أرمينيا والعرب والعثمانيون الجدد

أمين بن سعود 

أمين بن سعود*

(العرب) كم من مجزرة سياسية وعسكرية ينفذها العثمانيون الجدد حالياً على أراضي العرب من سوريا إلى مصر، ومن ليبيا إلى تونس.

عبثاً يحاول رجب طيب أردوغان معارضة وإخفاء فعل تاريخي ومجزرة إنسانية أقدم عليها الجيش العثماني قبل قرن ضد الأرمن، وعبثاً أيضاً يسعى الرئيس التركي إلى تغيير مسار التاريخ وطمس معالمه، ناهيك عن منع التضامن الدولي مع الأرمن في الذكرى المئة لإبادتهم على يد جيش الباب العالي.

مواصلة تركيا دبلوماسية استدعاء السفراء وإبراق الاحتجاجات لممثلي الدبلوماسية العالمية في أنقرة، هو مؤشر على تخبط كبير تعيشه دوائر اتخاذ القرار التركي في بيان الفرق بين “التأريخ”، كفعل مؤسس ومؤصل في الزمان، و”التاريخ” كمنظومة فكرية ومعرفية لاستكناه مسار الأحداث وفلسفة التداعي في كينونة الزمان.

استثمر الأرمن جيداً مجازر الحرب العالمية الأولى، ولعل أهم المكتسبات الحاصلة في نيل الاعتراف بمجازر 1915 كامنة في تأسيس “الأمّة الأرمنية”، وتحويل المجزرة إلى خيط ناظم للشتات الأرمني ولبنة تاريخية أولى لبناء “الهوية المشتركة”.

هنا بالضبط يكمن التباين بين تركيا وأرمينيا من حيث أن الدولة الأرمينية الحديثة بنيت على أساس العداء التاريخي للأتراك، في حين أن جزءا من الدولة التركية الحديثة تأسس على “الإنكار” و”المكابرة” على الاعتراف بحقيقة تاريخية لها إثباتات وشواهد مادية لا يرقى لها شك.

اليوم، تحيّن القضية الأرمنية من الجانب التركي لا على أساس رفض أنقرة، جمهورية ما بعد الحرب العالمية الأولى، للإقرار بخطأ تاريخي جسيم، وإنما من بوابة أحفاد الخلافة العثمانية المدعين للنقاء التاريخي والحضاري لخلافة الباب العالي.

ولعلنا لا نجانب الصواب إن اعتبرنا أن القضية لم تعد استحقاقاً لولوج تركيا للنادي الأوروبي، وإنما باتت محلّ مزايدة من قبل “العثمانيين الجدد” الرافضين لوضع تاريخ الخلافة العثمانية على مشرحة البحث، وعلى طاولة النقد والمراجعة العميقين.

هنا نفهم المسلكية السياسية التركية الرافضة لأيّ استحضار للإبادة الأرمنية حتى وإن كان الاستشهاد قصد الاعتبار الإنساني من الأخطاء والخطايا، وبهذا المستوى التحليلي ندرك الخطوط الحمراء التركية عن أي تطرق للمسألة الأرمنية، ذلك أن القضية تمسّ من “شرعيّة” الحاضر السياسي التركي القائم على التواصل الأعمى مع الخلافة العثمانية، وبالتالي فهي ليست حكراً على المؤرخين ولا على الساعين لتسوية تاريخية بين أنقرة ويريفان تقضي بالتعويض المادي مقابل لملمة جروح الماضي.

اللافت في هذا المفصل التاريخي أن دولاً مستقلة قامت على أساس “الأحداث التاريخية الكبرى” وتمكنت من الاستثمار السياسي والثقافي والحضاري والاقتصادي لعذابات الماضي المشترك، وقدرت على بناء كينونة سياسية وحضارية تقوم على الالتقاء الاجتماعي حيال قضية موحدّة.

المثير للانتباه كامن في بقاء الذاكرة الوطنية على اعتبار أنها البوصلة المحددة لطبيعة التحالفات والتباينات الدبلوماسية ولكينونة العلاقات الدولية، بهذا المقتضى تعيش الشعوب حرّة على ترابها ومتحررة من قيود القوى الإقليمية الكبرى الرافضة لأي مستوى من مستويات النقد الذاتي.

ولئن خسرت أرمينيا مئات الآلاف من أبنائها إبان الحرب العالمية الأولى، فبدمائهم ولدت أجيال مؤمنة بالقضية الأرمينية وبحتمية الوحدة وبضرورة البناء الوطني، إلا أنّ العرب يبقون للأسف التجمع البشري الأكثر تعرضا للمجازر في الحاضر، قبل التاريخ، وكلما صارت مجزرة في حقّ الدمّ العربي كلما ازدادت الفرقة وتعمّق التباين.

كم مجزرة نفذها العثمانيون على أراضي الإيالات العربية، وكم من مجزرة سياسية وعسكرية ينفذها العثمانيون الجدد حالياً على أراضي العرب من سوريا إلى مصر، ومن ليبيا إلى تونس، وكم من مجازر صهيونية صارت عبئاً على العرب ذاتهم بعد أن استحالوا “ضحايا” يتلذذون بسياط الجلاد.

تتعامل الأمم مع التاريخ بمقتضى المحاسبة والاعتبار فتفرض الاحترام على الآخرين، وتتعامل أشباه الدول وأشباه الأمم مع التاريخ بمنطلق “التركة” الثقيلة، فتقبل بالإهانة الحضارية وتستكين لاستمرار التعديات على أرضها وعرضها، وهنا الفرق بين من يحمل قضية وتاريخ، وبين من لا يستحق أن يكون له تاريخ أو قضية.

*كاتب ومحلل سياسي تونسي

(مقالة صدرت في العدد الخاص الذي أصدره ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية في 24 نيسان 2015 بمناسبة الذكرى المئوية للابادة الأرمنية)

Share This