طبيب العيون الأرمني.. في حارتنا بقلم فاضل السباعي

fadel sibai

ألمّ بي، وأنا طفلٌ صغير، مرضُ بالعيون سمّوه “الرمد الربيعي”، عرفت بعد أن وعيت أنّّ سببه غبارُ الطَّلْع الذي تنشره أزاهير الربيع فتتأثر به عيونُ بعض الناس وكنت واحدا من هؤلاء.

صحبني أبي إلى طبيب العيون القريب من حارتنا “زقاق الزهراوي”، تقع عيادته ما بين “قسطل الحجارين” و”باب الفرج”، في وسط ذلك الطريق المتعرّج المسمّى “شارع حمّام التلّ”، واسمه الذي قرأته يوم بدأت أفكّ الخطّ “لودر جاميجيان” (عرفت فيما بعد أنّ “لودر” هو النطق باللغة الأرمنية لاسم القسّ الألماني “مارتن لوثر” المنشقّ عن الكنيسة الباباوية والمؤسّس لمذهب “البروتستانتية).

كان الطبيب مديد القامة، ذا مهابة، وحاذقا، ينطق العربية بصعوبة (فلم يكن أبناء الطائفة الأرمنية بحلب، القادمون من تركيا قبل عقدين من السنين، قد آن لهم أن يتقنوا العربية).

وكانت تعمل في عيادته ممرضة لطيفة اسمها “ماري”، تتّسم بالفطنة وبالنزاهة أيضا، فقد كانت تتذكّر دائما مَن مِن الجالسين على المقاعد المنتظرين جاء قبل غيره فتدعوه للدخول إلى الطبيب.

وأذكر أنّ عيوننا، التي تتماثل للشفاء، كانت تلهج بالشكر والعرفان والمحبة لماري وللطبيب… وأظنّ أنه ما كان يخطر في بال أحد منّا أننا سوف نعزم يوما على قهر الأرمن أو أيّ من الأقليات العرقية أو الطائفية، التي نتعايش معها ونتبادل كلّ مقومات الحياة والعيش الجميل.

أدركت المنية الدكتور لودر جاميجيان بُعيد أن تزوجتُ، أنا الذي كنت أسمعه صغيرا يقول لأبي إنّ هذا الرمد لن يعود لطفلك متى آن له أن يكبر ويتزوج. عاد الصفاء إلى العينين، الملوّنتين بلون الربيع الذي أرهقهما منه غبار طلعه! هذا الحديث توقّفت عنده وِقفةً في إجاباتي على “استفتاء” أعدّ أسئلته، في ستينيّات القرن الماضي، الطالب حسام الخطيب، معتمدًا إيّاه في أطروحة دكتوراه يحضّرها، وقد نشر إجاباتي المستفيضة في عدد خاص من مجلة “المعلم العربي” (عن وزارة التربية) في العام 1966.

Share This