أسباب إفناء الأرمن في الدولة العثمانية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (5)

آرا سركيس آشجيان

في كتابه المعنون “أرمينيا وأوروبا”، بحث الدكتور الألماني لبسيوس بشكل مفصل المذابح الأرمنية، ودان الدول العظمى، إذ قال:”كانت المجازر في أرمينيا وسيلة إدارية لجأ إليها (الباب العالي)، والتي كانت تهدف عن طريق إفناء الأمة الأرمنية إلى جعل الإصلاحات التي كانت تطالب بها الدول العظمى غير قابلة للتطبيق… إن الشيء الذي يستحق الإدانة ليس هو رغبة الدبلوماسيين الأوروبيين في اخذ قضية شعب مسكين ومذبوح على عاتقهم، بل هو قيامهم بهذا الشيء بطريقة اضطرت الأرمن إلى الدفع من دمائهم ثمن سياسات هؤلاء الدبلوماسيين”[1].

أما البروفيسور الايرلندي اميل ديلون الذي دخل تركيا بداية عام 1895، وبدأ يعطي لأوروبا عن طريق مجلة (Contemporary Review) أول التفاصيل الواقعية عن مذابح الأرمن في ساسون، فقال: “في عام 1891، لجأ الباب العالي الذي كان يخشى من ظهور مصاعب حقيقية له من جراء تطبيق الإصلاحات الموعود بها في أرمينيا، ومن إمكانية مساعدة المسيحيين (يقصد به الأرمن، آ.س.آ.) القاطنين في الولايات المتاخمة لروسيا لها في حالة اندلاع الحرب، لجأ إلى تشكيل فرق الحميدية المؤلفة بشكل خاص من الأكراد. وكانت الخطة التي اقترحها بعض الموظفين رفيعي المستوى في الحكومة تقضي بإفراغ المناطق المتاخمة للحدود، على سبيل المثال الاشكيرت، من السكان الأرمن وإبدالهم بالمسلمين (يقصد به الأتراك والأكراد والشركس واللاز، آ.س.آ.)، لكي يتم إنقاص عدد الأرمن في جميع الولايات الخمس إلى درجة تفقد معها أهميتها أية إصلاحات للأرمن، ولكي يوازن الأكراد تأثير القوزاق في حالة اندلاع الحرب. ومن حينها، يتم تنفيذ سياسة الإفناء المطلقة هذه بدقة، وهي تتسع تدريجياً، وإذا لم يتم وضع حد لهذه السياسة، فانه، وبلا شك، سيتم حل القضية الأرمنية بشكل نهائي”[2].

وقال اللورد جيمس برايس: “بعث تحرير بلغاريا الأمل في نفوس مثقفي الأرمن بأن أوروبا ستقوم لأجلهم أيضا بالشيء ذاته. إن فكرة سعي الأرمن إلى إقامة أرمينيا تتمتع بالحكم الذاتي تحت رعاية إنكلترا وتكون على شاكلة بلغاريا، فضلاً عن إعطاء أية تنازلات للأرمن يمكن أن تكون البداية للحكم الذاتي هذا، كان الأساس في دفع السلطان إلى تكرار الفظائع البلغارية على نطاق واسع في أرمينيا”[3].

وسأذكر لاحقاً، أنه، وبتأثير من بريطانيا، رفض مطلب الأرمن في عام 1878 بحكم ذاتي ضمن نطاق الدولة العثمانية مماثل لذلك الذي تحقق للشعب اللبناني بضغط من فرنسا بعد مذابح عام 1860، والحكم الذاتي لبلغاريا الذي تحقق في معاهدة برلين عام 1878، وانحصر مطلب الأرمن في تحقيق الإصلاحات ضمن نطاق الدولة العثمانية.

وفي كتابه انف الذكر، قال الدكتور لبسيوس: “تحدث موظف تركي رفيع المستوى عن القضية الأرمنية، فقال: لا تنخدعوا بالتقارير الحكومية الساذجة التي تحاول إلقاء تبعة المجازر على الأرمن، إذ أن الحكومة كانت تملك مخططاً مرسوماً لمعاقبة الأرمن. وكان السلطان غاضباً، لأنه اجبر على منح الإصلاحات. لذا، أعطى أوامره بذبح الأرمن بعد التوقيع على خطة الإصلاحات، بهدف إظهار قوته”[4].

وكان الطريق الأيسر، من وجهة النظر للدولة العثمانية، لمنع أرمينيا الغربية من الحصول على استقلالها الذاتي عن الدولة العثمانية أو انضمامها إلى أرمينيا الروسية هو تخفيض عدد الأرمن في الولايات الأرمنية الست. هنا، غدت “المذبحة” سياسة عثمانية رسمية للتخلص من الأرمن حتى لا يتشبثوا بأراضيهم من دون مراعاة لأية شرعية دولية أو إنسانية. ولعل ميوعة موقف الأسرة الدولية آنذاك قد يسر هذه (المهمة) على النظام العثماني[5].

ويتفق العديد من الكتاب والمؤرخين والسياسيين في أوروبا والولايات المتحدة على أن الأسباب الحقيقية للمذابح الأرمنية كانت تكمن في القرار الذي اتخذته الحكومة العثمانية والقاضي بتقليص عدد الأرمن في أرمينيا لجعل الإصلاحات التي طالبت بها الدول العظمى غير قابلة للتطبيق (بغض النظر عن اندلاع أو عدم اندلاع الثورة في أرمينيا) من جهة، وسياسة أوروبا تجاه الأرمن من الجهة الأخرى[6].

وتلخيصاً لما ورد آنفاً، يمكن القول إن السلطان عبد الحميد الثاني انتهج سياسة إفناء الأرمن، لأنه في ظروف المساواة والحرية لا يستطيع الأتراك منافسة الأرمن الذين كانوا يتفوقون على الأتراك في النواحي الثقافية والاقتصادية، وفي نسبة النمو السكاني. كما أن النهضة الفكرية للأرمن من جهة، والنظام العثماني الجائر من الجهة الأخرى، خلقت بشكل محتم الحركة الأرمنية التي أدت إلى بروز القضية الأرمنية على شكل مخطط لمنح أرمينيا الحكم الذاتي، أو تقديم طلب أدنى يتلخص في إدخال الإصلاحات في المناطق الأرمنية. وكانت السلطات العثمانية تنظر إلى هذه الإصلاحات على أنها محاولة لإضعافها. يضاف إلى هذه العوامل كون الولايات الأرمنية متاخمة لروسيا، وان تطبيق الإصلاحات الموعود بها للأرمن كان من الممكن أن يفسح المجال للتدخل الروسي، وخلال اندلاع الحرب كان من الممكن أن يقدم الأرمن العون للقوات الروسية، من وجهة النظر للحكومة العثمانية. أما السبب الجوهري الآخر في سياسة السلطان هذه تجاه الأرمن، فكان سياسة الدول الأوروبية. فحينما أخذت هذه الدول على عاتقها مهمة تحسين وضع الأرمن، فأنها بذلك أثارت الخشية الكبيرة لدى الحكومة العثمانية من أن يؤثر ذلك في وحدة وسيادة الدولة. بيد أن الحكومات الأوروبية لم تكتف بعدم اخذ أية خطوة مؤثرة في مصلحة الأرمن فحسب، بل أنها أيضاً، وبفضل منهجها الأناني والإجرامي، ضمنت للسلطان الأحمر تنفيذ مخططه الجهنمي بقتل الأرمن[7].

*قسم من ورقة عمل قدمها الباحث آرا سركيس آشجيان بعنوان “أحوال الأرمن في أرمينيا الغربية في القرن التاسع عشر وأبعاد سياسة الإبادة للدولة العثمانية إزاءهم حتى عام 1923″في المؤتمر الدولي الخاص بالإبادة الجماعية الأرمنية تحت شعار “الإعتراف بالإبادة الجماعية الأرمنية خطوة نحو السلام العالمي” الذي عقد في 23 أيار، 2015 في بغداد.

خاص لملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية

[1] مقتبس من: كريستابور ميكائيليان (أفكاره الثورية)، المصدر السابق، ص ص 21-22 (باللغة الأرمنية).

[2] مقتبس من: المصدر السابق، ص ص 17-18.

[3] مقتبس من: المصدر السابق، ص 18.

[4] مقتبس من: المصدر السابق، ص ص 36-37.

[5] راجع: القضية الأرمنية في الدولة العثمانية 1878-1923، تأليف د. محمد رفعت الإمام، عرض آمنة حجازي، الملحق الشهري العربي لجريدة (آريف) الأرمنية، القاهرة، عدد رقم 4 (52)، السنة الخامسة، ابريل 2002، ص ص 5-8.

[6] المصدر السابق، ص ص 23-24.

إن منهج الحكومة العثمانية القائم على اضطهاد الأرمن وذبحهم وتشريدهم من موطنهم الذي أطلق الأتراك أنفسهم عليه تسمية (أرمنستان)، ومن ثم الادعاء بان الأرمن لا يشكلون أغلبية في مناطقهم لحرمانهم من حقوقهم أو لعدم تطبيق الإصلاحات التي وافقت عليها هذه الحكومة نفسها كان منهجاً لا إنسانياً ولا أخلاقياً اعتمد على مبدأ فرض الأمر الواقع وإضفاء الشرعية على مبدأ استخدام القوة وارتكاب المجازر.

[7] المصدر السابق، ص ص 24-25.

Share This