صفحات من كتاب “تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان، مطران الأرمن الأسبق في حلب، (1925 ـ 1940) (2)

ardavazt-sourmeyan-book-cover

ينفرد “ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر صفحات كتاب “تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان، مطران الأرمن الأسبق في حلب، (1925 ـ 1940)، وقد ترجمه عن الأرمنية الدكتور ألكسندر كشيشيان. وسنورد تباعاً أقسام الكتاب:

القسم الأول- ويشمل: حلب أو بيريا في الكتب المقدسة والقرآن الكريم ـ تسمية المدينة ـ موقع المدينة ـ التشكل الجغرافي والجيولوجي ـ نهر المدينة والبحيرات القريبة ـ المناخ.

 

موقع المدينة

     حلب من المدن الهامة في آسيا وهي المدينة الكبيرة الثانية في الجمهورية السورية بعد دمشق وتقع في الشمال السوري في السهول المنبسطة والسهوب على خط طول شمالي36 ْ 11’ 32’’ وخط عرض شرقي 34 ْ 10’ وكانت العاصمة السابقة لمملكة Comagene التاريخية وهي من أقدم مدن العالم لا بل أقدم مدينة باعتقاد السكان المحليين. ونعثر على آثار المدينة القديمة التي تعود إلى سنة 2000 ق. م. عن طريق التنقيبات الأثرية. ويعود فضل تطور وشهرة المدينة منذ الأزمنة الموغلة في القدم إلى موقعها الجغرافي المناسب جداً كونها تقع على الطريق الرئيسية الممتدة من الغرب وحتى آسيا الوسطى وبالعكس. وقد حولتها جميع الشعوب الغازية كالحثيين والآشوريين والمصريين والميديين والفرس واليونانيين والرومانيين والعرب إلى قاعدة في منطقة تسمى حالياً بسوريا الشمالية. وبغض النظر عن هوية الحاكم كانت جميع المخازن في المدينة مليئة بمختلف السلع وكان التجار الحلبيون الأذكياء الحاذقون يجلبون مختلف أنواع البضائع من جميع أنحاء العالم ويحملونها على قوافل الجمال في كل الاتجاهات حتى إلى أبعد البلدان كالجزيرة العربية والهند والصين. وتقع حلب بين نهري العاصي والفرات على بعد 100كم عن كل منهما تقريباً. ومن المعلوم أن وديان العاصي والفرات كانت طرق طبيعية للهجرات البشرية والفتوحات والمبادلات التجارية خلال جميع العصور التي انصرمت. وقد شيدت مدينة حلب في وسط نجد واسع يمتد بين جبال الأمانوس ونهر الفرات وكانت همزة الوصل منذ أقدم العصور بين الغرب والأناضول من جهة وبين العراق وإيران والهند ولبنان وفلسطين وشبه الجزيرة العربية ومصر من طرف آخر.

     يصف القنصل الفرنسي في حلب شيفالييه لوران دارفيو المدينة في “مذكراته” لعام 1683 على الشكل التالي: (تقع حلب على خط العرض 36 درجة وخط طول 65 درجة تقريباً على أرض منبسطة وهي مبنية على سبع تلال متوسطة الارتفاع أربعة منها الأكثر ارتفاعاً. والتلة الواقعة في وسط المدينة هي الأعلى فقد شيدت قلعة حلب على كامل مساحتها وتم تغطية سفحها بالألواح الحجرية المجلية الكبيرة وهي محاطة بخندق عميق يمتلئ بمياه الأمطار ولكن تفوح منها الروائح الكريهة بسبب رمي جثث الحيوانات وخاصة بقايا الطيور المذبوحة. وهذه القلعة التي يقال بأنها شيدت من قبل الفرنجة عندما كانوا أصحاب البلاد,واسعة وكانت تسخدم مسكناً للباشا عندما يأتي إلى حلب وعندما يغيب عنها يقطنها نائبه أو المتسلّم. وتترك القلعة على الناظر انطباعاً باهراً بسبب موقعها وارتفاع أسوارها وأبراجها وإشرافها على المدينة من جميع جهاتها)).

التشكل الجغرافي والجيولوجي

     قسمت مساحة حلب إلى قسمين بسبب جريان نهر قويق. والنهر غير منتظم الجريان لأن كمية مياهه تتراوح بين 6-7 متراً مكعباً في الثانية شتاء بينما تجف مياهه تقريباًً في فصل الصيف. وكان جريانه أكثر تنظيماً قبل الحرب العالمية الأولى. وعندما تم تعيين الحدود السورية-التركية في عام 1921 بقيت ينابيع النهر على الطرف التركي فغيّر الأتراك مجراه لاستخدام مياهه في ري الأراضي المحلية وكانوا يحررون بعض مياه النهر وتسيل إلى حلب فقط عندما تزيد المياه عن حاجتهم. ويفيض نهر قويق شتاء بعد الأمطار الغزيرة وتغطي مياهه الحقول والأراضي المجاورة ولا تصل مياه الفيضان إلى المدينة بسبب عمق سرير النهر مقارنة بالجوار. أما المياه التي تغطي أو تدخل في منشآت بعض أحياء المدينة وبيوتها فهي بسبب الأمطار الشديدة التي تشكل جداول. وهناك سلسلة من التلال الصخرية حول مجرى النهر منها تل شيد على قمته ثكنة عسكرية وتل آخر نصف طبيعي بنيت على قمته وسفوحه قلعة حلب القديمة الشهيرة.

     أسست جميع مدن سوريا ومنطقة ما بين النهرين على مرتفعات تسمى التلال باللغات السامية وكانت عبارة عن حصون في المرحلة الأولى ثم تشكلت المدن حولها مع الوقت. والتلال مرتفعات من التراب أو الصخور كانت لها قيمة عسكرية. وهناك رأي يؤكد بأن هذه التلال أقيمت طوعياً للدفاع عن النفس أمام الغزوات وهناك اعتقاد آخر بأنها تشكلت في الموقع عبر العصور الطويلة تدريجياً بسبب انهيار ودمار منازل وأبنية مختلفة ثم بناء منشآت جديدة مرة أخرى. وكانت معظم هذه التلال تحت إشراف القلاع ولم تكن محطات رائعة للدفاع فحسب, بل كانت تخدم أيضاً كنقاط مراقبة من الطراز الأول. ونرى مجموعة من التلال على الإنهدام الغربي لنهر قويق شيدت عليها ثكنتان وصروح مختلفة وتمر بينها الطريق الملكية نحو أعزاز وأنطاكية. وتمتد مدينة حلب بين هذين الصفين من التلال ونهر قويق.

     تمتاز المنطقة بتربتها الحوارية ونجد أن هذه الطبقة تقع على الجهة الخارجية من التلال وتُصنع منها بلوكات الحجر الأبيض الجيد للبناء التي يمكن قطعها ونحتها بسهولة لطراوتها ولكنها تصبح قاسية ويميل لونها إلى الأصفرار عند تعرضها للهواء والعوامل الطبيعية الأخرى. وهناك الأحجار الصفراء والوردية والسوداء التي تستخدم في تزيين الأبنية. أما سفوح هذه التلال فإنها مشكلة من التربة السيليكو-البيلونية والحوارية-البيلونية. وهذا هو سبب بناء معظم بيوت حلب بهذا الحجر القاسي الناصع الذي يضفي على المدينة منظراً بديعاً ومتناغماً.

نهر المدينة والبحيرات المحيطة به

     على الرغم من كون حلب الواحة الوحيدة في الصحراء السورية الواسعة وأهميتها العسكرية والتجارية لكنها شيدت على نهر صغير بائس هو نهر قويق (تصغير قاق وجمعها قيقان-بمعنى الغراب) الذي مع ذلك جاء ذكره في التاريخ والشعر العربيين مرات عديدة. وتُروى مدينة حلب بمياهه وكان يدعى Siga أو Sikem أو Skelius في الماضي ولكن اسم قويق أكثر استخداماً. ويجري النهر طوال فصلي الشتاء والربيع بغزارة مسبباً بعض الفيضانات الواسعة ولكنه يجف بشكل كامل تقريباً بقية السنة. ويقع نبع نهر قويق على بعد ثلاثة أيام أو 30 فرسخاً إلى الجهة الشمالية-الشرقية من حلب قرب مدينة عينتاب. وبعد مرور النهر عبر قريتي سازغين وجغجغين باتجاه الجنوب الغربي يتشكل النهر الأصلي ويتوسع بفضل الينابيع والجداول التي ترفده ويصل إلى قرية حيلان. وتستخدم في هذه المنطقة ثلثي كمية مياه النهر في مجال الري ويجري الثلث الأخير إلى حلب ويرفده على الطريق جدولان هما عين البيضا وعين التل. وقبل وصوله إلى حلب ينقسم إلى فرعين ملبياً حاجات المدينة وواهباً الحقول والبساتين المجاورة على الضفتين خصوبة لا تصدق. وبعد وصول نهر قويق إلى بساتين وحقول وغابات الوضيحي (المحطة الأولى لقطار حلب نحو حماه) وحاضر على بعد ساعتين من قرية الوضيحي بعد رفده بمياه عين المبارك يتجه إلى المناطق الجنوبية الغربية ويختفي في مغارة المطخ. وتجف مياه نهر قويق صيفاً وبالكاد تكفي لإرواء بساتين قرية خان طومان. ولو كانت محافظة حلب أكثر فطنة ولم تربط القريتين المذكورتين بمياه النهر لاكتفت المدينة وضواحيها بمياهه طوال فصل الصيف. وكما ذكرنا يكبر ويتوسع نهر قويق في فصل الأمطار الغزيرة وتغطي مياهه الضفتين وتقتلع الأشجار وتضر بالمزروعات ويصل الأمر في بعض الأحيان إلى هدم المنازل. ويمكن أن يستمر الفيضان مدة 20 يوماً كما حدث في عام 1925. ولحسن الحظ زالت حالات الفيضان بشكل نهائي منذ عام 1938 بعد أن قامت شركة مياه حلب ببناء أقنية عريضة ومنتظمة في منطقة السبيل.

     يحتوي نهر قويق على 15 نوعاً من الأسماك وكان الصيد وافراً بسبب غزارة مياه النهر. وهذه الأسماك صغيرة الحجم بشكل عام لأن الصيد الجائر يستمر طوال العام ولا يُسنح لصغار السمك بالنمو بينما يمكن لتلك الأسماك البقاء مدة طويلة في ينابيع حيلان وتكبر ولكن ليس بحجم الأسماك من الفصيلة ذاتها في دول أخرى. وهذه أنواع أسماك النهر:

(1)فصيلة الحيّات(الحنكليز أو الإنكليزي بالعربية و Ophidium,Mastacembelus, Alepp Eel) يصطادونها بكميات كبيرة ودهونها أقل لذلك فإن طعمها ألذ من الأنواع الأوروبية. ويصل طولها إلى 11 أصبعاً وفي أحيان كثيرة أكبر بكثير ورؤوسها كبيرة بشكل ملحوظ ومبسّطة من الجهتين. وعندما يكون فمها مغلقاً يشبه منقار الطير. وعيونها صغيرة وتقع على جانبي الجمجمة قرب الفم حيث نلاحظ الأسنان العديدة ويميل رأسها إلى اللون الأسود وبطنها أبيض اللون بينما ظهرها يقترب إلى اللون الأصفر.

(2)الزقزوق(Silurus Pelicis)يصل طوله إلى 5 أصابع بلون فضي ورأس أكبر من جسمه وله أسنان عديدة غير منتظمة.

(3)(Siluris Cous)تشبه الزقزوق بشكل عام وهي بعيون صغيرة وجسم فضي مائل إلى السواد. هذا النوع والزقزوق من الأنواع المفضلة عند السكان المحليين.

(4)(Obitis Barbatula)السمك الأكبر كمية في النهر وهو لذيذ الطعم.

(5)البُراق(Chub,Cyprinus Cephalus)البراق والبني يختلفان قليلاً عن الأسماك الأوروبية من الفصيلتين المذكورتين.

(6)البُنّي(Foscal,Cyprinus Binni) من الأسماك الطيبة.

(7)الكرسين(Barbel,Cyprinus,Barbus)

(8)التقل(Gudgeon,Cyprinus Drpoeta)

(9)كللور(Angulus Oris) طوله حوالي عشرة أصابيع ونصف ويشبه التقل بلونه.

(10)كريتي(Kreity,Cirris Quatuor) يشبه أسماك نهر نيفا.

(11)ميرمير(Cyprinus) يصل طوله إلى سبعة أصابع تقريباً وهو فضي اللون ورأس صغير وعيون كبيرة.

     الأسماك التي يقومون باصطيادها من نهر قويق لا تكفي حاجات سكان مدينة حلب لذلك تكثر في أسواقها الأسماك اللذيذة التي يتم اصطيادها شتاء وربيعاً من نهر الفرات وعفرين وبحيرة أنطاكية وخليج اسكندرون.

     على الرغم من عدم زراعة البساتين حول النهر بالطرق العلمية والفوضى السائدة في زراعتها إلا أنها تدرّ جميع أنواع الفوائد المرجوة منذ عصور بعيدة جداً ومع ذلك يتناقص عددها مع الوقت. ويذكر القنصل الفرنسي بساتين الرمان والخوخ البديعة وأشجار الحمضيات من البرتقال واليوسفي والليمون وغيرها التي اندثرت ولم يبق منها أي أثر. وبناء على “مذكراته” أيضاً كانت هناك أشجار الأجاص والدراق واللوز والمشمش وأنواع عديدة من التين والفستق الحلبي وهذا الأخير((لونه كلون اللحم وهو مغطى بغشاء تفوح منه رائحة زكية وهو محاط بقشرتين صلبتين وتوجد بينهما فاكهة خضراء بطعم بديع ومعطّر. ومن خواصه أنه مهيّج لذلك يستلذ الأتراك من أكله. وهو لذيذ جداً ويؤكل طازجاً أكثر منه يابساً. ويضيف الأتراك والأوروبيون الفستق في مأكولاتهم ومعجناتهم الطيبة. والأتراك يتقنون صناعة الحلويات ومن الصعوبة بمكان بأن يتبارى أحذق معلمينا معهم في هذه الصناعة. وهذه البساتين لا تزال عامرة بجميع أنواع البطيخ والجبس وهي فاكهة نافعة وغزيرة بالماء وخاصة في الطقس الحار جداً. ولُب الجبس له لون أحمر جميل وهو لذيذ جداً ومنعش دون أن يسبب أذىً. وبالقدر ذاته فإن مذاق الخيار طيب إلى درجة أن السكان المحليين يأكلونه كالتفاح دون عناء تقشيره. ويأكل سكان حلب قرعاً حلو المذاق:القرعيات Calebasse الذي يصل طوله إلى قدمين وعرضه إلى أربعة أصابيع فقط وهو لذيذ جداً عندما يطهى مع البيض أو يجهز منه المحشي باللحم. وجميع خضار هذه الحدائق وافرة ولذيذة جداً وتباع يومياً بكميات كبيرة((.

Chevalier D’Arvieux (Memoires) IV, Paris-1734, p. 411

     كل مدينة يعبر من خلالها أو قربها نهر أو نهير هو نعمة لمواطنيها من الناحيتين الصحية والصناعية. ولكن مع ذلك فإن نهر قويق عدا عن عدم تقديم أية فائدة صحية فإنه يعتبر بلاء حقيقياً لشريحة مرموقة من أهالي حلب بسبب جهلهم. وكما رأينا يتشكل النهر في المرتفعات الشمالية-الشرقية البعيدة عن حلب ويجلب معه كل أنواع الفضلات البشرية والحيوانية من القرى الواقعة على ضفتيه ويصل إلى المدينة وتُسقى خضار معظم بساتينها بمياهه الآسنة ثم تُنقل هذه الخضار إلى ساحات المدينة على ظهر الحيوانات أو العربات لبيعها بعد غسلها بمياه النهر مرات عديدة وتشكيل الحزم منها فيبتاعها السكان دون تفكير للحظة واحدة بأن الخضار التي قاموا بشرائها ملوثة بالمكروبات المسمة والمعدية. وتأكيدنا على ذلك أنه ابتداء من الجهة الغربية لحي الميدان الأرمني وحتى الكتّاب والمشارقة وجميع بساتين الأنصاري موبوءة بسبب تلوث مياه النهر وهذا هو السبب لمعاناة معظم سكان مدينة حلب طوال الأشهر الإثني عشر من الزحار والتيفوئيد والإسهالات. وإذا أضفنا إلى هذه الناحية عادة أكل الطبقات الدنيا من الشعب الخضار نيئة والفواكه فجة عندئذ يمكنا تصور الأضرار الهائلة التي تلحق بطبقة فقراء هذه المدينة والجهلاء بينهم. ومن المعلوم أيضاَ أن شريحة كبيرة من السكان تعاني من أمراض الديدان المعوية المختلفة نتجت عن استخدام هذه المياه الملوثة أيضاً. وبصفتي مطران المدينة والعضو في المجلس المحلي للمحافظة قمت بتقديم الملاحظات مدة 16 سنة لكننا لم نجد تغييراً على الرغم من جميع الإمكانيات المتوفرة للمحافظة لمنع عادة غسل الخضار والفواكه في المياه الآسنة الضارة. ومن الملاحظ والمؤسف بأن قسماً كبيراً من مرضى المستشفيات اللبنانية هم من سكان حلب على الرغم من مناخ حلب الصحي. ومع ذلك علينا الاعتراف أيضاً بأن أحوال حلب في الربع القرن الأخير تحسنت كثيراً وبدأ سكان الأحياء الداخلية يسكنون في منازل مشمسة وعلى شوارع عريضة.

     يقول دارفيو في “مذكراته” في عام 1688: (يدير نهر سينكا 16 طاحونة شمالي حلب. ويعتقد أن مياهه تأتي من مياه Bir رافد الفرات ويروي جميع بساتين المدينة التي تقع على بعد 3,5 فرسخاً ثم يختفي في المستنقع الذي يبعد عن حلب القديمة خالكيس مسافة 7 فراسخ. وعلى الرغم من صغره فإن هذا النهير غني بالسمك. وعندما يقل هطول الأمطار شتاء فإنه يجف بالكامل ويلجأ البساتنة عندئذ إلى الطواحين وهي حالة غير طبيعية في المدينة)).

     يقول بن الشداد: (نهر حلب يدعى قويق وهو تصغير لقاق(الغراب). ويتشكل هذا النهر من مياه نبعين رأيتهما شخصياً على بعد 24 ميلاً عن حلب:يقع أولهما في قرية الحسينية قرب أعزاز وتجري المياه منه بين مرتفعين ثم يتجه إلى الأراضي الجنوبية من الجبل الكائن غربي أعزاز. ويتشكل الفرع الثاني من مياه ينابيع عديدة في سيناياب وبعض القرى الأخرى المجاورة الواقعة في منطقة عندان. وتجري مياه الينابيع وتتجمع في وادي سيناياب ثم يترافد هذان الجدولان قرب مدينة أعزاز وبذلك يتشكل نهر قويق الذي يجري في سهل دابق ثم يمر عبر حلب. وقبل وصوله إلى حلب تزداد كمية مياهه ويتوسع مجراه بسبب رفده بينابيع أخرى على الطريق إلى درجة تشغيل الطواحين. وتقع أول طاحونة على مجرى قويق في قرية مليد شمالي حلب. ويتوسع النهر بعد مغادرته حلب أكثر فأكثر بسبب رفده بينابيع أخرى وخاصة من مياه العين المباركة وتزيد سرعة جريانه ويروي قطع واسعة من الأراضي. وينتهي سير النهر في قنسرين ثم يمر عبر المطخ حيث يشكل مستنقعاً بين آجام القصب. ويعتقد بعضهم بأن قويق بعد تشكيله للمستنقع يجري ثانية ويصب في بحيرة أفامية. ويُتأكَد من هذه الشهادة بسبب تلون مياه أفامية بلون قريب من الأحمر شتاء عندما يرتفع مستوى مياه النهر. وتصل المسافة بين حلب وهذه المستنقعات إلى 14 ميلاً)).

     يقول ابن زيد البلخي: (بداية نهر حلب هي من أرض دابق التي تبعد 18 ميلاً عن حلب ثم يختفي بين غابات القصب)).

   يقول أبو حوقل النصيبيني: (لحلب نهر يسميه أبو حسن نهر قويق يشرب منه السكان وهو غير ملوث كثيراً)).

     في الأسطر المهداة إلى الخليفة الفاطمي العزيز يقول أحمد المهللبي بن حسن: (يشرب سكان حلب من هذا النهر الذي يجري أمام بوابات المدينة ويسمي بعض أصحاب الدعابة النهر “أبو الحسن” عوضاً عن قويق)).

   عند حديثه حول النهر يقول ابن الخطيب: (إنه يجري في فصلي الشتاء والربيع فقط. ويقع نبعه في منطقة عينتاب ويرفده نهر الصاجور ولكن الحاكم الأمير أرغون حوله إلى منطقته كي يصب في قويق فتوسع مجراه إثر ذلك. وعلى الرغم من هبوط مستوى مياهه صيفاً لكنه لا يجف في معظم أوقات السنة)).

     يقول المؤرخ ابن الشحنة: (رأيت ينبوع هذا النهر في قرية تدعى Arkig التي تقع بين عينتاب وحلب ويبدو لي أنه مشكل من ينابيع عدة. وقد ذهبت بصحبة حاكم حلب الأمير سيف الدين جلبان المؤيد وزملائي قضاة حلب إلى نبع نهر الصاجور. وكانت غاية الحاكم إصلاح بعض نقاط القناة الخربة ومنع تسرب المياه ورفع مستوى السد)).

       يستطرد ابن الشداد بعدئذ: (يقول أبو نصر محمد الحلبي بن إبراهيم بن خضر:ليست مياه بردى أو دجلة أو نيل مصر جميلة كقويق أثناء نزول وارتفاع مياهه. واحسرتاه كم تتوق نفسي إلى شرب جرعة منه لتبديد غمامة مهجتي. ويتحاشى الكثيرون مياه قويق لأن سلاحف عديدة تعيش فيها ويجهلون بأن وجودها نافع جداً لأن دم السلحفاة مفيد لمرض الصرع ويستخدم دمه وصفراؤه بلسماً أيضاً لأوجاع المفاصل)).

     يصف الصنوبري بدوره غزارة مياه قويق شتاءً على الشكل التالي: (عندما تهبّ الرياح في الشتاء يفيق قويق في مناطقه المقفرة ويبدأ بمنافسة دجلة والنيل والفرات بببهائه وجماله وسموه. ولكن عندما يحل فصل الصيف يصبح النهر رفيعاًً وذليلاً ومليئاً بالأسى والتواضع وحينما تناديه ضفادعه “قويق-قويق” فإنه لا يرد عليها)).

ج. سوفاجيه”الدر المنتخب لابن الشحنة” الجزء الأول, بيروت-1933,ص 150-153

     طبعاً هناك مبالغات وإفراط في كلام المؤرخ العربي كخيال الشعراء لأن الحقيقة هي أن قويق في بداية الشتاء والربيع وفي السنوات التي تهطل فيها الأمطار والثلوج الغزيرة ترتفع مياهه وتغطي الأراضي المحيطة به طوال أيام عديدة. وعندما لوحظ بأن الفيضانات قلت في الآونة الأخيرة بادرت محافظة حلب في حفر قناة بعرض 4 أمتار من السبيل إلى العزيزية وذلك لاستيعاب مياه الأمطار الغزيرة التي تجري باتجاه أعزاز وتحويلها إلى نهر قويق.

     على الرغم من طبيعة حلب الصحراوية ومناطقها الواسعة فقد أنعم الله عليها وعلى سكانها بخيرات طبيعية عديدة كمياه الشرب الغزيرة والحقول والبساتين المزروعة ونهر غني بالأسماك وبحيرة كبيرة يستخرج منها الملح قرب الجبول.

     يذكر المؤرخ العربي ابن الشحنة أن البحيرة تقع بين حلب والباب. وينبع نهر الذهب من ناحية بلدة الباب شرقي حلب وينتهي قرب قرية الجبول. ويقوم سكان هذه القرية بجمع مياه نهر الذهب في آبار ويستخرج الملح من البحيرة بعد النصف الثاني من شهر آب في كل عام.

     بناء على الاتفاقية التجارية المبرمة من قبل الحكومة العثمانية مُنع استيراد الملح من الدول الأجنبية وبُديء منذ شهر آذار عام 1861 باستخراجه من بحيرة الجبول من مبدأ الامتياز. ويعمل في مختلف مراحل هذا المشروع حوالي 120 عاملاً موسمياً لمدة بضعة شهور بينما يعمل 50 عاملاً في جمع الملح وتكويمه على شكل تلال وهناك 50 عاملاً أيضاً يعملون كموظفين وحراس دائمين أو مؤقتين. ويقدر دخل ملح جبول السنوي أكثر من 300,000 بانكنوت سوري والكمية التي تستخرج تكفي حاجات سوريا ولبنان وتزيد ولا أعتقد أن لواء اسكندرون يستفيد من ملح حلب بعد إلحاقه إلى تركيا. وملح حلب من أفضل الأنواع للمطابخ لأنه ناصع البياض كالثلج ويصل انتاجه إلى 20 ألف قنطاراً حلبياً سنوياً تقريباً. وكان استخراج الملح يجري بالطرق البدائية جداً حتى ربع القرن الأخير ولكن بعد دراسة الفرنسيين للموقع ميدانياً اقترحوا طرق جديدة للاستغلال فانتظم العمل وأصبح الانتاج أكثر ربحاً.

     يستخدم ملح جبول في مختلف أنواع الطعام والصناعات والمهن كدباغة الجلود عدا صناعة الأمعاء لأنه ظهر بعد دراسات مستفيضة بأن هناك بعض العناصر الكيميائية في ملح جبول تضر بالأمعاء المصنّعة لذلك يستورد الملح من ألمانيا.

Share This