معارك زيتون الدفاعية عام 1895 (8)

آرا سركيس آشجيان

جاءت معارك زيتون الدفاعية في عام 1895 كرد فعل على المجازر التي اجتاحت جميع المناطق الأرمنية في الدولة العثمانية من 1894-1896، وكانت تتوجه بدورها إلى زيتون أيضاً. وكانت خسائر الأرمن بعد أربعة أشهر من المعارك المستمرة نحو 3500 شخص، في حين بلغت خسائر القوات الحكومية المهاجمة نحو 20 ألف شخص، مات معظمهم من البرد والأمراض[1]، فضلاً عن حشد قوات يونانية كبيرة على مقربة من الحدود التركية، مما اضطرها لقبول اتفاق الصلح مع الأرمن، الأمر الذي عده الأرمن انتصاراً لثورتهم، لأنها أجبرت سفاحي الشعب الأرمني على الجلوس إلى طاولة الصلح مع المدافعين عن زيتون المنتصرين[2].

وبعد أن أطمأن (السلطان الأحمر) إلى عدم جدية الدول العظمى في تطبيق (مشروع مايس للإصلاحات)، كما كان الحال مع الإصلاحات المعلنة بموجب معاهدة برلين عام 1878 من قبل، أكمل مخططه بإبادة الأرمن، وبدأت في أرمينيا الغربية في خريف 1895 موجة جديدة من المجازر الأرمنية. ففي طرابزون، بدأت هذه المجازر في 5 تشرين الأول-أكتوبر 1895، كذلك في سامسون، وفي 30 أيلول-سبتمبر بدأت المجازر في بابيرت، وترجان (7 تشرين الأول-أكتوبر)، وأرزنجا (9 تشرين الأول-أكتوبر)، أعقبتها المجازر في ولاية بتليس، وأورفا (16 تشرين الأول-أكتوبر)، ومناطق أخرى غيرها.

ولإعطاء فكرة عن هذه المذابح وسياسة السلطان عبد الحميد تجاه الأرمن نقتبس ما قاله الأستاذ الدكتور كمال مظهر أحمد: “.. حدثت المذبحة الأولى في آب وأيلول من العام 1894 في منطقة ساسون عندما أخذ الجنود والجندرمة وبعض الشقاة يفتكون بالناس القاطنين في تلك الديار كباراً وصغاراً، نساءً ورجالاً، ودمروا في فترة وجيزة 40 قرية وقتلوا حوالي 10 آلاف شخص. وبعد (النجاح) الأول بسنة بدأت مذبحة ثانية كان من الطبيعي أن تكون حسب (قانون التطور) شاملة. ففي أيلول من العام 1895 بدأ رجال السلطان في العاصمة استانبول يفتكون بالأرمن فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، أما (المحظوظون) منهم فقد كانوا هم الذين زج بهم في السجون. ثم انتقلت المذبحة إلى مدن أرمينيا الغربية والمدن الأخرى التي كان يقطنها أرمن مثل مرعش وديار بكر ومدن كثيرة أخرى غيرهما. وها نحن نذكر هنا نماذج قليلة لها تكفي وتزيد لإعطاء صورة واضحة لعمق المأساة. ففي مدينة استانبول، أبيد خلال يومين فقط، حوالي 5500 أرمني (وتقدر بعض المصادر قتلى استانبول بـ 15 ألف شخص)، بل أن مسيحيين آخرين كثيرين قتلوا كذلك باعتبار أنهم أرمن. وطبقاً لما جاء في الكتاب الفرنسي الأصفر فقد استمرت مذبحة الأرمن في ديار بكر ثلاثة أيام (من أول تشرين الثاني من العام 1895). لقد قتل في هذه المدينة على إيقاع (التصلية والتسليم) حوالي ثلاثة آلاف شخص، كما دمرت حوالي 120 قرية واغتصبت في المدينة وحدها عشرات الأرمنيات. أما خارجها، فقد تعدى الاغتصاب هذه الحدود. وكان القتلة واللصوص قد خصصوا واحداً من تلكم الأيام الثلاثة لنهب المتاجر والدكاكين العائدة للأرمن وقتلوا وجرحوا منهم ما شاء لهم هواهم. ويقدر الكتاب الأصفر خسائر الأرمن المادية بمليوني ليرة عثمانية. ويتحدث الكتاب المذكور كذلك عن مذبحة مدينة سيواس التي بلغ عدد القتلى فيها حتى الثاني عشر من تشرين الثاني حوالي ألف شخص. وكانت جثث مئتين الى ثلثمائة منهم قد ألقيت في إحدى خانات المدينة. وكما ذكر شاهد عيان، فإن معظم الضحايا في سيواس كانوا قتلوا بالساطور وقضبان الحديد والعصي الغليظة والخناجر وما شاكل، ربما لأن القتلة كانوا يضنون بطلقات بنادقهم ! وقد شملت المذابح وأعمال النهب والسلب والتخريب الوحشية هذه مناطق كثيرة أخرى كذلك، وتكررت في السنة التالية أيضاً. ووفقاً لما جاء في رسالة سرية للقنصل الروسي في استانبول أرسلها إلى وزير خارجية بلاده،، فأن عدد الأطفال الذين تيتموا نتيجة لتلك الأحداث المفجعة، بلغ ما لا يقل عن 50 ألف طفل”[3]، وذكرت آنفاً أن هذا العدد بلغ 100 ألف طفل.

وبذلك، “تميز عهد السلطان عبد الحميد بما وقع على الأرمن من مذابح جماعية، والواقع أن تلك المذابح كانت فظيعة جداً اهتز لها الرأي العام في أوروبا كما تألم منها الكثير من العثمانيين. وقد أطلق الأوروبيون على عبد الحميد من جرائها لقب (السلطان الأحمر) و (السفاك الكبير)”[4].

وكان غلادستون (بعد استقالته من رئاسة الوزارة البريطانية) قد أطلق لقب (المجرم الأكبر) على عبد الحميد في خطاباته العديدة بسبب هذه المذابح التي راح ضحيتها أكثر من 300 ألف أرمني من مواطني الدولة العثمانية (يوصل بعض المؤرخين عدد الضحايا إلى نصف مليون)[5].

وإزاء هذه الفظائع، دبُّت روح الأصالة والبطولة، التي تميزت بها الأمة الأرمنية، في صدور جماعة من أبنائها، فهبوا لحمل السلاح للدفاع عن وجوده وكرامتهم وتطبيق الإصلاحات، بعدما سئموا انتظار تدخل إنساني فاعل لمصلحتهم، وأصيبوا بخيبة كبيرة بفعل النفاق في سياسة الدول الكبرى[6]. وكان يمكن تجنب الثورة الأرمنية بعدم دفع الأرمن إلى حالة اليأس بسبب استمرار تدهور أحوالهم الناجمة عن سياسات الدولة المتبعة ضدهم، وفشل الدول العظمى في اتخاذ إجراء فاعل لمصلحتهم.

*قسم من ورقة عمل قدمها الباحث آرا سركيس آشجيان بعنوان “أحوال الأرمن في أرمينيا الغربية في القرن التاسع عشر وأبعاد سياسة الإبادة للدولة العثمانية إزاءهم حتى عام 1923″في المؤتمر الدولي الخاص بالإبادة الجماعية الأرمنية تحت شعار “الإعتراف بالإبادة الجماعية الأرمنية خطوة نحو السلام العالمي” الذي عقد في 23 أيار، 2015 في بغداد.

خاص لملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية

[1]تاريخ الشعب الأرمني، المصدر السابق، ص 259.

[2] تاريخ الشعب الأرمني، المصدر السابق، ص 261.

[3] د. كمال مظهر أحمد، كردستان في سنوات الحرب العالمية الأولى، ترجمة محمد الملا عبد الكريم، الطبعة الثانية، بغداد، 1984، ص ص 250-251.

[4]راجع: علي الوردي (دكتور)، لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، الجزء الثالث، بغداد، 1972، ص 22.

[5] راجع: علي الوردي (دكتور)، المصدر السابق، ص 22. ومن المؤرخين الذين يذكرون أن عدد ضحايا المجازر التي أرتكبها السلطان عبد الحميد الثاني بحق الأرمن كان 500 ألف شخص هو المؤرخ البريطاني وليام رامزي. راجع: ج. كيراكوسيان، المصدر السابق، ص 56 عن: Pears, Edwin; Life of Abdul Hamid, N.Y., 1917, p.239 . أما المؤرخ جيفيليكوف، فيذكر أنه في الفترة من 1892-1912، تم إفناء 612 ألف شخص في أرمينيا الغربية (التركية). المصدر السابق، ص 49.

[6] المصدر السابق، ص 14.

Share This