مذبحة الأرمن: من عشق “تامار” إلى تركيا … و”آلام الآخرين”

11010572_10152612398170718_8638543822039143545_n 

د. خالد الحروب*

لم تكن مسافة الكيلومترات الثلاث أو أزيد لتثني الفتى العاشق عن قطع المساحة من الساحل الشرقي لتركيا كي يسبح ويلتقي تامار حبيبته الأميرة في تلك الجزيرة الصغيرة في عرض البحر. كل ليلة من الليالي، صيفاً أو شتاء، وكما تقول الأسطورة، تشهد كيف يلقي الشاب المتيم بجسده القوي في المياه السوداء ويسبح نحو الجزيرة، بكل عنفوان المُحب. كانت تامار العاشقة تحمل ضوءاً لحبيبها كي يهتدي به أثناء سباحته ويصل إليها. المعشوقة العاشقة كانت أميرة والعاشق المعشوق كان من عامة الناس، لذا لما علم أبوها بالحكاية وتفاصيلها غضب واتخذ قراراً مهولاً. في إحدى الليالي والعاشق يرمي نفسه في البحر بإتجاه الحبيبة يذهب الأب إلى ابنته ويهشم النور المنبعث من يديها وقلبها، فيفقد العاشق دليل الوصول إليها. يضيع في البحر الأسود فاقد  الاتجاه، ثم تخونه قواه ويغرق. عندما عثر الناس على جثته ملقاة على الشاطئ في صباح اليوم التالي وجدوا شفاهه مضمومة على كلمتين “أخ تامار”، وهو يعني بالأرمنية “آه يا تامار”. من يومها أطلق الناس والتاريخ اسم “أختامار” على الجزيرة وصارت تعرف بذلك دوما (Aghtamar أو Akhtamar). بيد أن الجزيرة صارت من أملاك الإمبراطورية العثمانية وانضمت إلى بقية الآهات الأرمنية من يومها وحتى الآن. في الهزيع الأخير من عمر الإمبراطورية وبزوغ الطورانية المتطرفة ومشروعها في “التتريك” غير الأتراك اسم الجزيرة وصار يعرف بـ “Akdamar” أو “العصب الأبيض”.

لن تهدأ روح تامار ولا عشيقها الأسطوري الرهيف إلا إذا تحولت “الآه” الأرمنية التي تحملها القصة الجميلة إلى أغنية فرحة بالمستقبل، وتنتصب على أرض الإقرار بمذابح القتل والتهجير التي تعرض لها آباء وأجداد الفتى العاشق وفتاته التي انكسر قلبها، وعاد اسم الجزيرة الذي خلداه إلى ما كان عليه. قصة تامار وعشيقها تفيض بالترميز الأرمني الذي يماثل الواقع الأليم لهذا الشعب الذي تعرض لأول إبادة حقيقية في التاريخ ودفع جراءها أكثر من مليون ضحية بريئة.

مرور قرن على تلك الإبادة يضغط على ضميرنا الجمعي والفردي لأن نتوقف طويلاً عند ذاكرة الضحايا، ونصلي لهم صلاة الإنتصار لقضيتهم، ثم نصر على أن يعتذر من اقترف الجريمة بحقهم، وهذا أقل القليل. في منطقتنا العربية التي تتلاحق فيها الحروب والصراعات والطائفيات قد يرفع كثيرون حواجبهم تعجباً إن لم يكن استنكاراً للإنشغال ولو الجزئي بالحديث والكتابة عن الإبادة الأرمنية الآن. سيُقال اننا نعيش حروباً وشبه إبادات في المنطقة تفرض علينا الكتابة عنها، وتحليلها، عوض أن نهرب للتاريخ ونتحدث عن حروب وإبادات انقضت منذ قرن. جانب من الجواب (وليس كله) على هذا الاستنكار المرفوض ينبع من مضمونه ذاته، أي استعار الحروب والصراعات الشرق أوسطية ذات السمة الطائفية البشعة. ذلك أن هذا السعار يفرض علينا ضرورة التعلم من دروس التاريخ القاسية والدموية. ففصل الإبادة الأرمنية كما هي سائر الفصول المحزنة والمريرة التي تقدمها كل الإبادات في تاريخ البشرية يطرق رؤوسنا بالدرس ذاته: الطائفية والتعصب الديني والشوفينيات القومية والتطرف تقود كلها إلى بحار الدم، ويصير القتل على الهوية ممارسة عادية!

إستدعاء درس الهولوكوست الأرمني في هذا التوقيت بالذات يصبح فائضاً بالمغزى، ودالاً على أن طمر الرؤوس في الرمال لا يدفع المآلات البشعة والمظلمة من أن تغتال الحياة بين ظهرانينا. وجانب من الجواب أيضاً (وليس كله) على الاستنكار المُفترض يكمن في ضرورة الإلتزام ببوصلة الهم الإنساني والدوران معه أنى دار واستشعار آلام الأخرين واستدعائها. من دون الشعور بمعاناة من يعاني مهما كان جغرافيته بعيده، وحتى لو كان المُتسبب في معاناته “شقيق” أو “قريب” فإننا نفقد الجزء الأكبر من إنسانيتنا، وكذا من مناشدتنا الآخرين أن يستشعروا معاناتنا ويساندوننا.

في ذلك العام الرهيب 1915، وما سبقه وما تبعه من سنوات شهدت إبادة الارمن، كانت الإمبراطورية العثمانية تنهار بتسارع شديد داخلياً وخارجياً. في الداخل كانت سياسات السلطان عبد الحميد الثاني الاستبدادية والإنغلاقية المديدة قد أدخلت الدولة مترامية الأطراف في طور التجمد والتكلس. وهو طور كان بإمكان الإمبراطورية الآيلة إلى الأفول تفاديه جزئياً أو على الأقل تخفيف وطأته وشدة الإرتطام اللاحقة له عبر تبني إصلاحات دستور 1876 الذي أعده مدحت باشا، والتي كان من المفترض أن تقيد اليد المطلقة للسلاطين وتؤسس لحياة برلمانية. بيد أن استبداد السلطان عبد الحميد وتوتره وخشيته من كل من حوله، ورفضه لفكرة الحرية السياسية صبت حب الانهيار في طاحونة النهاية.

في الخارج، كان أعداء السلطنة، في الشرق روسيا القيصرية وفي الغرب دول أوربا التي سيضمها لاحقاً محور الحلفاء، يراقبون عن كثب تهالك الحصان العثماني وشيخوخته المُتعبة، منتظرين فرصة الانقضاض على أطرافه. على الحدود الشرقية تحديداً استعرت حروب ومعارك شنتها روسيا كي تستعيد أراض كانت ترى أن الدولة العثمانية احتلتها منذ القرن السادس عشر، ومنها أرمينية المسيحية، ومع روسيا ثار الأرمن مطالبين بالعدالة في الحقوق وبالحكم الذاتي. كان ذلك في نفس الوقت والزمن الذي ثار فيه العرب في الحجاز وبلاد الشام على الدولة العثمانية مطالبين أيضاً بالتحرر والاستقلال. الأرمن، وكالعرب تماماً، حتى ولو طالبوا آنذاك بالانفصال فإنهم أرادوا الاستقلال عن إمبراطورية لم يبق فيها عنصر قوة سوى سياسة التتريك القائمة على إقصاء كل ما هو غير تركي (سواء أكان مسلم أم غير مسلم)، توازياً مع اشتداد قوة حزب الاتحاد والترقي وتهميش “الباب العالي” تماماً.

في سعار المعارك الحدودية والاستقلالية (أو الانشقاقية من وجهة نظر سياسي الاتحاد والترقي وبقايا سياسي العثمانية) ثار الأرمن على الحكم التركي الطويل لبلادهم وأراضيهم، ومع إزدهار فكرة القومية في أوروبا تبلورت لديهم مطالب قومية بالتحرر، وكان طبيعياً أن تتعاطف مع مطالبهم روسيا، العدوة الأهم للدولة العثمانية في الشرق. كان الرد العثماني التركي صارماً وقاسياً ولا هوادة فيه، وقام على اعتبار الأرمن، وهم نظرياً واسمياً من رعايا الدولة العلية، خونة وعملاء للغازي الأجنبي، روسيا. وكان التعامل الوحيد المطروح مع “الخونة والعملاء” بحسب الأتراك هو القتل والإبادة، وهو ما شرع الحكم التركي في تطبيقه بشكل وحشي ومذهل. فعلى مدار سنة 1915 حيث بلغت مذابح وسياسات إبادة الأرمن ذروتها وما سبق وما تلى تلك السنة، تعرض الأرمن لواحد من أبشع فصول التوحش والقتل البشري الجماعي في التاريخ. تقول الشواهد التاريخية المثبتة أن عشرات الألوف من المدنيين كانوا يُساقون من قراهم ومدنهم كالخراف ويقتلون إما ذبحاً أو رمياً بالرصاص. وكان عشرات ألوف آخرون يجبرون على الهجرة الفورية تاركين وراءهم كل شيء، ويجبرون على التوجه إلى الصحراء والأراضي المفتوحة التي لا تنتهي وليس لهم أمل في الخروج منها أحياء. المحظوظون منهم وهم قلة استطاعوا اختراق المساحات الهائلة والوصول إلى شمال العراق أو سوريا وارتموا منهكين وجائعين بين أيدي العرب، سواء في البوادي أو المدن. ومنهم من واصل رحلته جنوباً وغرباً وصولاً الى لبنان وفلسطين، وفي المدينة المقدسة احتضنوا الصليب برعاية مستضيفهم المسلمين وكثير منهم اقتحم الحي الأرمني في قلب القدس القديمة وصار جزءاً منه.

طلعت باشا (1874 – 1921) هو الاتحادي (والعثماني في آن معاً) الذي يُعتبر تاريخياً المهندس الأهم للإبادة الأرمنية. الباشا كان من قيادات حزب الاتحاد والترقي كما  وصل إلى منصب الصدر العثماني الأعظم سنة 1917، وكان وزيراً للداخلية في سنة 1915 وما بعدها. ترك طلعت باشا تقارير مفصلة وموسعة تضمنت آليات تهجير وإبادة الأرمن ليس فقط في منطقة الحدود الشرقية لتركيا، بل وفي كل أرجاء الدولة. كان الهدف هو إنهاء الوجود الأرمني الجمعي وهو أمر يتحقق بالإبادة الجسدية، أو التهجير القسري، أو الإدماج الفعلي والقسري في المجتمع التركي، أو إلحاق أبنائهم وأطفالهم إلى عائلات تركية أو ملاجئ أيتام تشرف عليها الدولة. تشير تقارير طلعت باشا إلى أنه تم التخلص من مليون إلى مليون ونصف أرمني عبر اتباع تلك السياسات خلال سنوات 1915 إلى 1917. طلعت باشا، على ذلك، هو التجسيد الرمزي المُكثف لتلك اللحظة التاريخية الفارقة التي كانت تنهار فيها الإمبراطورية العثمانية وعلى أنقاضها تقوم تركيا الحديثة. وأهمية تلك اللحظة بالنسبة للهولوكوست الأرمني تأتي بسبب السجالات الحادة التي تدور حوله إن لجهة المسؤولية المباشرة عنه، وفي ما إن كان إقرار سياسات الإبادة يعود إلى الإمبراطورية المنقضية أم إلى تركيا المتشكلة.

انتصاراً للمطالبة بحقوقهم المنتهكة من قبل الإمبراطورية العثمانية في تلك السنوات المضنية أصدر الحسين بن علي، شريف مكة، سنة 1917 أمراً من الديوان الهاشمي لـ “رعيته” في البلدان العربية يقول فيه: “… وإن المرغوب بتحريره المحافظة على كل من تخلف بأطرافكم وجهاتكم وبين عشائركم من الطائفة اليعقوبية الأرمنية تساعدونهم على كل أمورهم، وتحافظون عليهم كما تحافظون على أنفسكم وأموالكم وأبنائكم وتسهلون كل ما يحتاجون إليه في ظعنهم وإقامتهم … وهذا من أهم ما ننتظره من شيمكم وهممكم”.

تركيا الحديثة والمتشكلة أنكرت دوما حدوث الإبادة الأرمنية ووقوعها نتيجة لسياسة تركية مرسومة سلفاً. ما يتبناه الموقف التركي الرسمي وإلى حد كبير الأكاديمي والإعلامي هو أن “مقتلة” الأرمن كانت نتيجة غير مقصودة من نتائج الحرب العالمية الاولى، وتحديداً مع روسيا القيصرية في الشرق. بيد أن كل الأدلة والشواهد من ذلك التاريخ وحتى الآن، أو على الأقل في معظمها، أكدت وجود سياسة قصدية كانت تهدف إلى القضاء على الأرمن العثمانيين بإعتبارهم “طابوراً خامساً” داخل الإمبراطورية. الموقف التركي التقليدي قام على التوتر من مراجعة الماضي والخشية من فتح ملف مرير قد يفتح ملفات لا حصر لها، أولها التعويض المادي الذي قد يلحق بأي اعتراف واعتذار سياسي ورسمي.

تركيا اليوم وصلت مرحلة النضج والثقة بالنفس ومستوى من المكانة السياسية تؤهلها لمواجهة أية حقب مظلمة من ماضيها، والإبادة الارمنية تأتي في مقدمتها. الاعتذار عن المذابح الأرمنية هو استحقاق طال انتظاره من تركيا، ولا بد أن يأتي في يوم من الأيام مهما تأخر التوقيت، لذلك فإن الحكمة تقضي بأن يتم استثمار الذكرى المئوية لحدوث الهولوكوست الأرمني وتقديم الاعتذار الرسمي التركي للأرمن وأحفادهم. لن يقلل ذلك من شأن تركيا بل سيعمق احترام الآخرين لها. الاعتذار يرقي مكانة المُعتذر ويؤشر على ثقته بنفسه، والإنكار يخفض مكانة المُنكر ويؤشر على اهتزاز ثقته بذاته … وتوتره وهشاشته!

عربياً، ليس لنا إلا الاقتداء بما فعله أجدادنا من تضامن عملي مع الأرمن عندما استقبلوهم بعد هجراتهم ونفيهم المميت. في تلك السنوات، وضمن عشرات المواقف المشرفة التي قدمت صفحة بيضاء، كتب محمد رشيد رضا، أحد رواد ومفكري النهضة، ومؤسس مجلة المنار (1935 1865)، ويقول فيها، وكما تقتبس نورا أريسيان في كتابها التوثيقي المهم عن شهادات عربية عن مذبحة الأرمن، ما يلي “… ليس من ينكر أن الأرمن شعب نشيط مقدام سائر في طريق الارتقاء الأدبي والاقتصادي والاجتماعي، والإنسان محب لوطنه بطبعه، فهم يحبون أن يكون مستوى إرتقاء وطنهم من حكومتهم الشيء الذي هو من حق كل أمة على حكومتها، وهو الدفاع عنها في الخارج وتقرير الأمن والعدل وإيجاد الوسائل التي تسهل على الشعب سبل الإرتقاء في الداخل. هذا حق للأمة على حكومتها في كل زمان ومكان، وهذا ما يطلبه الأرمن من الحكومة العثمانية. … يقولون على رؤوس الأشهاد أنهم يريدون أن يبقوا معنا ولا يطالبون منا إلا ما يحق لكل أمة أن تطلبه من حكوماتها، وهو الدفاع عنها في الخارج ومنحها العدل والأمن وتمهيد سبل الارتقاء لها. كثر الله خير الأرمن”.

استقبل العرب الأرمن بكرمهم وأفسحوا لهم بيوتهم وصاروا بعد قرن من الزمن جزءاً من النسيج الاجتماعي والثقافي والسياسي للمنطقة، ورآهم عبد الرحمن منيف تكويناً عضوياً فيها لا يكتمل جمال التعدد المجتمعي إلا بهم، وذاك كله صفحة بيضاء من صفحات مجتمعات هذه المنطقة التي تفاخرت بتسامحها وتعايشها، قبل أن تهبط عليها ظلمات التطرف والداعشية والطائفية.

*كاتب وأكاديمي عربي.

(مقالة صدرت في العدد الخاص الذي أصدره ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية في 24 نيسان 2015 بمناسبة الذكرى المئوية للابادة الأرمنية)

Share This