متحف الإبادة الأرمنية.. عار يلاحق أردوغان وأجداده عبر التاريخ

كاتب المقال داخل متحف الإبادة  في ياريفان 

علاء الدين ظاهر*

سمعت كثيراً عنها قبل أن أراها.. لكنني لم أكن أتوقع حينما ذهبت إليها أن أجد كل هذا الجمال والروعة..بل والتاريخ المبهر والمتمثل في مجموعة كبيرة من الكنائس والأديرة التي تنم عن شخصية مميزة لهذا البلد الرائع، اكتشفت أن أرمينيا بلد تمتلك ثقافة عريقة حيث تشتهر بمعالمها الرائعة سواء القديمة منها أو الحديثة، وكم أبهرتني ساحة الكاسكاد التي تعد من أجمل الأماكن التي يمكن زيارتها في يريفان عاصمة أرمينيا وأشهر معالمها حيث تضم متحفاً مفتوحاً للفنون، وأمامها تمثال ضخم لـ”ميسروب ماشتوتس” (361-440م) مخترع الأبجدية الأرمينية، تشعر أمامه برهبة منبعها التقدير والاحترام.

وسط كل هذا الجمال الذي يحتاج لكتب ومجلدات للحديث عنه، وفوق تل عالي تطالع مشهداً رائعاً للمدينة كلها، ومن ورائك تجد النصب التذكاري لشهداء الإبادة الأرمنية عام 1915. وهنا وبعد سعادة نفسية ملأتني لما شاهدته من جمال وروعة في تلك البلد، شعرت بغصة وألم في قلبي بعد ما عرفت جيداً حكاية ذلك النصب وسبب إقامته.

لا يعقل كل تلك الوحشية التي مارستها الإمبراطورية العثمانية تجاه شعب مسالم حتى تعمل فيهم قتلاً وتهجيراً قسرياً وأنواع أخرى كثيرة من أبشع وسائل التعذيب والعنف الممنهج. وربما لمدى فداحة وبشاعة الجريمة بات يطلق عليها “محرقة” خاصة أن ذلك حدث بالفعل وتعرض آلاف الأرمن للحرق على يد من لا يمتلك إلا حجراً مكان قلبه وبالتالي لا يمكن أن يكون بشراً أبداً.

النصب التذكاري بحجمه الهائل يدل بقوة على حجم الجريمة وفداحتها وإلا ما تم اعتبارها من جرائم الإبادة الجماعية الأبرز في تاريخ الأمم والشعوب. هناك حوالي 25 دولة حول العالم تضم ما يقرب من 130 نصباً تذكارياً لتخليد تلك المذبحة وتذكير العالم بها حتى لا ينس الجرم الذي ارتكبه العثمانيون، ويحاول وريثهم أردوغان التنصل من جريمة أجداده التي ارتكبوها بحق الأرمن عام 1915، والمثير للسخرية أن تركيا تتعنت أمام مجريات الواقع وما كشفت عنه من غباء جماعة الإخوان التي سقطت سريعاً في مصر، وتجدها تدافع بشدة عن هذه الجماعة التي لفظها المصريون والتاريخ بدعوى أنها صاحبة شرعية وحق. وهنا مكمن السخرية فعلاً..

أي حق هذا الذي تدافع عنه تركيا وهي التي أهدرت ولا زالت تهدر ملايين الحقوق للأرمن الذين قتلوا وذبحوا وحرقوا على يد العثمانيين وترفض تركيا الاعتراف بذلك وتتنصل من تحمل المسؤولية.

قد يسأل سائل ما الذي يجعل هذه القضية تحظى بتأييد ودعم واسع من دول ومنظمات وهيئات وأفراد وحكومات كثيرة حول العالم؟. الإجابة وجدتها في متحف الإبادة الذي يقع في محيط النصب التذكاري في العاصمة يريفان. كم هائل من الصور والمواد الفيلمية التي توثق للمذبحة. حكايات وقصص إنسانية كثيرة تسكن بين جدران المتحف، تؤكد بما لا يدع للشك مجال أن الأمر حينها تجاوز كل الحدود الإنسانية والأخلاقية لتصبح تلك الجريمة فضيحة كبرى في حق العثمانيين والأتراك وقائدهم أردوغان..

حاولت وأنا أتجول في المتحف أن أجد تبريراً واحداً لتلك الجريمة لكن النظرات التي وجدتها في عيون السيدات والأطفال والكبار الذين تملأ صورهم جنبات المتحف. تلك العيون ونظراتها لم تترك أي فرصة لتبرير سوى البشاعة والدموية التي اتصف بها مرتكبو الجريمة التي لم ولا يمكن أن تسقط بالتقادم حتى وإن كان العام الحالي 2015 يذكرنا بمرور 100عام عليها.

وجدت في المتحف دليلاً كبيراً على أن قضية الإبادة ليست مجرد حادث تاريخي عابر في حياة أهل أرمينيا، بل قضية هوية وكيان وإلا ما كان هذا الإقبال من تلاميذ المدارس على زيارة المتحف عبر رحلات منتظمة وحسناً فعل منظموها، فهؤلاء التلاميذ لا بد أن يشتد عودهم والقضية تحتل كياناتهم وعقولهم، فالوطن أرمينيا ومنذ 100عام يئن لأبنائه الذين راحوا ضحايا للوحشية العثمانية، هذا غير الآلاف منهم والذين تشتتوا في دول كثيرة كنتيجة قاسية للمذابح التي جرت لهم أو لذويهم، وياله من شعور قاسي جداً عندما تلمح في عيون العجائز من زوار المتحف نظرات حسرة وقهر على ربما أشقاء أو أزواج أو آباء وأمهات راحوا ولم تبق من ذكرياتهم إلا دموع فراقهم وصورهم في المتحف.

والمفارقة التي تؤكد أن الجريمة لن تسقط من ذاكرة التاريخ كما يريد أردوغان وبني جلدته، أن المتحف لا يمثل قبلة لزواره من سكان وأهل أرمينيا فقط، بل رؤساء دول وشخصيات سياسية عالمية، زاروا جميعها النصب التذكاري والمتحف، وإمعاناً في تأكيد تأييدهم للقضية زرع كل منهم شجرة باسمه في الحديقة التي تقع أمام المتحف والنصب التذكاري..

أعتقد أن مثل هؤلاء لم يجبرهم أحد على فعل ذلك، وربما لو لم يكونوا متأكدين من واقعية الكارثة التي حدثت وأحقية أصحابها في كامل حقوقهم، لما زرعوا شجرة تخلد زيارتهم للمكان.

*كاتب مصري، صحفي في مؤسسة روز اليوسف الصحفية المصرية، نشر العديد من المقالات والتقارير عن القضية الأرمنية.

(مقالة صدرت في العدد الخاص الذي أصدره ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية في 24 نيسان 2015 بمناسبة الذكرى المئوية للابادة الأرمنية)

Share This