ملحق: معاهدتا سان ستيفانو وبرلين عام 1878 (16)

آرا سركيس آشجيان

في أعقاب الحرب الروسية-العثمانية (1877-1878) وانتصار روسيا القيصرية، وبموجب بنود معاهدة سان ستيفانو، احتفظت روسيا من أرمينيا الغربية بمناطق باطوم واردهان وقارص وآلشكرد. وقد تقرر إلا تجلو القوات الروسية عن سائر الأراضي المحتلة إلا بعد تنفيذ الإصلاحات المنصوص عليها في المادة السادسة عشرة[1]. ولما كان متوقعاً عدم تنفيذ هذه الإصلاحات، فمعنى ذلك أن روسيا كانت ستستمر بالاحتفاظ بهذه المناطق.

وكان ذلك، بالنسبة للأرمن المقيمين في الإمبراطورية العثمانية، وعداً بحياة قابلة للعيش، ولا سيما بعد أن خاب أملهم في تحقيق الإدارة الذاتية. لكن الخلافات القائمة بين الدول، ولاسيما سياسة ديزرائيلي[2] الموالية للدولة العثمانية حالت دون ذلك. فبريطانيا كانت تريد، أيا كان الثمن، منع التفكك للإمبراطورية العثمانية[3]، وقد تمكنت من إجبار روسيا على التخلي عن هذه المعاهدة، والقبول بانعقاد مؤتمر في برلين لتدبير معاهدة جديدة. في هذه الإثناء، أي في 4 حزيران-يونيو 1878، وقعت بريطانيا مع الدولة العثمانية اتفاقية قبرص السرية. وبموجبها، حملت بريطانيا الدولة العثمانية على التنازل لهل عن جزيرة قبرص، وذلك لقاء الجهود التي بذلتها في سبيل الحد من المطامع الروسية، وتأمين الجلاء الفوري للقوات الروسية من الأراضي الأرمنية المحتلة.[4]

وهكذا، فأن حياة مئات الألوف من الأرمن الذين ذبحوا خلال العشرين سنة التي تلت ذلك، كانت الثمن لدوام السيادة البريطانية على جزيرة قبرص[5]، وهو ما حدا بـ (دوق ارجيل) إلى التصريح في مجلس اللوردات: “إن سياستنا، في أي جزء من أجزاء العالم، لم تملها مبادئ في مثل هذه السخافة واللااخلاقية”[6].

وبتوصية من البطريركية الأرمنية في اسطنبول، هيأ كريكور اوديان مشروعاً للحكم الذاتي لأرمينيا الغربية (العثمانية)، مستنداً إلى مبادئ دستور لبنان الذي حصل عام 1864 على الحكم الذاتي تحت رعاية الدولة العثمانية[7]. وفي آذار-مارس 1878، قدم البطريرك نرسيس فارجابيديان إلى السلطان عبد الحميد الثاني هذا المشروع، وأعطى السلطان موافقته عليها، ووجه بتقديمها إلى مؤتمر برلين[8].

واستطاعت الحكومة العثمانية بالدعوة إلى الحكم الذاتي لأرمينيا الغربية في مؤتمر برلين تضليل الزعماء الأرمن، وكان هدفها ينحصر في إفشال المادة السادسة العشرة من معاهدة سان ستيفانو[9] بالاتفاق مع بريطانيا التي كانت تخطط لقبر القضية الأرمنية، وطمأنة السلطان بأن الأرمن، وبعد رفض مؤتمر برلين لمطلبهم، سيبقون تحت رحمة السلطان من دون أي عون أو حماية، ليتمكن عندئذ من التلاعب بمصير الأرمن وحياتهم كيفما يشاء[10].

وأثناء انعقاد المؤتمر في برلين برئاسة بسمارك مستشار ألمانيا لم يسمح للوفد الأرمني بالدخول إلى المبنى الذي اجتمع فيه أعضاؤه المؤتمرون، ولكن أُخذت من هذا الوفد مذكرته المتضمنة لمطالبه. وقد جاء في هذه المذكرة إنه قد خابت آمال الأرمن العثمانيين في الإصلاحات التي وعدت بها الدولة العثمانية قبيل انتهاء حرب القرم بالخط الهمايوني المؤرخ في 18 شباط-فبراير عام 1856 لعدم تنفيذها[11]. ولكنهم لا يطالبون بالانفصال عن الدولة العثمانية، فهم قد تنازلوا عن مطلبهم الأساس، وهو إقامة دولة حرة مستقلة لهم، بل أن مطالبهم تنحصر في إدارة ذاتية مسيحية مضمونة بضمانات دولية مثل نظام لبنان الدولي الصادر في عام 1861 والمعدل في عام 1864 مع بقائهم في نطاق الدولة العثمانية[12]، وأنهم يبدون تحفظاً على انسحاب روسيا من أقاليم أرمينيا الغربية التي احتلتها، ولكنها لم تضمها، وان يكون هذا الانسحاب مرتبطاً بتنفيذ هذه المطالب[13]. ولكن هذا التحفظ لم يراعَ عند إبرام المعاهدة لأن بريطانيا كانت حريصة على سرعة انسحاب روسيا من أرمينيا الغربية، وأنها كانت قد تعهدت بمساعدة الدولة العثمانية عند الحاجة لإرغام روسيا على هذا الانسحاب في ضوء اتفاقية قبرص[14].كما لم يأخذ المؤتمر، بفضل بسمارك، باقتراح الوفد الأرمني بمنح أرمينيا الحكم الذاتي[15].

وفي معاهدة برلين الموقعة في 13 تموز-يوليو 1878[16]، استبدلت المادة السادسة عشرة الواردة في معاهدة (سان ستيفانو) بالمادة الحادية والستين التي تنص على:

“يتعهد الباب العالي للقيام ودون إبطاء بتحقيق الإصلاحات التي تقتضيها ظروف المقاطعات المحلية التي يقطنها الأرمن وضمان سلامتهم ضد الشركس والأكراد. وسيقدم الباب العالي الى الدول التي كلفت بمراقبة عملية تنفيذ هذه النصوص، ببيانات دورية بالخطوات التي ستنفذ بهذا الخصوص”[17].

إن اختلاف المادة الحادية والستين من معاهدة برلين عن المادة السادسة عشرة من معاهدة سان ستيفانو يتبين من ثلاث نقاط رئيسة:

أولا: إن انسحاب القوات الروسية لم يعد مشروطاً بتحقيق الإصلاحات.

ثانيا: إن تحقيق هذه الإصلاحات لم يعد خاضعاً للرقابة الروسية فقط، بل لمجموعة من الدول، وهذا تأكيد لاستبعاد تنفيذها بسبب اختلاف وجهات النظر الدائمة بين هذه الدول.

ثالثا: هذا الفارق الأخير ليس متأتياً من نص المادة، بل من الأشغال التمهيدية، في حين كانت الإصلاحات المنصوص عليها في المادة السادسة عشرة من معاهدة سان ستيفانو تقتصر، بناء على طلب الأرمن، على المقاطعات التي يشكلون فيها الأكثرية المطلقة، وهي موش وفان وأرضروم، فإن المادة الحادية والستين من معاهدة برلين لم تتضمن أي تخصيص من هذا القبيل. ولما كان ثمة أرمن يقطنون في معظم أنحاء الأناضول، فقد كان للأتراك الحق، قانونياً، الادعاء بأن انجاز الإصلاحات المقترحة من شأنها أن تهدد سيادتهم في أهم قسم من إمبراطوريتهم.[18] كما خلت المادة الحادية والستين من معاهدة برلين من الدقة في التعبير وكانت غير فاعلة، وسرعان ما تبين أن المعاهدة، بمجملها، واهنة، نظراً لأن معظم ما ورد فيها من مواد تثير مصاعب وتعقيدات جديدة (في مقدونيا، والبوسنة والهرسك، والروملي، وجزيرة كريت، ومناطق أخرى)[19].

ومع ذلك، فإن المادة الحادية والستين من معاهدة برلين، وبرغم ما تشوبها من شوائب، كانت تشكل، على حد تعبير المؤرخ الأرمني بصطرمجيان، “حقاً بالنسبة للأرمن، والتزاماً بالنسبة لتركيا، وواجباً بالنسبة لأوروبا”. لكن أوروبا قصرت في القيام بهذا الواجب، وبتقصيرها أصبحت، بشكل غير مباشر، مصدر كل تعقيد أحاط لاحقاً بالقضية الأرمنية، وأدى الى افتعال المذابح الرهيبة[20].

وقد شرع السلطان عبد الحميد الثاني، مستفيداً من اتفاق قبرص الذي عقده مع الحكومة البريطانية ومن عدم اهتمام الدول الأوروبية بمصير السكان القاطنين في آسيا الصغرى، ومنهم الأرمن، ومستغلاً اللغة غير الواضحة وغير المحددة للمادة 61 من معاهدة برلين، شرع بتكثيف حملته الرامية إلى إبادة الأرمن حتى يتم التوقف عن استخدام تعبير “الولايات التي يقطنها الأرمن” (الوارد في المادة 61 من معاهدة برلين)[21].

وكما كانت الحالة في إصلاحات عامي 1839 و 1856 ودستور عام 1876، بقيت بنود معاهدة برلين في ما يتعلق بمعاملة الشعوب والأقليات حبراً على ورق[22]. وأكد العالم البريطاني داوسن أنه “لم يتواجد ميثاق دولي رصين خرق وأهمل بشكل منظم وصريح، جزئياً من قبل الدول الموقعة عليها نفسها، مثل المعاهدة التي عقدت في برلين في تموز-يوليو 1878”[23].

وبعد عودته إلى موطنه، قال مكرديج خريميان (خريميان هايريك) الذي كان رئيساً للوفد الأرمني إلى مؤتمر برلين لأبناء شعبه: “لقد طبخت الحرية في برلين، ولكننا لم نتمكن من أكلها بملعقة من الورق. لا ترجوا يا أولادي أي أمل من الأجانب ودبروا أموركم بأنفسكم”، فكان هذا القول نذيراً للثورة عند الأرمن[24].

*قسم من ورقة عمل قدمها الباحث آرا سركيس آشجيان بعنوان “أحوال الأرمن في أرمينيا الغربية في القرن التاسع عشر وأبعاد سياسة الإبادة للدولة العثمانية إزاءهم حتى عام 1923″في المؤتمر الدولي الخاص بالإبادة الجماعية الأرمنية تحت شعار “الإعتراف بالإبادة الجماعية الأرمنية خطوة نحو السلام العالمي” الذي عقد في 23 أيار، 2015 في بغداد.

خاص لملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية

[1] راجع: هراج داسنابيديان، المصدر السابق، ص 10.

[2] رئيس وزراء بريطانيا يهودي الأصل.

[3] كانت بريطانيا أيضاً تسعى وبقوة لمنع ضم المناطق الأرمنية إلى روسيا. ففي 30 نيسان-أبريل 1877، كتب السفير البريطاني في اسطنبول لايارد إلى ايرل درباي سكرتير الخارجية البريطانية بلفت نظره “إلى خطورة الموقف، إذ أن على بريطانيا أن تقدر تأثير ضم أرمينيا إلى روسيا على مستعمراتها في الهند بحيث أن روسيا ستستولي عندئذ على منطقة آسيا الصغرى برمتها، بما فيها وادي الفرات ودجلة”. مقتبس من: احمد سوسة (دكتور)، ملامح من التاريخ القديم ليهود العراق، مركز الدراسات الفلسطينية، جامعة بغداد، الطبعة الأولى، 1978، ص 125.

[4] راجع: هراج داسنابيديان، المصدر السابق، ص ص 10-11.

[5] راجع: بول أميل (بروفسور)، المصدر السابق، ص 43.

[6] مقتبس من: هراج داسنابيديان، المصدر السابق، ص 11.

لما أبلغت بريطانيا فرنسا عن مضمون اتفاقية قبرص وغاياتها، قالت “إن حكومة صاحبة الجلالة لا يمكنها أن تترك آسيا الغربية لقمة سائغة في متناول روسيا انى شاءت لأن انتصار روسيا في الاستيلاء على قلعة قارص تمكنها من احتلال كل المنطقة الواقعة بين البحر وتخوم فارس. إن رغبة حكومة صاحبة الجلالة ومصلحتها في توطيد الاستقرار في المنطقة وإبقائها على وضعها الحاضر شيء هام جداً بالنسبة لها، لذا اضطرت إلى التحالف مع تركيا وهي عازمة على الأخذ بالتزامات المعاهدة، هذا إذا ما أقدمت روسيا على تخطي الأراضي الواردة فيها”. مقتبس من: د. احمد سوسة، المصدر السابق، ص 125.

[7] راجع: تاريخ الشعب الأرمني، المصدر السابق، ص 113.

[8] المصدر السابق، ص 113؛ م. سيروبيان، المصدر السابق، ص 139. وتحاول أغلب المصادر التركية، وخلافاً للوقائع والأدلة التاريخية، أن تبين أن الأرمن قدموا هذا المشروع إلى مؤتمر برلين من دون علم السلطات العثمانية لتتهم بعد ذلك الأرمن، وكعادتها، ب ـ(خيانة) الدولة العثمانية.

[9] راجع: تاريخ الشعب الأرمني، المصدر السابق، ص 113.

[10] راجع: م. سيروبيان، المصدر السابق، ص 139.

[11] راجع: سمير عربش، المصدر السابق، ص 119.

[12] المصدر السابق، ص ص 119-120؛ عبد العزيز محمد الشناوي، المصدر السابق، ص 1550.

[13] حسب الإحصائية التي أعدتها البطريركية الأرمنية في اسطنبول وقدمت إلى مؤتمر برلين، كان العدد الإجمالي للأرمن في تركيا أكثر من 3 ملايين نسمة، في حين كان عدد سكان ذلك الجزء من أرمينيا الغربية المطالب بتطبيق الحكم الذاتي فيه والواقع خارج نطاق الأراضي التي كانت ستضم لروسيا بموجب معاهدة سان ستيفانو، كان عدد سكانها مليونين و 62 ألفاً و 300 نسمة كان نفوس الأرمن فيها يبلغ مليوناً و 300 ألف نسمة (63 في المائة)، والباقي هم أكراد وأتراك وغيرهم. راجع: تاريخ الشعب الأرمني، المصدر السابق، ص 117.

وحسب مصدر روسي، إن المصادر التركية (سالنامينير) نفسها ذكرت أن عدد الأرمن في الولايات الست لأرمينيا الغربية بلغ في ستينيات القرن التاسع عشر 3 ملايين و 150 ألف نسمة. بيد أن الأتراك نقضوا لاحقا الأرقام التي أعلنوها ولجأوا إلى إنقاص عدد الأرمن. وسكن في أرمينيا الغربية أيضا الأتراك والأكراد والنساطرة واليونانيين واليهود وغيرهم. وخلافاً لادعاء المصادر التركية، كان الأرمن في أرمينيا الغربية هم الغالبون نسبياً، في حين شكلوا في مناطق محددة غالبية مطلقة، كما هي الحال في فان (كانت نسبة الأرمن فيها 74%)، وبولاغ (67%)، وموكس (63%)، وارجيش (64%) ومناطق أخرى. راجع: م.ف. آرزومانيان، المصدر السابق، ص ص 145-146.

وبحسب المصادر الدبلوماسية البريطانية، فأنه، ونتيجة للإزاحة السكانية خلال الحرب الروسية-العثمانية عام 1877-1878، والمجازر والفظائع التي ارتكبتها القوات الكردية غير النظامية بتحريض وتنظيم من السلكات العثمانية، وعملية التوطين التي كانت الحكومة العثمانية ترعاها للسكان الشركس والأتراك واللزكيين في شرقي آسيا الصغرى، تناقصت نسبة السكان الأرمن في الولايات الشرقية الستة للإمبراطورية العثمانية إلى 35 بالمائة من مجموع السكان هناك في عام 1878.

  1. Dzh. Kirakosian (Arman Dzhonovich Kirakosian, Arman John Kirakosian), British Diplomacy and the Armenian Question: From the 1830s to 1914- provided by Gomidas Institute (2003) through the Google Books Partner Program, Printed in USA, ISBN: 1884630073., p. 62.

وشكّل الأرمن بهذه النسبة، برغم ذلك، أغلبية السكان في هذه الولايات.

[14] راجع: سمير عربش، المصدر السابق، ص 120.

[15] راجع: عبد العزيز محمد الشناوي، المصدر السابق، ص 1551.

[16] أعادت معاهدة برلين 30 ألف ميل مربع من الأراضي ومليونين ونصف المليون من السكان الأوروبيين الى إدارة السلطان. راجع:

Peter Balakian, Op. Cit., p. 39.

[17] مقتبس من: بول أميل، المصدر السابق، ص ص 43-44.

[18] راجع: بول أميل، المصدر السابق، ص 44.

[19] راجع: هراج داسنابيديان، المصدر السابق، ص 11.

[20] المصدر السابق، ص 12.

[21]A. Dzh. Kirakosian (Arman Dzhonovich Kirakosian, Arman John Kirakosian), op. cit., p. 79.

[22] Vahakn N. Dadrian, op. cit., p. 106.

[23]Ibid., p. 107.

[24] راجع: ك.ل. استارجيان، المصدر السابق، ص 279.

Share This