أبعاد سياسة الإبادة التي انتهجها السلطان عبد الحميد الثاني إزاء الأرمن (3)

انتهج السلطان عبد الحميد الثاني سياسة ثابتة في إبادة الأرمن كانت امتداداً لسياسات أسلافه، ولم تكن مرتبطة، كما يعتقد البعض، باندلاع الثورة الأرمنية نتيجة للأوضاع المأساوية التي عاشها الأرمن في أرمينيا الغربية (العثمانية).

في عام 1867، طالب الصدر الأعظم في عهد السلطان عبد العزيز محمد فؤاد باشا، وخلال لقائه السفير الروسي في اسطنبول اغناتيف، بصهر الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية.

ونقل السفير الروسي إلى حكومته ما دار في هذا اللقاء قائلاً:”إنه (أي محمد فؤاد باشا، آ.س.آ.) يؤكد على قناعته بأن إنقاذ الإمبراطورية (العثمانية، آ.س.آ.) يكمن في صهر شعوبها الإسلامية والمسيحية معاً، وليس في التعايش في ما بينها”[1].

وبرغم مرضه الشديد، كتب محمد فؤاد باشا في عام 1869، وقبل وفاته، (وصيته) السياسية لخلفائه، واسماها (حديث صادق من القبر)، هاجم فيها الشعوب الخاضعة للدولة العثمانية، لاسيما اليونانيين، وقد وصفهم بــ (المخادعين والخبثاء). كما تحدث عن بقية هذه الشعوب، كالأرمن والسلاف وغيرهم، فقال:

“إن تلك الشعوب الخاضعة لنا ستظهر رغبة عارمة في احتلال مقام أسيادها السابقين لدى تخلصها المفاجئ من نير العبودية، وان الأرمن، بوجه خاص، يظهرون القابليات ويتمتعون بالذكاء، لذا يستوجب ضبط حماسهم”. وهذا القول يعني ببساطة صهر هذه الشعوب، أي بمعنى تتريكهم بشكل قسري وعدم الاكتفاء بسحق الحركات التحررية لهذه الشعوب. وأضاف محمد فؤاد باشا قائلا: “يجب توجيه كل جهودنا في مجال السياسة الداخلية نحو تحقيق هدف واحد هو صهر هذه الشعوب، ومن دونها تبدو وحدة إمبراطوريتنا غير ممكنة على الإطلاق”[2].

ولاحقاً، نفذ هذه (الوصية) خلفاء محمد فؤاد باشا. فبعد مؤتمر برلين المنعقد عام 1878، صرح الوزير كامل باشا (أصبح بعد ذلك صدرا أعظم) “.. إن سبب وجود الإمبراطورية العثمانية يتطلب أن نضمن مستقبلنا عن طريق محو الشعب الأرمني… وبوسعنا إعلان الجهاد ضد شعب اعزل…”[3].

ولخطورته، نذكر هنا تصريح كامل باشا بشيء من التفصيل، إذ قال:

“يجب أن لا نكرر في تركيا الآسيوية الحماقة ذاتها التي ارتكبتاها في تركيا الأوروبية (يقصد ثورة الشعوب السلافية ضد المحتلين الأتراك عام 1876 ووصولها إلى الاستقلال بمساعدة روسيا، آ.س.آ.). إن التعقل يحتم علينا إفناء جميع العناصر القاطنة على أرضنا، والتي يمكن أن تهددنا بالخطر وتمثل سلاحاً في يد الدول الأوروبية للتدخل في شؤوننا.

“اليوم تقتضي مصالحنا ومصالح إنكلترا أن تكون ممتلكاتنا في آسيا الصغرى (نحن وإنكلترا لا نعترف بتسمية –أرمينيا- ويجب محو كل من يتلفظ بها ؟!) بعيدة عن تدخل الآخرين. ومن اجل تحقيق هذا الهدف المقدس، فانه من الضروري، وهذا ما يتطلبه حق الدولة، إزالة كل الظواهر والعناصر المشكوك فيها وتأمين مستقبلنا، لذا يجب إزالة الأمة الأرمنية ومحو أي اثر لها (أي بمعنى قتلها بلا هوادة أو رحمة). ونحن نملك أدوات تحقيق هذا الهدف، وهم الأكراد، والشركس، وحكام الولايات، والقضاة، وجباة الضرائب، ورجال الشرطة، وكل من يعلن حرباً مقدسة ضد تلك الأمة التي لا تملك السلاح، وهي مجردة من الحماية. أما نحن، فعلى النقيض من ذلك، نملك السلاح والجيش، فضلاً عن كون أغنى دولة في العالم (يقصد إنكلترا، آ.س.آ.) هي حليفتنا وراعية لممتلكاتنا في آسيا الصغرى. وإذا تم إفناء الأمة الأرمنية تلك، ولم تجد أوروبا المسيحية مسيحياً (يقصد به أرمنياً، آ.س.آ.) واحداً في آسيا الصغرى، فأنها، والحالة تلك، ستتركنا وشأننا. حينئذ، سنتمكن من التفرغ لأمورنا الداخلية والقيام بالإصلاحات، وسنملك كل شيء، وعوضاً عن تلقي الدروس، سنكون نحن من يعطي الدروس لأوروبا وسنستعيد مجدنا الغابر”[4].

وكان (الباب العالي)، بحسب مجلة (سبيكتيتر)، يخشى من الأرمن وعقليتهم وجرأتهم وتطلعاتهم القومية الثابتة، فضلاً عن قرب أماكن تواجدهم من الحدود الروسية، حيث كان يقطن في الجانب الآخر منها، وتحت الحكم الروسي، مليون ارمني. وقد حذرت المجلة في عام 1891 من أن (الباب العالي) يتهيأ لممارسة سياسة الإرهاب الجماعي إزاء السكان الأرمن في الإمبراطورية العثمانية، من اجل تهجير الأرمن إلى روسيا[5].

وكانت صحيفة (الكيمايني ميونخين تسايتونك) الألمانية تنشر المقالات الموالية للأتراك. وقد تمت إعادة النشر لإحدى هذه المقالات، وكانت تحمل توقيع عثمان بك، في صحيفة (نور تار)[6]. واظهر عثمان بك في مقالته جهلاً تاماً بالأسس التي قامت عليها القضية الأرمنية، وسعى إلى حذف اسم أرمينيا من على الخريطة السياسية، معتبراً أن سياسة السلطات العثمانية المعادية للأرمن كانت تستند إلى الأسس الاقتصادية إلى جانب السياسية. وقال عثمان بك: “إن الأرمن متطورون ويمتلكون خصائص ثقافية، وهم مجتهدون خلاقون محبون للعمل، وذوي جرأة عقلية وروحية وذهنية، وقد استطاعوا حتى في أحلك الظروف استيعاب الحضارة الأوروبية، والحفاظ على الكنيسة والعقيدة واللغة الأرمنية. كما أوجد الأرمن تجارة دولتنا وطوروها وأزهروا أدبنا وساندوا تقدم فن طباعتنا، وتمكن الأرمن مرات عدة من إنقاذنا من السقوط التام…وبناء على ما تقدم، فأننا إذا قمنا بتحسين وضع الأرمن وتركنا ثرواتهم في أيديهم، وفسحنا المجال لهم بالازدهار والتطور والنمو، فأنهم سيأتون ذات يوم ليسودوا علينا بكل الحق، ويقولوا لنا: بما أنكم لا تستوعبون الحضارة، وتعيقون التنوير والتطور الشامل لشعوب البشرية، لذا فليس من حقكم أن تسودوا علينا وتحكموننا، بل نحن الذين سنسود عليكم ونحكمكم.. أما أوروبا المصابة بمرض التنوير والحضارة، فسوف لا تعطي الحق للأرمن فحسب، بل أيضا ستمنحهم القوة والمساندة في جعلهم أسياداً علينا”[7].

ويعطي المؤرخ والمختص بالدراسات الشرقية من أرمينيا السوفييتية هوفهانيس انجيكيان في دراسة مفصلة أجراه تصوراً كاملاً عن مساهمة أبناء الشعوب غير التركية في الحياة الاقتصادية للدولة العثمانية، مبيناً أن مساهمة البورجوازية التركية كانت ضعيفة بالمقارنة مع مساهمة البورجوازيات الأرمنية واليونانية واليهودية. وفي أرمينيا الغربية وإقليم كيليكيا، كان الأرمن يسهمون بحيوية كبيرة في التجارة والحرف ومجالات التطور الاقتصادي كافة[8].

ونقلاً عن صحيفة “المقطم”، قالت صحيفة “العرب” البغدادية[9] في مقالة نشرتها تحت عنوان: (سبب اضطهاد الأرمن في تركية) ما نصه:

“نشر إسماعيل كمال بك الألباني، الذي كان رئيساً لحكومة البانية المؤقتة، في مجلة (فورتنيتلي رفيو) الإنكليزية عن المسألة الأرمنية، وصف فيها كره السلطان عبد الحميد للأرمن، وعزا هذا الكره إلى أن السلطان المخلوع، كان يشعر بأن لا قوة له على أن يرفع رقي رعاياه المسيحيين (يقصد بهم الأرمن، آ.س.آ.)، ويسيطر على تقدمهم كما يريد. ورأى عبد الحميد أن كل ما تم من ضروب الإصلاح، وجرى من التغيير السياسي، في أيام والده وأجداده، عاد بالويل والثبور على الأسرة المالكة، والسلطنة العثمانية، ولذا كان يوجس شراً من إقبال المسيحيين (يقصد بهم الأرمن، آ.س.آ.) على الدخول في المدارس الأجنبية، وعلاقتهم بالأجانب، وكثرة ترددهم إلى أوربة وأميركة، وظن انه ليس بين رعاياه كلهم، من يفكر في الإصلاح، أو يلح في المطالبة به سواهم، فرأى، والحالة هذه، أن الضرورة تقضي عليه بإفناء الأرمن وإبادتهم، لئلا ينشروا الأفكار الحرة، بين أهل السلطنة، وتسرى عدواها فيهم، ولكن كانت تنقصه الجرأة للإقدام على هذا العمل العظيم، لئلا يثير دول أوربة عليه، فأتته الجرأة من باب غريب، وهو: اتفاق رسمي سري عقده مع اسكندر الثاني، تعهد فيه عبد الحميد بأن يتنازل عن الحق الذي خولته إياه معاهدة برلين، في احتلال مضايق البلقان احتلالاً عسكرياً، وتعهد القيصر بأن يذود عن السلطان وعرشه، من كل اعتداء من الخارج أو من الداخل..”.

أما ولي الدين يكن[10] فقال في (المعلوم والمجهول):

“الأرمن كابدوا من ظلم المسلمين (يقصد بهم الأتراك، آ.س.آ.) والحكومة المستبدة لاسيما في طريق بر الأناطولي ما لا تصبر عليه القلوب وحملوا من الضيم ما تكل عنه المتون. ولكنهم أبناء الشرق، وأبناء الشرق نفوسهم أبية. فنشطوا في العمل في جدّ متواصل طلباً لما يستخلصهم من إذلال إخوانهم إياهم. فما وجدوا سبيلاً هو أقرب إلى المراد وأنفذ إلى النجاة من طلب العلم والصناعة والاستفادة من معجزات العصر الجديد.. وما برحوا يتراكضون إلى الاستنارة بأنوار المعرفة حتى توافوا الى مشرق نورها ومطلع نيراتها وهم كلما زادوا توغلاً في العلم زادوا معرفة بأساليب الحياة فغيروا ما رأوه غير صالح من قديم العادة واستبقوا ما كان صالحاً”[11]. ثم قال:

“فما مضت أعوام قلائل على نهضتهم هذه إلا برزوا على مواطنيهم من المسلمين (يقصد بهم الأتراك، آ.س.آ.). أما المسلمون (يقصد بهم الأتراك، آ.س.آ.) فلم يريدوا النزوع عن ميراث السلف إلا قليلهم وعدوا الاستفادة من علوم الغرب واقتفاءه في ترقيه شائناً لكرامة الدين. وعند التفاضل ظهر فرق الأمتين وأحرز الأرمن قصب السبق. فكان هذا داعياً إلى حسد المسلمين (يقصد بهم الأتراك، آ.س.آ.) لهم وامتعاضهم منهم. والأرمن عرفوا حدّ ما عليهم للحكومة وما لهم عليها. فرضوا أن يهبوها حقها وأن يطالبوها بحقهم وكبر هذا على الحكومة لأنها كانت لا تحب النصفة وكبر على المسلمين (يقصد بهم الأتراك، آ.س.آ.) لأنهم لم يكونوا يعلمون أن للأرمن حقاً على الحكومة وهم يعلمون أن الحق لا يكون إلا للمسلمين (يقصد بهم الأتراك، آ.س.آ.) دون سواهم. نعم كان في جماعات المسلمين (يقصد بهم الأتراك، آ.س.آ.) رجال رزقوا العلم واشربوا حب الوطن اعترفوا لإخوانهم المسيحيين (يقصد بهم الأرمن، آ.س.آ.) بالحق وأرادوا إنصافهم وودوا مشاركتهم في مطالبهم. غير أن قلة العدد خذلتهم في مناوأة الحكومة والسلطان الظالم وظلوا في أعين الجهلاء بمنزلة الأعداء”[12].

 

*قسم من ورقة عمل قدمها الباحث آرا سركيس آشجيان بعنوان “أحوال الأرمن في أرمينيا الغربية في القرن التاسع عشر وأبعاد سياسة الإبادة للدولة العثمانية إزاءهم حتى عام 1923″في المؤتمر الدولي الخاص بالإبادة الجماعية الأرمنية تحت شعار “الإعتراف بالإبادة الجماعية الأرمنية خطوة نحو السلام العالمي” الذي عقد في 23 أيار، 2015 في بغداد.

خاص لملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية

[1] مقتبس من: م. ف. ارزومانيان، المصدر السابق، ص ص 142-143.

[2] مقتبس من: المصدر السابق، ص ص 143-144.

[3] مقتبس من: دعد بو ملهب عطا لله (دكتور)، المسألة الأرمنية في النظام الدولي المعاصر-تاريخ وجيوسياسة-، مركز الدراسات الأرمنية- مركز شاغزويان الثقافي، بيروت، 1996، ص 80.

[4] مقتبس من: ا. يسايان، “القضية الأرمنية” والدبلوماسية الدولية، دار نشر (ميدك)، يريفان، 1965، ص ص 18-20 (باللغة الأرمنية).

[5] راجع: ج. كيراكوسيان، المصدر السابق، ص 14 عن:

The Armenian Debate, §The Spectator¦, vol. 67, London, July 18, 1891, p. 86.

[6] المصدر السابق، ص 14.

[7] مقتبس من: ج. كيراكوسيان، المصدر السابق، ص ص 14-15.

[8] المصدر السابق، ص 16.

[9] العدد 11 من المجلد الثاني في 14 كانون الثاني 1918، السنة الثانية، ص ص 2 و 3.

[10] ولي الدين يكن (1873-1921)، شاعر وكاتب عربي، تركي الأصل. ولد بالأستانة لأسرة معروفة، وجيء به إلى القاهرة طفلاً.. تولى بعض الوظائف الرسمية في مصر والأستانة، ثم غضب عليه السلطان، فنفاه إلى سيواس بالأناضول، حيث بقي إلى ثورة 1908. فعاد إلى مصر، وشارك في تحرير (المؤيد)، و(الرائد المصري)، و(الاقدام). نشر ذكرياته عن منفاه: (المعلوم والمجهول)، وصوراً عن الحياة السياسية التركية: (الصحائف السود)، و(التجارب)، وشرع في جمع ديوانه، ولكنه لم يتمه فأتمه بعد وفاته انطون الجميل. يعد متقدماً على معاصريه من حيث التحرر من قيود الصياغة القديمة والانتفاع بالثقافة الغربية- من الموسوعة العربية الميسرة.

[11] مقتبس من: المصادر العربية حول جريمة إبادة الأرمن-حسين بن علي-ولي الدين يكن-فائز الغصين، من منشورات اللجنة المركزية لحقوق الأرمن، بيروت، 1988، ص ص 33-34.

[12] المصدر السابق، ص 34.

Share This