من أعلام الأرمن في الإمبراطورية العثمانية: المعمارباشي سنان (1490-1588)

دخل الأتراك إلى منطقة الشرق الأوسط بعد دحر الجيوش البيزنطية في معركة مانزكيرد عام 1071م واحتلال أرمينيا التاريخية.

يعد المعماري سنان من عباقرة الفن الهندسي عبر التاريخ الطويل للبشرية فقد ترك أعمالاً عديدة تشهد كل منها بالأصالة والمعرفة العميقة والذوق الفني إلى جانب إضافة أشكال جديدة إلى فن العمارة. قيل عنه الكثير الكثير، منها:
ـ دائرة المعارف الإسلامية:”يعتبر سنان واحداً من أعظم المعماريين الذين ظهروا عبر العصور التاريخية كلها”.
ـ في مؤلفه “الحضارة الإسلامية” أكد بارتولد: “لم تكن أعمال سنان أقل شأناً من الناحية الفنية عن الأعمال المعمارية الأوروبية في عصر النهضة”.

 ـ أكد بابنكر في بحث له “أن سنان هو ميكائيل أنجلو العثمانيين”.

ـ البروفيسور الألماني كلوك في جامعة فيينا:” يتفوق سنان على ميكائيل أنجلو فنياً الذي هو أكبر اسم فني في الحضارة الأوروبية”.
ـ يصفه المؤرخ التركي أحمد رفيق كالآتي: “لقد بلغ حب الأمة العثمانية لسنان حداً جعلها تمنحه لقب “سنان الكبير رائد معمار العالم”.

ولد المعمار سنان في قرية أغرناص الأرمنية في القيصرية في 9 أيار عام 1490 من أبوين أرمنيين وتوفي في اسطنبول في 8 حزيران عام 1588 وعاش حوالي قرناً كاملاً أمضى منها 50 عاماً كمعمار البلاط العثماني بين عامي 1539-1588. وكان سنان شغوفاً بشق قنوات المياه في الحدائق وبناء الأكواخ والحظائر منذ نعومة أظفاره. وعلى الرغم من محاولات الأتراك طمس هوية سنان الأصلية وإضفاء الغمامة على منبته عمداً أو جهالة فإن المعمار ذاته يؤكد في “السيرة الذاتية”: أنه درس في مدرسة للمسيحيين  Ajemi  Oghlanlar في ريعان شبابه في اسطنبول عام 1502 ثم تخرج من الكلية العسكرية كضابط في القوات الإنكشارية ثم اعتنق الإسلام وهو في 23 من العمر. قام السلطان سليم الثاني بتهجير أرمن مدينة القيصرية جماعياً إلى قبرص عام 1573 لكنه استثنى عائلة “كبير معماريي البلاط العثماني” من ذلك. أكدت الموسوعة التركية Tűrk Tarihi Enjumeyi Majmuasi  في عدديها حزيران عام 1930 وأيار عام 1931 هذه المعلومات.

ذاعت شهرة سنان في الجيش كمهندس للجسور والتحصينات والمنشآت العسكرية وأتيحت له الفرصة، وهو يرافق الحملات العسكرية العثمانية في الشرق والغرب، للاطلاع على فن العمارة الأرمنية والبيزنطية والسلجوقية والإيرانية وغيرها وكان ضمن صفوف الجيش عند دخوله عاصمة الصفويين تبريز وعند اجتياحه واحتلاله لحلب ودمشق في عام 1516 وصولاً حتى القاهرة وتأمل طرز هذه المواقع المعمارية من عربية ومسيحية ومملوكية وفرعونية. وتابع سنان مسيرة التثقيف الذاتي المعماري والفني مع اجتياحات الجيش العثماني المظفرة في أوروبا وتعرّف على الأوابد اليونانية والمجرية ووصل مع اسطول خير الدين برباروسا حتى إيطاليا. جاء سنان مع الجيش إلى العراق أيضاً وتعرف على أوابدها القديمة ومواقع بغداد. خدم سنان كمعمارباشي خاص للقصر طوال حياته المديدة خمسة سلاطين عثمانيين هم بايازيد الثاني وسليم الأول وسليمان القانوني وسليم الثاني ومراد الثالث.

في مخطوط “تذكرة الأبنية” وهو كتاب أملاه سنان على صديقه النقاش ساعي مصطفى جلبي جدول لأعماله التي بلغت 441 آبدة موزعة على مختلف أصقاع الدولة العثمانية الواسعة. وتشهد أعماله هذه العديدة على معرفة عميقة بأسرار فن الهندسة وذوقه الرفيع بسبب إضافة عناصر عديدة من فنون هندسة الشعوب المجاورة الأكثر تقدماً وحضارة من الأتراك-العثمانيين وخاصة أن العمارة العثمانية كانت في طور التشكل في هذه القرون وما بعدها. ومن ميزات سنان الكبيرة أيضاً الابتعاد عن الابتذال والتكرار والتصنّع والتقليد فكان يستخدم جميع العناصر المعمارية بأدق تفصيلاتها بشكل عضوي. يؤكد أستاذ الفن التركي جلال أسعد أن سنان اهتم بالأشكال الخارجية للأبنية عكس المهندس البيزنطي. ومن الجوامع التي قام ببنائها في اسطنبول وأروعها وأدقها تقانة وفناً جامع صقوللو محمد باشا وجامع رستم باشا وجامع شهزاده وجامع السليمانية.

أما في البلدان العربية فقد شيد سنان جوامع ومنشآت خيرية منها جامع خسرو باشا أو الخسروية مقابل الباب الرئيسي لقلعة حلب وجامع ومطعم السلطان سليمان في دمشق ومطعم خيري وجامع خاصكي سلطان ومدرسة وحمام السلطان سليمان في مكة المكرمة إلى جانب ترميم قباب الحرم المكي وأخيراً بنى مطعم خاصكي سلطان الخيري في المدينة المنورة وغيرها.

أقدم جدولاً شبه كامل عن الأوبد التي قام ببنائها في الدول العربية:

مكة المكرمة:جامع-1، مدرسة-1، دار القراء-2، رباط خيل بعين ماء-1، مطعم خيري-1.

المدينة المنورة: مطعم خيري-1

القدس الشريف: جامع-1، مدرسة-1، مطعم خيري-1.

البصرة: جامع-.1

دمشق: جامع-1(التكية السليمانية عام 1554)، مدرسة-1.

حلب: جامع-1(الخسروية)، خارج حلب: قصر-1، ضريح-1، تكية-1. لكنها اندثرت.

طريق باياس: جامع-1، مدرسة-1، حمام-1.

لكن معظم الأوابد التي قام سنان ببنائها تركزت في تركيا وهي على الشكل التالي: 81 جامعاً كبيراً و50 مسجداً صغيراً و55 مدرسة و19 مدفناً وسبع 7 مكتبات و14 عمارة و3 مستشفيات و8 جسور و5 أقنية و17 خاناً و31 قصراً و35 حماماً وغيرها.

هناك العديد من الأوابد الدينية والدنيوية التي قام ببنائها سنان في البوسنة-هرسك وأوكرانيا ومقدونيا وغيرها.
يعد مجمّع السليمية من أشهر الأعمال المعمارية في عهد السلطان سليمان القانوني بل وفي التاريخ العثماني كله لأنه يمثّل أكثر مراحل فن العمارة العثمانية تطوراً. بناه سنان عام 1557 واختار لبنائه ربوة تتحكم بالخليج الذهبي والبسفور. ويتألف المجمّع من جامع ومدرسة ومطعم وسواها وهي الكلية الثانية المشيدة في اسطنبول بعد الكلية التي ابتناها السلطان محمد الفاتح لجامعه.

أما في جامع السليمانية فقد استخدم سنان نظام القبة المركزية (انطلاقاً من الكنائس الأرمنية) واثنتين من أنصاف القباب. ويبلغ ارتفاع قبة جامع السليمانية 53م أي بزيادة 6 أمتار عن قبة كنيسة آياصوفيا البيزنطية التي حولها الأتراك إلى جامع وقاموا بطمس فريسكاتها الملونة البديعة بطلائها بالكلس الأبيض. ويبلغ قطر قبة جامع السليمانية 25,5م. ركز سنان في هذا الجامع على جميع أساليب عصره في هندسة البناء وبشكل خاص على عوامل انعكاس الصوت ونظام التهوية بحيث تتم بسرعة وسهولة. وضع سنان أربعَ مآذن في كل زاوية من زوايا الجامع مشيراً ومؤكداً على أن سليمان القانوني كان رابع سلطان عثماني منذ احتلال القسطنطينية. وفي الوقت ذاته شيد سنان عشرَ شرفات على هذه المآذن معلناً أن السلطان كان في الوقت ذاته عاشرُ سلاطين بني عثمان منذ عثمان مؤسس الدولة العثمانية. أقام سنان هذه المآذن بارتفاعات مختلفة بقصد إضفاء شكل هرمي على الجامع. وتحتوي كلية السليمانية على أقسام عدة وهي مدرسة عليا لتدريس الطب وأربع مدارس وكتّاب للصبيان ومدرسة للملازمين ودار للحديث وحمام ومستشفى ودار للضيافة ومطبخ ودار للقراء وتدريس القرآن الكريم وضريح السلطان سليمان وضريح حرمه وعين ماء وسبيل ونهاية ضريح المعمار سنان.

لم يحصر سنان نشاطه في البناء فقط بل خرّج جيلاً كاملاً من المعماريين المرموقين أكملوا ما بدأه وزادوا عليها وانتشروا في العالم الإسلامي منهم مثلاً المعمار يوسف الذي دعاه بابور شاه في الهند لبناء أوابد عظيمة في دلهي وأكرا. استمرت مدرسة سنان في العمارة العثمانية حتى الربع الأول من القرن 18 عندما وصلت تأثيرات حركة النهضة الأوروبية إلى البلاد العثمانية وسيطرت على الحياة الفنية فيها فتبوأت عائلة باليان الأرمنية بعده منصب “معمار باشي” البلاط العثماني مدة 200 سنة دون انقطاع بين القرنين الثامن عشر حتى نهاية القرن التاسع عشر. ومن أهم الأوابد التي خلفتها هذه العائلة قصر دولما باهجيه مفخرة الأتراك والعالم.

توفي سنان عام 1588 في سن المئة تقريباً وخلفه في منصبه المعمار داوود آغا. أرّخ صديقه النقاش ساعي مصطفى جلبي تاريخ وفاته قائلاً: “مات سنان معلم المعماريين في هذا الزمان فاحسنوا إلى روحه أيها الكهول والشبان بقراءة الفاتحة”.
هكذا، يسدل الستار عن شخصيات أرمنية مسلمة من سياسيين وعسكريين وفقهاء الدين الإسلامي ومعماريين ودورهم المرموق ونشاطهم الكبير وصيتهم الحسن ويتحدث عنهم التاريخ العربي والإسلامي باحترام جم.

 

د. الكسندر كيشيشيان

عضو اتحاد الكتاب العربورئيس تحرير “كتاب عاديات حلب السنوي للآثار”

Share This