أرمينيا بلد الزهور والقصب والنسور المعششة على قمم جبالها

حين حطت ذبابة على طاولة خشبية تحلقنا حولها نرتشف أكواب الشاي في استراحة قصيرة، تظللنا كرمة تتدلى منها عناقيد الحصرم، حاولنا إخفاء منظرها المقزز برمي منديل فوقها، لكن زارا السيدة الأرمنية التي تجول بنا من أقصى أرمينيا إلى أقصاها نهرتنا قائلة: «لا تقتلوها، إنها تستحق الحياة».

الشعب الأرمني شعب استحق الحياة وقدّر معنى أن يكون له وطن يحفظه ويحافظ عليه. فأن تكون أرمنياً يعني أن تعرّف عن نفسك: «أنا أرمني أنا حي». وقيامة أرمينيا من موتها المتكرر عبر العصور إلى حدود الإبادة، يدركه زائر هذا البلد تحت كل صخرة فيه وخلف كل جدار وفي كل قصة يرويها الدليل السياحي عن تجذر أرمينيا في التاريخ، لتتحول المغالاة في إثبات الوجود إلى أساطير موغلة في الزمن تسعفها طبيعة خام لم تمسها يد إنسان منذ آلاف السنين.

لا يبعد مطار «زفارتنوتس» عن العاصمة الأرمنية ياريفان أكثر من 20 دقيقة بالسيارة. مدينة تدخلها بعد دفع ثمن تأشيرة الدخول في المطار وقيمتها ما يعادل 7 دولارات. لم تمحُ سنوات ما بعد الاستقلال ملامحها السوفياتية بعد. فلا تعلو في يريفان ناطحات سحاب ولا أبنية تشير إلى حركة استقطاب اقتصادية كبيرة. مدينة ترحب بزائرها بهدوء، على وقع حركات الاعتراض الشعبية على رفع الضرائب وتكاليف الخدمات العامة ولا سيما الكهرباء في بلد لا يتجاوز متوسط الدخل فيه 250 دولاراً. مدينة يعيش فيها مليون نسمة على وقع هجرات داخلية، وسياحة أرمن الـ «دياسبورا» وسواح يقصدونها من روسيا وإيران وفرنسا وإيطاليا والقليل من العرب وجلهم من العراق ولبنان وسورية. وبعض هؤلاء ليسوا بسياح وإنما يقصدونها لتأسيس حياة جديدة بسبب نزوح من حلب أو وضع غير آمن في العراق، أو عودة من لبنان إلى أرض الأجداد.

يمعن الأرمن في ترداد أن بلدهم أول من اعتنق الديانة المسيحية في العام 301 ميلادي. لتتحول السياحة في أرمينيا زيارات إلى أديرة وكنائس، يعود بعضها إلى القرن الرابع، شيد على قمم الجبال (أعلى قمة في أرمينيا يبلغ ارتفاعها 4090 متراً فوق سطح البحر – جبل أراغاتز) أو غرس في قلب الصخور وفي أعماق الوديان (أعمق نقطة تنخفض 380 متراً عن سطح البحر في قرية ديبيداشين الشمالية) وبين حقول القمح الذهبية وعلى ضفاف أكبر بحيرة في هذه المنطقة الآسيوية، أو بين الغابات الكثيفة المنتشرة شمال البلاد وفي جنوبها.

قال دليلنا من الوكالة السياحية (travel to Armenia) إن «بلدنا آمن، اتركوا أموالكم أينما شئتم وستعودون وتلاقونها مكانها. بلدنا آمن نهاراً وليلاً، لا يمكن أي مخلوق أن يُمس بسوء».

 كاراباغ وآرارات

تحد أرمينيا التي تقع جنوب القوقاز أربع دول، هي: جورجيا وأذربيجان وإيران وتركيا. ونتيجة القضم الذي تعرض له هذا البلد في تاريخه الحديث، ومنه ضم أراض إلى أذربيجان لتصبح تحت الحكم السوفياتي، ومع بدء انهيار الاتحاد السوفياتي نشب نزاع على إقليم قره باخ، ولا يزال، على رغم إعلان الإقليم استقلاله، ولم تعترف به روسيا ولا أذربيجان ولا أرمينيا، فيما النزاع مزمن على جبل آرارات الموجود ضمن الأراضي التركية والمكلل بالثلوج على مدار السنة، والذي تعتبره أرمينيا جزءاً من تكوينها وثقافتها الدينية. تمر بمحاذاته الحافلات وتشخص إليه العيون ولا يمكن الوصول إليه، لأن المعابر باتجاهه مغلقة مع تركيا (الحدود على بعد 5 كلم من الطريق العام) ويتواجد عليه بعض القواعد العسكرية التركية. ويضطر المواطن الأرمني أن يتوجه إلى جورجيا ومنها يدخل تركيا لتسلق الجبل في زيارة دينية، ما يكبده عناء عبور نحو 800 كيلومتر من المسافات في حين يمكن الوصول إليه عبر قطع 80 كيلومتراً فقط لو أن المعابر مفتوحة بين البلدين.

 مدن الزهور والقصب

الطرق إلى المدن والبلدات تتعرج مخترقة غابات نصبت بين جذوعها مقاعد خشبية ومواقد لشي اللحم تقصدها العائلات للنزهة، أو سهولاً ترعى فيها الأبقار الهزيلة والأحصنة، تعبر عليها سيارات الـ «لادا» ذات الصناعة الروسية بتصاميمها المتواضعة التي لا تعبأ لموضة العصر وتقنياته المتطورة، بل إن الأرمن يفضلون الـ «لادا» على السيارات الأوروبية، لأنها تتحمل قساوة الطقس الجاف والحار صيفاً. يقول دليلنا إن الناس حاولت شراء سيارات حديثة لكنها سرعان ما ترتفع حرارتها وتتعطل، في حين أن الروس صمموا محركات سياراتهم بحيث يمكن تبريدها بسرعة.

وتواضع السيارات ينسحب على هندسة المنازل الخشبية أو المبنية من الحجر أو تلك المتهالكة بفعل سقوف «الأترنيت». الناس هنا بسطاء وفقراء وطيبون. يعرضون ما تنتجه الأرض على بسطات ممتدة على الطرق العامة مثل عرانيس الذرة والبطاطا أو تلك التي تصنعها أيدي النساء، كالفواكه المجففة أو التي تحيكها أيادي العجزة قبعات وكفوفاً من الصوف الملون لبرد آت، وتلح النسوة على شراء ما تحملنه بأثمان زهيدة وفي ملامح وجوههن تعب من فقر أبدي.

للمدن والبلدات أسماء، مدينة الزهور ووادي القصب، وبلدة التفجع وقرية الكهوف، وثمة منتجعات يقصدها الناس للعلاج بمياهها المعدنية الساخنة. الطبيعة قاسية أحياناً، مخيفة في وحشتها، انكسارات تمكن من خلالها رؤية طبقات الأرض بمعادنها المختلفة الألوان، براكين هامدة انتشرت حجارتها السود على مساحات كبيرة، طرق شقت بين جبال تكاد تتلاقى، ونسور اتخذت من الصخور المسنونة والمغروسة في قلب الأرض مواطن لأعشاشها، وأنفاق حفرت في الجبال لكيلومترات طويلة، وأنهار وسواقٍ تنساب مياهها رقراقة بين أشجار يتجاوز عمر العديد منها 2000 سنة، وتلطف الأجواء نسمات باردة في عز الشمس الحارقة. وبحيرة سيفان ترافق عابر البلاد من شمالها إلى جنوبها لأكثر من 70 كلم، هي الأطول والأبرد والأعمق، يزيد عمقها عن 90 متراً فيما لا تتجاوز درجة حرارة مياهها 20 درجة صيفاً ما يجعلها عصية على السباحة لبرودتها، لكنها مقصد الصيادين للسمك النهري اللذيذ.

ويمكن في جنوب البلاد ركوب التلفريك الأكبر في العالم، في تاتيفير، إذ يعبر أودية ساحقة وجبالاً شاهقة لمسافة خمسة كيلومترات و750 متراً ليرتاح على كتف واد يضم مجمعاً للأديرة من القرن العاشر، كانت تستخدم للتعليم الديني والعلمي، ويتوسط باحته عمود توجته حجرة متحركة تهتز عند حصول زلزال أو تغزوها جيوش الأعداء نتيجة ضرب حوافر الأحصنة بالأرض.

 بلد الأساطير

الكنائس في أرمينيا دمرت عبر العصور، ونجا بعضها بالحيلة تارة وبقدرات أسطورية أحياناً، وأصبحت محجاً يقصدها المؤمنون سيراً على الأقدام، يدخلونها بخشوع واحتشام شديد ويقيمون الصلاة فيها ويودعونها دعواتهم مع الشموع المضاءة ويخرجون منها بالسير إلى الوراء دائماً، فلا يديرون ظهورهم إلى المذبح أبداً. والكنائس هنا خالية من أي مظاهر دنيوية، حجارة وصورة وشمعة ولا حاجة لمكبرات صوت، فالترانيم تتردد صداها بقوة بين قبب الغرف التي دفن في أرضها كهنة قصدوا أن تكون مقابرهم عند مداخل الكنائس حتى يدوس عليها الناس لدى دخولهم، وكأن رسالة الكهنة مستمرة بدعوة الناس إلى الإيمان.

جلست الفتاة هريبسيمي على صخرة قبالة بحيرة سيفان تتابع صلاة لم تنته، قالت إنها مشت مع عائلتها 150 كلم من قريتها إلى هنا وسيتابعون السير 250 كلم للوصول إلى قره باخ، وذلك من أجل السلام لأرمينيا والعالم.

«الإيمان شديد في الأرياف، ربما بسبب الفقر»، قال دليلنا، مشيراً إلى شجرة جوز معمرة محترقة، يعتقد الناس أن من يعبر فتحة في جذعها تتحقق أمنيته، فكان أن أضاء فلاح من قرية مجاورة شمعة داخل الفتحة قبل خمس سنوات فاحترقت الشجرة وبقي جذعها ولا يزال الناس يعبرون الفتحة رمزياً ويتمنون. المعتقدات تغلب الحقائق، ربما للسبب نفسه.

تقول الأسطورة إن الحاكم تيمورلانك في القرن الرابع عشر غزا أرمينيا وراح جيشه يدمر كل شيء وسبى الناس عبيداً لكنه حين مر بالكنيسة على ضفاف البحيرة أصابه مرض ولم يشفه إلا كاهن كان فيها وحين أراد مكافأته طلب الكاهن أن يدخل الناس العبيد إلى الكنيسة حتى الامتلاء، فظن الحاكم أن الكنيسة لن تتسع لأكثر من عشرات الأشخاص فوافق، إلا أن الناس دخلوا جميعاً والجنود في الخارج لم يرصدوا أي باب سري للهرب، فتعجب الحاكم من الأمر وحين دخل الكنيسة وجدها فارغة. ثمة كوة صغيرة في الجدار، أشار إليها الدليل وقال: «من هنا خرج الناس لكنهم خرجوا فراشات طارت إلى بيوت كل شخص وحين وطأت الأرض تحولت إلى بشر من جديد».

ومن الأساطير ما يشفي النفس. في مقبرة تعود إلى القرن السابع انتصبت فيها الشواهد ونحتت عليها رسوم تدل إلى أحلام ساكنيها مثل نحت لشخص يعزف على آلة موسيقية، دلالة على أن المتوفى كان يحب المرح والطرب، وثمة قبر يقصده الأهل مع أطفالهم الخجولين ويطلبون منهم تحطيم آنية زجاجية على حجارته. ويعتقدون أن بفعلهم هذا يشفون أولادهم من الخجل ويبعدون عنهم الأمراض.

ويتباهى الأرمن أنهم حافظوا على آلاف الشواهد التي تحمل صلباناً خاصة بهم، هذه الحجارة مشكوكة في السهول والجبال من آلاف السنين وقبل أن تعتنق أرمينيا المسيحية. ويقال إن القدامى نصبوها في أماكن تضرب فيها الصواعق ظناً منهم أن هذه الصواعق تربط الأرض بالسماء، وعبدوها لأنها صلتهم بالإله، وحين انتشرت المسيحية لم يتمكن رجال الدين من تحطيم هذه الشواهد الوثنية فلجأوا إلى نحت الصلبان عليها لتكون مرشد الناس إلى الإيمان. وللصليب في أرمينيا زهور تتفرع من أطرافه اعتقاداً بأن دم المسيح تحول قيامة جديدة ونحتت تحته دوائر لامتناهية شبيهة بهذا الكون.

ومن الآثار المحفوظة، قرية الكهوف المحفورة في قلب الجبال التي يصعب على الأعداء الوصول إليها، وبقيت عائلات تتوارث السكن فيها حتى العام 1967 حين قررت السلطات في حينه نقل الناس إلى تلال مجاورة بنوا عليها قريتهم الخضراء. ولا تزال عشرات الكهوف غير مكتشفة. ويقال إن في أحدها عثر أخيراً على فردة حذاء من الجلد قدر عمرها بستة آلاف سنة.

 عمل النساء وهجرة الشباب

الحياة بعيداً من ياريفان تسير ببطء شديد. وبحسب اللبنانية كارولين المتزوجة من آرثر الأرمني الإيراني وعاشا سنوات طويلة في الولايات المتحدة قبل أن يستقرا في ضواحي ياريفان حيث شيدا فندقاً ومطعماً من الخشب، فإن الرجال لا يتحمسون للعمل مثل النساء. وأكثر الأعمال الناجحة تديرها نساء، من المطاعم إلى أفران الحطب التي تعمل فيها النساء على مدى 24 ساعة.

أما الشباب، فبعضهم يعمل في الزراعة، وكثر يفضلون الهجرة لأن سوق العمل لا يستوعبهم، ووجهتهم المفضلة موسكو. فالأرمن يتقنون اللغة الروسية إلى جانب الأرمنية، وهي تركة سوفياتية.

ويقول شبان شاركوا في الاحتجاجات الأخيرة، إن في الزمن السوفياتي كان يوجد الكثير من المصانع لكنها وهمية، إذ كان السوفيات يستخدمونها لتجميع صناعات من أماكن أخرى. ولم يصمد من الصناعات إلا ما له علاقة بالأرض، كصناعة النبيذ ومشروبات روحية أخرى. فلا مواد أولية تمكن أرمينيا من إنشاء صناعات ثقيلة. ولا غاز ولا نفط، إنما بعض النحاس الذي استخرج ونضب، ونشكر الله على ذلك وإلا فإنهم كانوا خربوا البيئة.

تتلوى الحافلة على الطرق المتعرجة، تارة تتسلق الجبال وتارة تنحدر إلى وديان، وينهمر مطر صيفي تغسل مياهه الأرض والشجر وتتردد عبر مكبر الصوت أغان حزينة أحياناً ومشبعة بالفرح أحياناً أخرى. إنها عصارة عمل مضن لمؤلفين موسيقيين جمعوا التراث الموسيقي الأرمني عبر التاريخ ونفضوا ما علق عليه من مؤثرات فارسية وعثمانية، لترقص على أنغامها الفتيات والسيدات والشباب في المقاهي والمطاعم.

لكن ما نجح الأرمن في التخلص منه موسيقياً، عجزوا عن مثله في مأكولاتهم، التي هي خليط من المطابخ الإيرانية والتركية والشرق أوسطية والتي تعتمد على الخضار، وتحديداً البندورة والباذنجان والبصل، وعلى الرز واللحم والدجاج، ومشتقات الألبان والأجبان، إلى جانب الصحن الأرمني اليومي على الطاولة الذي يقدم البسترما والسجق.

في أعماق أرمينيا يعبر طريق الحرير، إذ ثمة فروع له اعتمدت للابتعاد من مناطق كانت تنشب فيها المعارك بين الرومان والفرس. واليوم تعول أرمينيا على أن تكون طريقاً آمناً (طريق القوقاز الجنوبي) لعبور النفط والغاز الإيراني إلى العالم حين يبدأ تنفيذ الاتفاق النووي في مطلع العام المقبل. وأرمينيا التي تفتح ذراعيها أمام المستثمرين لإنشاء المزيد من منتجعات التزلج النادرة في هذا البلد الذي تكلله الثلوج لأشهر طويلة ويضم مساحات مثالية لممارسة هذه الرياضة الشتوية، تفتقر إلى تنفيذ مطارات داخلية لربط المناطق بعضها ببعض. وتعتبر من البلدان الأقل كلفة، فالأجنبي يمكنه تملك منزل في يريفان يتراوح سعره بين 20 و60 ألف دولار، وينخفض السعر إلى النصف خارجها.

في العاصمة الأرمنية يستحدث الشباب مفهوماً جديداً للوطن. يستفزهم قول بعضهم: «إننا لا نريد الديموقراطية لأننا لا نعرف عنها شيئاً»، ويسألون: «لماذا علينا القول إننا أرمن؟ يكفي أن نكون مواطنين في أرمينيا».

ناجية الحصري

الحياة

Share This