْ جزءاً من المجتمع الحلبي الذي احتضنها.. كان مثقفو الجالية متواضعين، لم يتعالوا علينا، نحن الذين لم نكمل دراستنا.. بل ساعدونا، كثيراً، في متابعة تعليمنا وتثقيفنا، خارج الميتم الذي بقيت فيه خمس سنوات، تعلمت خلالها اللغتين الأرمنية والعربية، مع رفاق طفولة آخرين، أحببتهم كثيراً وأحبوني.. كنا أبناء الفاجعة ذاتِها..

أما ما جرى لي، بعد ذلك، فقد ذكرته لك: صرت ميكانيكياً وتزوجت فتاةً أرمنية وُلِدت في حلب.. ولكن الموت خطفها منّي، وبقيتُ مع ابني هاكوب الذي كبر وتزوج.. ولديه الآن طفلة أسماها آراز.. تشبه كثيراً شقيقتي، وولد اسمه نرسيس.. الطفلان هما فرحة حياتي..

توقف خاتشيك عن الحديث.. فظنّ ضيفُه أنه أنهى سرد حكايته، ولكنه تابع، بعد قليل:

  • لعلك لن تصدق ما جرى معي عام 1955، كنت أُصلح مضخةً متوقفةً، موسم سقاية القطن..

في حقول قرية الشجرة التي يمرّ الفرات ملاصقاً لبيوتها.. وهي قريبة من منبج..

ولكن قبل أن أكملَ حديثي، أسالك: ما رأيك بان نشرب شيئاً؟

أجابه سامح:

  • لا أستطيع تناولَ مزيدٍ من الشاي، لأنني لن أستطيع النوم.
  • لم أعني الشاي.. ما رأيك بكأسٍ صغير من البراندي؟ شُغل حلب.. ليس هو مثلَ الأرمني، ولكنه مقبول.. لا أقصد إحراجك، بابا .. لك أن ترفض إذا كنت لا تشرب.. ولن أحزن لذلك..
  • لا بأس بكأسٍ صغير..

دخل خاتشيك إلى الجزء الخفّي من دكانه، وراء الستارة، وجلب زجاجة براندي، سبق فتحها، وملأ كأسي الشاي.. ثم سأل ضيفه:

  • أين وصلنا في حكايتي؟ أجاب بدلاً من سامح: إلى العام 1955.. حسناً، أنهيت إصلاح المضخة، وكان قد حلّ المغيب، قبل نصف ساعة.. وفي هذه الأحوال، لا مفرّ من قبول دعوة صاحب المضخّة إلى المبيت في مضافته.. دخلناها وكانت مليئة برجالٍ من القرية، يحتسون الشاي ويدخّنون.. في جوٍ خانق، فالنوافذ الصغيرة تبقى مغلقةً في البيوت الطينية القليلة المتباعدة في القرية.

كان شيخ القرية جالساً في صدر المضافة، يتحدث إلى أقربائه.. ألقينا التحية.. أوسع الجالسون، جانب الشيخ، مكاناً لي.. وكعادة أهل تلك القرى، عاودوا الترحيب بي، عدة مرّات، بعد أن جلست بينهم.. ثم تابعوا أحاديثهم.

كان الشيخ قد سمع عني، قبل دخول المضافة، وعرفَ أنني أرمني، وأقوم بإصلاح مضخّات المياه. توجّه نحوي، قائلاً:

  • اسمع هذه السالفة.. قبل عشرات السنين، أيام السفر برلك والحرب، وأنا ما زلت شاباً.. كنت أزور أقرباءَ لي، إلى الشمال من قريتي، بالقرب من الحدود مع تركيا، كانت فترة فيضان الفرات، الذي يأتينا كل سنة.. شاهدتُ عن بعد، وأنا أتجه نحو النهر، جسماً غريباً لم أستطع تمييزه، هل هو دابّة أو ابن آدم؟. اقتربتُ منه، كان جثةً هامدة لا حراك فيها.. جثة مشوهة ، بل قل: هيكلاً عظمياً لصبيٍ صغير تغطيه طبقة رقيقة من الجلد، مستلقياً على بطنه، ووجهه نحو الغرب.. كنا نرى، تلك الأيام، جثثاً كثيرةً منتفخة تطفو على سطح الفرات، وتتابع عَوَمها مع التيار.. من يجرؤ، أثناء فيضان النهر، أن يحاولَ سحب تلك الجثث؟

سمعنا أنها لأرمن يقاتلون جنودَ السلطان، مع الروس..

المهم، كان عليَّ أن أحملَ الجثة وأدفنها في مكانٍ مرتفع، لا تصله مياه الفيضان.. عندما لمست يدَ الطفل، وجدتها ساخنة قليلاً، اقتربتُ بوجهي من أنفه.. شعرت بأنه، ربما، ما يزال يتنفس .. قدّرت أن روحه لم تطلع بعد..

أصغيت لما يقوله الشيخ وشعرتُ بخفقانٍ يتزايد في قلبي وبدوارٍ خفيفٍ في رأسي.. احتقنت عينايّ بالدموع.. ولكنني تابعت الإنصات:

  • حملتُ الصبيَ بين يديّ.. كان جسمه مغطىً بالوحل.. نقلته إلى بيتِ قريبي، في القرية التي كنت في زيارتها..

بكيتُ، دون صوت.. بدأ كتفاي يهتزّان.. شعرت ببرديّة تأتيني وأنا في ذروة انفعالي.. لم أنتظر سؤال الشيخ، عما أصابني؟ قاطعته:

  • أنا الصبي الذي حملتَ جثته..

قبلت رأس الشيخ واحتضنته.. لم يكن أقلَ تأثراً، هو وربعُه..

أحسّ سامح بحرقةٍ في بلعومِه وحنجرتِه.. ارتشف ما بقيَ في كأسه.. ثم قام هو، هذه المرّة، يصبّ البراندي في كأسيهما.. كان الاثنان قد وصلا إلى اللحظة التي يشعر فيها الساهرون بحاجتهم إلى شرابٍ أكثر ومزيدٍ من الكلام..

ساد صمتٌ لبرهةٍ قصيرة.. وهما يتابعان رفع كأسيهما.. ثم انطلق خاتشيك، من جديد:

  • لا أستطيع تأكيد كلَّ تفاصيل ما رويتُه لك، هل جرى، فعلاً، كما انطبع في ذهني؟ أو لعله تداخل مع ما شاهدته، مراراً، في كوابيس نومي؟. أكيد أنه قريبٌ جداً مما حدث..

عندما أكون وحيداً، أحاول الفرار من ذكرياتي، ولكنها تهاجمني، خصوصاً، عندما أستيقظ صباحاً، ويكون النهار ممتداً أمامي.. أتقلّب في فراشي، محاولاً العودة للنوم، دون جدوى.. لا أستطيع، حينها، الهروب من مشهد آراز وهي ترحل.. واللحظة الأخيرة التي لمحت فيها أمي، فوق العبّارة، قبل أن نسقطَ في الماء..

توقعتُ، وأنا ما زلت صغيراً، أنني سألتقي أمي، يوماً.. بل شاهدتُها في أحلامي، مراتٍ عديدة.. وهي تدعوني إليها، من ضفة الفرات الأخرى.. كنت أستيقظ من نومي.. قبل أن أصل إليها..

قلتُ لنفسي، أحياناً: ربما نجتْ مثلي، وهي الآن في مكانٍ ما، من بلدِنا، تعيشُ في قريةٍ فراتية.. ثم تراجع حلمي بلقائها، رويداً، وأنا أتقدم في السن..

تساءلتُ، وأنا في أقصى لحظات بؤسي، ألم يكن أفضل لو أنني رحلتُ مع الذين رحلوا؟. كنت أهدأ، بعدها، وأردد: كان علينا أن نعيش..

تنفس بعمق، وتابع: أتعرف، بابا.. لقد شعرت براحةٍ، بل بسعادةٍ، وأنت تسمعني.. قرأتُ في عينيك اهتماماً، بما أحكيه.. وتعني لك قصتي شيئاً..

أجابه سامح:

  • كنت أبحث عنك..

نظر خاتشيك إليه مندهشاً.. سأله، وهو يصبّ مزيداً من البراندي، في كأسيهما:

  • هل سمعت عنّي، قبل مجيئك إلى الطبقة؟

ابتسم سامح، وتابع:

  • لا.. ولكنني تعرّفت، وأنا في بيروت على أسرةٍ أرمنية، استضافتني، رغم فقرِها، عدة أسابيع، في إحدى غرف بيتها.. في حيّ الشرشبوك، عام 1959.. كنت مُلاحقاً، في السابعة عشرة من عمري.. استمعت، في سهرة مع الأب، وكان شاباً في نهاية الثلاثينات، إلى نتفٍ من مآسي الأرمن، ومنهم والده.. وعدني أن يروي لي تفاصيلَ أكثر.. ولكنني سافرت إلى براغ، قبل أن يأتي موعدُ السهرة التي انتظرتُها.. كنا نُعلَم بموعد إقلاع الطائرة بنا، قبل يوم أو يومين، على الأكثر.

كانت أسرتي أيضاً في أحوال صعبة: والدي وشقيقي الذي يصغرني بسنةٍ واحدة، كانا في السجن.. وأنا مشرد.. قُتلَ بعض أصدقائنا وهم موقوفون.. وخشيت أن يحصل شيء شبيه لشقيقي أو لوالدي؟.

تجاوزت الساعة منتصف الليل.. عندما وقف سامح.. ودّع صديقه، معانقاً، ومضى في الظلام..

بقيَ دكان خاتشيك مكانَه، حتى نهاية عام 1967، ثم انتقل منه إلى دكانٍ جديدٍ عامر، في الحي الأول، حيث يقطن المدراء، بعد أن أصبح شريكاً للسيدة أم الياس..

بيد أنه لم يقرأ قصته الفريدة، كما دوّنها صديقُه قيّاس الأرض، فقد فاضت روحُه الحلوة العنيدة، منذ سنوات، والتقت بأرواح والديه وآراز وفاهيه وجميع من أحب..

(نشرت في مجلة “الطريق” اللبنانية، العدد ربيع 2015)

 

Share This