دياربكر بعد مئة عام … صباح 24 نيسان بقلم ليلى قصراني

من دياربكر إلى لالش، رحلة ثلاثين يوما من الحزن (2)

                                                    

حضر الصلاة ذلك الصباح الكثير من الأرمن في كنيسة مريمانة لطائفة الكلدان السريان، حيث قاد القداس القس يوسف بمساعدة ابنه بطرس. الكثير من الأرمن قد حضروا الصلاة، الكنيسة الأرمنية في دياربكر ليس لها راعٍ لذلك لم تقام الصلوات فيها للأسف كما كان توقع الكثيرون. شارك في القداس الكثير من السريان والآشوريين أيضا اضافة إلى بعض الأمريكان من الصحفيين. ربيعة كانت الكردية الوحيدة في وسطنا وهي لا تؤمن سوى بالفن والجمال وقصص الحب، كانت واقفة تتأمل بصمت  وخشوع.

كان للصلاة ثقل غير طبيعي وشرعنا في البكاء بصمت. الرجال بكوا أكثر من النساء بصوتٍ عالٍ مما جعلنا نشعر بالإرهاق وكأن مساً من الحزن قد حط على أكتافنا.

كانت بعض الأعمدة الحجرية في كنيسة مريمانة المصنوعة من  المرمر الزهري ما زالت قائمة  في الكنيسة، ربما عمرها أكثر من الفي عام، ويقال إن المكان كان أصلا معبدا لألهة الشمس في المنطقة.

آرا صارافيان الناشط الأرمني وبطرس ابن القسيس دقوا ناقوس الكنيسة مئة مرة، دقة لكل سنة ونحن الباقون وقفنا بصمت نسمع دويّ الجرس. كان أغلب الحضور قد غادروا المكان استعدادا لحضور باقي مراسيم الذكرى لذلك اليوم.

قبل أن ننطلق لمكان التجمع عند بوابة ماردين بقرب سور المدينة القديمة في دياربكر، ذهبنا بعكس الإتجاة وعند بوابة أورهي حيث يقف نصب تذكاري قد شيد قبل ثلاث سنوات لذكرى الإبادة.

وهو عبارة عن عمل ثلاثي الأبعاد من المرمر وقد كتب عليه باللغات التركية والأرمنية، العبرية، السريانية والأنجليزية عبارة “لقد تألمنا معكم كي لا تحملوا مآسيكم وحدكم”.

إتجهنا في الساعة الواحدة ظهراً نحو بوابة ماردين وهناك تجمهرنا حيث تجمع بعض وجهاء المدينة من الأكراد والأتراك ومن ضمنهم عمدة دياربكر.

مشينا حيث سورب سركيس إذ كانت بقايا هذه الكنيسة مختفية خلف جدران عالية.

كان الأكراد الجيران مهتمين بتصوير المكان، وكأنهم قد عرفوا للتو  بوجود المعبد في حيّهم!

تجمع الكثيرون أمام الكنيسة، الغريب إن سياسيي المدينة اكتفوا بالوقوف أمام الكنيسة  دون تجاوز الحائط الكبير الذي يفصل الكنيسة عن باحتها بل لم يبذلوا جهدا لزيارة الكنيسة المدمرة. القوا خطبهم باللغة التركية خارجا أمام الحشد ومن على منصة. بعض من الأتراك كانوا قد جاؤوا من اسطنبول للتضامن مع القضية الأرمنية. ورفعوا لافتات تقول مثلا “نريد من الدولة التركية أن تعترف بالمذابح”.

بعد حوالي الساعة انتهى الاحتفال وانصرف الحضور الرسمي. أما نحن الباقون فتجمعنا نحو المذبح المتهدم. بعض النسوة الارمنيات كن قد شكلّن  سريعاً فرقة تراتيل، وقفن أمام المذبح ورنمنّ ترنيمة باللغة الأرمنية للكاهن والموسيقي كوميداس يا ربّ إرحمنا”. كانت تلك الصلاة أول صلاة تقام في تلك الكنيسة بعد أنّ دمرت. بعدها رمى المصلون زهور القرنفل بين الأحجار والعشب. ثم رحلنا تاركين وراءنا الكنيسة التي يناشد أهالي دياربكر من الأرمن بترميمها. كل ما يحتاجونه هو 2 مليون دولار كي تبنى بدلاً عن تلك الخرابة، انها تذكار رمزي لهذا المكان الذي استخدم كمخزن للأسلحة أثناء الحرب العالمية الأولى من قبل العثمانيين.

كنت أكلم صديقي جميل دياربكرلي بعد رجوعي عن إنطباعي بالكنيسة، قلت له “لقد رأيت ما يشبه ظلالا لقوالب قد تكون  من الذهب الذي كان يزين أعمدة الكنيسة ويبدو أن الأتراك قد إقتلعوه  لكن آثاره ما زالت قائمة…”

أكد كلامي وقال بأن المنطقة قد شهدت أحداثا مماثلة حيث أن قبّة دير مارغابريل كانت مطلية بالذهب وحينما غزاها المغول قاموا بتذويب الذهب من أعلى القبة حتى أسفلها.

هكذا تفرقنا في ذلك اليوم، أما أنا فأخترت في نفس المساء رغم تعبي أن أزور جسر مشاة على نهر دجلة، ـ أون غوزلو كوبري ـ جسر العشرة عيون- أقواس.

كنت أظن بأني ساقف على الجسر وأتأمل في مياه دجلة وأتخيل أبطال روايتي وهم يسيرون على الجسر بأتجاه اسوار مدينة دياربكر لكن بعض الأكراد تجمعوا للرقص محتفلين بعرس زواج! تجولت قليلا حول المنطقة وحزنت جدا حينما قرأت ما كتبته السلطات في دياربكر عن الجسر”لقد رمم هذا الجسر في سنة 2010  وهو أول جسر إسلامي بنيّ في الاناضول ….”

الغريب إن هذا الجسر هو الوحيد القائم على نهر دجلة للمشاه وتقول الكتب السريانية القديمة بأن المطران (يوحنا زعورو) القادم من دير مار غابرييل في سنة 384 كان قد بناه لرعيته التي كانت تريد أن تصل من دياربكر إلى كنيسة الأربعين شهيدا على الضّفة الأخرى من نهر دجلة. رجعت إلى الفندق وأنا أفكر، بأن الدولة التي تقتل وتشرد أكثر من مليون نفس أليس بإمكانها أن تحرف تأريخ جسر!؟

هكذا تركت دياربكر وأتجهت إلى ميديات، المدينة الساحرة في طورعابدين. لهذه المدينة الصغيرة عدة كنائس ودير مار ابراهيم للسريان. تسكعت في أحياء هذه المدينة الحجرية التي شدّتني بجمالها. في إحدى الزوايا ثمة رجلا كان جالسا يبيع النبيذ المارديني، حاولت أن ُأفهّمه بأني لا أتكلم لا الكردية ولا التركية ولأستغرابي تكلم معي  بالعربية. كان لاجئاً سريانياً قادماً من الحسَكة هو وعائلته المتكونة من زوجته وأولادهما الصغار الستة.

دعاني للدخول إلى مسكنه وهو بيت قديم لكن مهمل وتكاد الرطوبة تأكل حيطان مطبخه. لم يتوفر في المطبخ أبسط مستلزمات البيت، مما دلّ على مدى فقر هذه العائلة. وقبل أن أشتري منه قارورة نبيذ أحمر، خرجنا إلى الباحة ورفع الرجل غطاء عن ثقب وقال “هنالك مدينة كاملة تحت مدينة مديات، ثمة أنفاق وغرف، من هنا كان مسيحيو المدينة يهربون نحو سوريا من بطش مضطهديهم …”

حزنت جدا على هذه المفارقة، إذ اليوم  أصبح اللجوء عكسيا…!

بقيت في المنطقة يوماً آخراً زرت فيها مدينة ماردين، بعدها أخذت الباص متجهة نحو الحدود العراقية التركية لزيارة أقربائي في المنطقة الشمالية من العراق.

(خاص لملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية)

Share This