أرمينيا محج لمن يريد تأكيد شعور الإنتماء بعد عقود من التشرد والمجازر والمعاناة

تحقيق – منى سكرية

الوكالة الوطنية للاعلام

وطنية – يتفرع شارع بيروت من ساحة الجمهورية التي تتوسط يريفان عاصمة جمهورية أرمينيا. وتحاط بالشارع المذكور أنواع من الأشجار غير المثمرة، أعلاها إرتفاعا شجر الدلب بأوراقه الغضة بلونها الأخضر، والمتكاثرة على تفرعات الأغصان. والى جانبها تطل شجيرات السرو بلون فضي مائل الى رمادي لامع. شارع بيروت في يريفان عريض ونظيف وخال من أوراق الشجر المتساقطة بفعل درجات الحرارة اللاهبة في صيف أرمينيا. فأرمينيا بلد جبلي منعزل عن الإطلالات البحرية، تتوزعه الجبال والتضاريس المتفاوتة الإرتفاعات، وتغزر فيه البحيرات وأكبرها بحيرة “سيفان” ثاني أكبر بحيرة في العالم من حيث الارتفاع عن سطح البحر(1900 متر) والأنهار، والغابات، والأراضي الزراعية المنتجة لأجود أنواع الخضار والفواكه الطيبة المذاق والنكهة. صيف أرمينيا من القساوة المرتفعة الحرارة كما حرارة شتائها المتدنية، مما يعكس جماليات فصلي الخريف والربيع في بلد يمتد على مساحة تتجاوز 29 ألف كيلومترا مربعا، ويتوغل في قلوب 3 ملايين ومئة ألف مواطن أرمني مقيم، وحوالى ثمانية ملايين ينتشرون في شتى بقاع الأرض، أو دياسبورا الأرمن كما يحلو لهم التسمية. ويشكل المواطنون الأرمن 96 % من السكان إضافة الى أقليات روسية، أزيديين أكراد، أشوريين، ويونانيين.

لطالما شكل الموقع الجغرافي لأرمينيا الواقعة بين أوروبا وآسيا والممتدة في التاريخ نقطة جذب لغزوات الشعوب المجاورة ولتلك الأمبراطوريات القوية، فكانت المستقر لهم ولجيوشهم، أو الممر الى قتال شعوب أخرى فتتالت عليهم غزوات الاشور والبيزنطيين والعرب والمغول والفرس والأتراك والعثمانيين والصفويين فالروس، الى أن بدأ الشعب الأرميني يتذوق طعم الاستقلال منذ عام 1991 بعد انهيار دول الاتحاد السوفياتي، إذ باتت أرمينيا محجا لأهلها، ولمن يرغب منهم بالعودة للاستقرار النهائي فيها، أو تبركا بزيارتها لتأكيد شعور الإنتماء بعد عقود وسنوات من التشرد والمجازر والمعاناة.

يحد أرمينيا من الشمال والشرق جورجيا وأذربيجان، ومن الجنوب والغرب تركيا وإيران. ومن إيران يتدفق السياح ويشكلون ثاني أكبر عدد بعد السائحين الروس. ومن إيران يتدفق النفط إليها عبر جورجيا.

كثر من أبناء الشعب الأرمني في أماكن اغترابهم زاروا “بلدنا أرمينيا” كما يرددون، وكثر من أثريائهم في المغتربات أخذوا على عاتقهم دعم الاستقلال الفتي بمساعدة بنيه إقتصاديا والمشاريع التنموية. وربما لعدد قليل من العينات التي إلتقينا إنما تدلنا على معنى تأجج عاطفة الشعب الأرمني في توجهه ناحية أرمينيا. فالسيدة كارولين لبنانية متزوجة من أرمني إيراني عاشا ردحا في أميركا ثم عادا الى أرمينيا وأنشآ فندقا صغيرا يبعد عن يريفان العاصمة حوالى 15 كلم، ومصمم بطريقة هندسية ريفية غاية في الجمال والبساطة. ومثلهما غابو بانوسيان المولود في بلدة عنجر من والدين ناجيين من المجازر، ثم من عنجر الى بيروت، فأميركا، ثم أرمينيا. ومثلهم روبن فاردانيان رجل الأعمال وصاحب المشاريع التنموية والتربوية في أماكن عدة من بلده.

كارولين الأنيقة بحديثها وملابسها تشرف على إدارة الفندق والمطعم التابع له لم تتهرب من الحديث صراحة لنا إذ قالت: “أحب لبنان كثيرا لكنني لم أعد أرغب بالعودة إليه”.

أما غابو فقد كان أكثر صراحة إذ أعرب لنا عن شعوره بالحب تجاه لبنان “لكن لأرمينيا طعم آخر، ففي بلدنا أرمينيا أشعر بالطمأنينة والهوية والإنتماء”.

هذا الشعور بالانتماء تحقق عبر تاريخ مديد ومليء بالأحداث الفارقة. فأرمينيا تفخر بأنها أول من إعتنق الدين المسيحي عام 301، وأن لها لغتها الخاصة والمؤلفة من 38 حرفا وضعها مسروب مسودتش، وأن كانت غالبية الناس في أرمينيا يتكلمون اللغة الروسية ولأسباب كثيرة سياسية وجغرافية وإقتصادية وتعليمية، فالأرمنية تكرست لغة رسمية بعد الاستقلال، إضافة الى المجازر التي راح ضحيتها مئات الآلاف والمعروفة بالإبادة الأرمنية وحصلت على مراحل وأقيم لها في العاصمة يريفان متحفا وشعلة لا تنطفىء. أما المتحف الذي يحتوي تاريخ الشعب الارمني الثقافي فهو في متحف ماديناداران على إحدى تلال يريفان (تأسست عام 782 ميلادي، ومعنى كلمة يريفان “المشاهدة من فوق”.

متحف ماديناداران

يرفرف علم جمهورية أرمينيا المستقلة في كل مكان، ويتألف من ألوان الأفق الثلاثة: الأحمر ويرمز للدماء التي أريقت، والأزرق المفتوح الى السماء، والبرتقالي الدال على مواهب وإبداعات الشعب الأرمني. وعلى الباب الرئيسي لهذا المتحف يستقبل العلم المرفوع زائريه، وفي الداخل حكايات ومخطوطات نادرة تحكي عن التاريخ وله.
يضم المتحف حوالى عشرين ألف مخطوطة وبعضها نادر النسخات، ومن بينها أربعة آلاف مخطوطة بلغات غير اللغة الأرمنية كالفارسية ووثائق باللغة العربية، والهندية والأفغانية والروسية، الى نسخات نادرة من الأناجيل، والكتب الطبية والعلوم والفلك وصناعة الأدوية، والأدب والقواعد والفلسفة وتاريخ الفنون، وأنواع الألوان وطرق تحضيرها، وعن تشريح جسم الانسان والحيوان وغيرها . وقد تأسس المتحف عام 1959 وعمل المشرفون على تأسيسه على جلب العديد من المخطوطات خاصة من أرشيف كنيسة “إتشميادزين”، (أول كنيسة مسيحية في العالم) ومن مكتبة معهد لازاريف للغات الشرقية في موسكو، وأيضا من عائلات أرمنية سكنت حلب ودمشق وتبرعت بما تملكه لهذا المتحف، وكذلك تم تأسيس مركز أبحاث يتبع المتحف يتولى متابعة جمع المخطوطات والوثائق من أي بلد في العالم.

يعتبر متحف ماديناداران المكان الجامع لثقافات الشرق وتنوعها، والجسر الرابط بين أجيال وتواريخ. ففي المتحف نتعرف الى حقبات من تاريخ إيران والعرب وآسيا الوسطى من تركمان وكرد وأفغان والهند، والعلاقات التي سادت بينهم في غابر الزمان من خلال المخطوطات. يعتبر المتحف الأغنى بين المتاحف العالمية لمحتوياته التاريخية والفنية، ومن أبرزها تلك التي تحكي سيرة إحتفالات كنسية في أرمينيا وإسترجعوها بعد ضياعها عام 1202، كما يضم 2500 مخطوطة تتعلق بتاريخ أرمينيا لوحدها عدا ما يختص بالشعب الأرمني عامة، وأهمها مخطوطة “إيشميادزين غوسبل” (989 ميلادي)، ومخطوطة مانجي غوسبل (1060 ميلادي)، وفي المتحف نسخة من القرآن مترجمة الى اللغة الأرمنية الكلاسيكية وظهرت عام 1910. وللحفاظ على هذه المخطوطات والوثائق ابتكروا طريقة سحق الثوم وصبغه بالألوان ولصقه على المخطوطة لئلا تتعرض للتلف، الأمر الذي حفظ هذا الكنز من الرسومات والمنمنات والمخطوطات.

في المتحف تتميز بعض المخطوطات برفعتها ومستواها حسب المعايير المتعارف عليها في سلم الترتيب العالمي التاريخي والفني والقيمي وتعود للقرنين الثامن والتاسع الميلادي ومن أبرزها: مخطوطة من القرآن، ومقتطفات من القرآن وتفسيره، كتب صلوات، مؤلفات فلسفية، عن الصوفية، الحساب، القواعد، طب، فلك، موسوعات، وقواميس، كتب عن السحر والطلاسم، وكتب أدبية وفي الشعر، وفن المنمنات وتنتمي بغالبيتها الى المدارس الشرقية في بغداد وشيراز وهراتوأصفهان. وهذه المخطوطات أيضا: مخطوطات بالخط الكوفي، مخطوطات القرن الرابع عشر ذات القيمة العالية تعود للتركمان والفرس والعثمانيين، والمغول والافغان (فرمانات السلاطين المزينة بالطغرة العثمانية)، ونماذج مخطوطات بالخط العربي من الهند عبارة عن منمنات صغيرة الحجم ورائعة الجمال، أوراق من كتاب “الشهنامة” للفردوسي من القرن الخامس عشر، منمنة “ليلة والمجنون” من الثامن عشر، ورقة من القرآن تعود للقرن التاسع عشر.

في يريفان التي زرناها مجموعة من ممثلي وسائل الاعلام اللبنانية والأرمنية العاملة في لبنان تعرفنا الى أرمينيا التاريخ والحاضر، واستمعنا الى تطلعات المستقبل. غدا حلقة ثانية.

Share This