صفحات من كتاب “تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان، مطران الأرمن الأسبق في حلب، (1925 ـ 1940) (3)

ardavazt-sourmeyan-book-cover

ينفرد “ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر صفحات كتاب “تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان، مطران الأرمن الأسبق في حلب، (1925 ـ 1940)، وقد ترجمه عن الأرمنية الدكتور ألكسندر كشيشيان. وسنورد تباعاً أقسام الكتاب:

القسم الأول-  ويشمل: حلب أو بيريا في الكتب المقدسة والقرآن الكريم ـ تسمية المدينة ـ موقع المدينة ـ التشكل الجغرافي والجيولوجي ـ نهر المدينة والبحيرات القريبة ـ المناخ.

المناخ

      لحلب مناخ قاري بديع وصحي أي شتاؤها بارد وصيفها حار. وتهبط درجة الحرارة شتاء في بعض الأحيان إلى 5-15 درجة مئوية تحت الصفر إلى درجة تجمّد المياه داخل المنازل وانفجار أنابيبها الرصاصية في بعض الأحيان بينما ترتفع الحرارة صيفاً إلى 36 درجة في الظل. ويدوم الشتاء القارص بين شهر كانون الأول وحتى النصف من شباط كذلك يستمر الحر الشديد مدة شهرين ونصف بين تموز والنصف من أيلول وتتراوح درجة الحرارة بين 20-36 درجة في الظل طبعاً بينما مناخ المدينة في بقية أشهر السنة معتدل ولطيف. وتبدأ الأمطار في شهر تشرين الأول وتستمر حتى شهر نيسان ويسقط البرد في هذه الفترة أيضاً. وتقدر نسبة الأمطار السنوية ب 350 مم ورياحها عاتية بشكل عام وتبدأ على الأغلب من الجهة الشمالية-الغربية من أطراف جبال الأمانوس التي تكون رطبة وباردة في الشتاء بينما الرياح الشمالية-الشرقية ليست حارة فحسب بل تجلب معها رمال الصحراء. ويُشعر بهذه الرياح الشتائية والصيفية في انهدام نهر قويق خاصة الذي هو عبارة عن ممر ضيق بين صفين من سلسلة التلال كما جاء سابقاً.

     على الرغم من إحاطة مدينة حلب بالتلال فإن مناخها عليل وهواؤها نظيف ولكنه غير مناسب لمرضى السل. أما الرياح الغربية صيفاً فإنها تلطف درجة الحرارة المرتفعة بحكمة إلهية التي لولاها لكانت معظم مناطق البلاد قد أقفرت انطلاقاً من السماء الخالية من الغيوم وأشعة الشمس القوية المنعكسة من التربة الحوارية وجدران الأبنية الحجرية. ومناخ المدينة صحي إلى درجة أن السكان ينامون على سطوح المنازل تحت قبة السماء بين شهري أيار والنصف من أيلول دون خوف من الرطوبة والعوامل المناخية المضرة الأخرى. وتأكيدنا على ذلك هو بأنني شخصياً وطوال 16 سنة التي قضيتها في حلب نمت على السطح دون غطاء ولم أصب بأي مرض أو انزعاج. ويمكن القول بأن الربيع يبدأ في بداية شهر شباط والحقول التي كانت خضراء نسبياً تظهر فيها سنابل الحبوب وتكسى الطبيعة بلون أخضر جميل وتزهر أشجار اللوز في هذا الشهر يتبعها أشجار المشمش والدراق والخوخ. وعلى الرغم من أن الأشجار الأخرى تكون عارية حتى الأسبوع الثاني من شهر آذار لكنها تبدأ بإظهار براعمها ويكون هذا المشهد جميلاً على خلفية الحشائش الخضراء الجميلة التي تنبت على الأرض.  والرياح التي كانت باردة شتاء تصبح أكثر سرعة وقوة في هذا الفصل وأقل برودة. وعلى الرغم من الغيوم السوداء الكثيفة فإن الأمطار الغزيرة لا تصل إلى حد الفيضانات ولا تستمر طويلاً ويكون الطقس دافئاً جداً في هذا المناخ المتغير. ويبدأ الربيع في شهر نيسان مباشرة وتكون السماء أكثر صفاء وتلمع الشمس بشكل أقوى وتكون الأمطار المتقطعة أكثر لطافة ومنعشة وترتدي النباتات والحقول حلتها البهية الكاملة في نهاية الشهر. وتبدأ سنابل القمح بالاصفرار في شهر أيار وتبدأ الحلة الجميلة التي غطت الحقول في الأشهر السابقة بالذبول ويباشر بالحصاد بعد بضعة أسابيع وتبدو حلب ومناطقها المجاورة عارية ويخال للمرء في هذه المرحلة بأن هذه البلاد قاحلة لا ينمو فيها سوى بعض النباتات المتفرقة المنتشرة هنا وهناك. ويحل فصل الصيف بدوره بشكل فجائي وتهطل أمطار غزيرة عامة في الأسبوعين الأولين من الشهر ولكن هطولها حتى شهر أيلول يعتبر ظاهرة غير مألوفة. وتتلون السماء باللون الأزرق الجميل وهي خالية تماماً عدا بعض الغيوم القليلة المتفرقة التي تظهر ظهراً عامة. ويستمر ارتفاع الحرارة,الذي يبدأ في شهر نيسان,تدريجياً طوال شهر أيلول وبعض أيام شهر آب ولولا الرياح الغربية التي تهب نهاراً فقط لكان طقس حلب حاراً جداً لا يمكن احتماله ويصبح الجو خانقا. ويكون الطقس ألطفاً عندما تهب الرياح من الجهة الغربية أو الشمالية-الشرقية أو الجنوبية-الشرقية. وهبوب الرياح من هذه الجهات المذكورة ليست غريبة بالنسبة لفصل الصيف. ولكن عندما لا تتحرك هذه الرياح باتجاه حلب وتبقى في مكانها مسببة زوابع قوية وخاصة على الجهتين الشرقية والجنوبية-الشرقية عندئذ تهب رياح ناشفة وحارة جداً كأن المرء خرج للتو من الفرن وتستمر هذه الحال بين 15 آب و7-8 أيلول. وتحرق هذه الحرارة المرتفعة جداً الشفاه والأنف وتسبب نوعاً من التعب والوهن وصعوبة التنفس وتزعج الأوروبيين بقدر ماتزعج الأهلين. ولكن تساعد هذه الدرجة العالية للحرارة بسبب ظاهرة سرعة التبخر على تبريد مياه الجرار الفخارية ذات المسامات التي تجلب من بغداد. ولا يتكرر هذا الجو الحار الخانق في كل سنة ولا يستمر في الحقيقة أكثر من 4-5 أيام وليس مضراً كالريح الصحراوية التي تدعىSimooly ولكنها مزعجة جداً. والعادة المتبعة في مثل هذه الظروف هي إغلاق النوافذ والأبواب. وهذه الرياح الأخيرة لا تصل إلى حلب أبداً ويمكن رؤيتها في الصحراء الواقعة بين حلب والبصرة فقط. ويروي العرب حكايات مختلفة ومتفرقة حول هذه الرياح ونعتقد أن بعضها مبالغ فيها. وهناك رأي آخر بأن راكبي الجمال أكثر عرضة لتأثيرات هذه الرياح المؤذية مقارنة بالراجلين لذلك فإن أنجع طريقة للوقاية هو التمدد على الأرض حتى مرور الرياح التي تهب بشكل فجائي ولا تترك مجالاً ووقتاً كافياً للجوء إلى الوسائل الاحتياطية وتكون لها نتيجة مصيرية وفورية في بعض الأحيان ويصبح لون جسم الإنسان فضياً أو أسوداً كالشخص الذي تعرض إلى ضربة صاعقة. وتسبب الرياح في بعض الأحيان ارتفاعاً في حرارة جسم الإنسان ويؤدي في بعض الأحيان إلى وفاته بعد بضع ساعات ولا ينجو من هذا المرض سوى القليلون.

    يكون الطقس في شهر آب هادئاً وحاراً مسبباً ضيق التنفس ولكن عندما تظهر ما يسمى “غيوم النيل” التي تجلب معها قطرات الندى يصبح الجو لطيفاً خلال الليل خاصة. وأثناء تساوي الليل بالنهار تهطل في حلب أو مناطقها المجاورة أمطار غزيرة وتلطف الجو الحار أثناء النهار. وعلى الرغم من عدم دوام هذه الأمطار لأكثر من ساعتين إلا أنها عندما تهطل بغزارة تلبس الحقول حلة خضراء. وتُعرف هذه الأمطار بالأمطار الأولى وتسبقها عامة رياح غير منتظمة تتحول إلى عواصف رملية. وابتداء من هذه الأيام ولمدة 20-30 يوماً أو حتى هطول الأمطار التالية يصبح الطقس هادئاً ومعتدلاً ولطيفاً. والهطول الثاني للأمطار أقوى بشكل عام من حيث كمية المياه ويصبح الطقس بعد ذلك أكثر تقلباً وبرودة. ومع ذلك فإن التحول من الخريف إلى الشتاء هو أبطأ من التحول من الربيع إلى الصيف. ولا تشتد برودة الطقس فجأة وتصبح هطولات الأمطار أخف قوة ولكنها تستمر مدة أطول.

      تحتفظ الأشجار بأوراقها الخضراء حتى بداية شهر كانون الأول بشكل عام ولا يشعل أوروبيو المدينة المدفأة قبل منتصف الشهر. ويغير السكان المحليون ملابسهم بعد الهطول الثاني للأمطار ولكن القليلين منهم مع ذلك يشعلون النار وخاصة في الأيام الباردة جداً لأن الطقس البارد يبدأ حسب رأيهم في حوالي ال 20 من شهر كانون الأول ويستمر 40 يوماً ولا يجدون حكمة في استخدام الدواء في تطبيب الأمراض المزمنة قبل ذلك. وحساب الأهلين دقيق بشكل كاف لأنه يمكن للمرء رؤية الصقيع أو الثلج قبل أو بعد هذه الأيام الأربعين. ولكن يمكن أن يعم المناخ الشتوي العادي في هذه الأيام أيضاً. ويكون الطقس في هذا الفصل قاسياً وقارصاً في أكثر الأحيان حتى لهؤلاء الذين وصلوا إلى المدينة من مناطق أكثر برودة.  وتختلف درجة برودة الشتاء وكمية الأمطار والثلوج من سنة إلى أخرى بين شهري كانون الثاني وشباط.  ويؤكد القنصل البريطاني في حلب الدكتور راسل بأن ((الجليد في سنوات إقامته ال 13 في حلب لم يصبح بالسماكة التي تسمح للإنسان بالسير فوقه سوى ثلاث مرات وذلك تحت الظل فقط حيث لا تتعرض البرك إلى أشعة الشمس. ولا يمكن تصور الشتاء بدون البرودة الشديدة ولكن هناك سنوات مرت دون هطول الثلوج. ولا تبق الثلوج طويلاً في الشوارع لأنها تذوب بسرعة ولكنها يمكن أن تبقى على شكل الجليد مدة أسابيع. وعندما يكون الجو صحواً وهادئاً يشعر الإنسان بدفئ أشعة الشمس. وينبت النرجس والسوسن والبنفسج طوال الشتاء ولا يزهر البرتقال أو الليمون في البساتين ويكون طقس الشتاء حتى بالنسبة للرمان بارداً)).

     العواصف الشديدة في حلب نادرة وطقس المدينة لطيف شتاء على وجه العموم والرياح الغربية تهب صيفاً عامة وتخف بعد غروب الشمس وتتحول إلى نسيم عليل ليلاً. وأذى البرق نادر الحدوث داخل المدينة ولكنه يلحق الضرر بالرعاة أو قطعانهم. والبَرَد ظاهرة عادية في نهاية الربيع ويهطل بضجيج كبير بعد هبوب عاصفة ويكون بمختلف الأحجام. وقد رأى الدكتور راسل حبات برد غير منتظمة الشكل يصل قطرها إلى 2 إنتشاً وتزن أكثر من 20 غراماً. ويسبب البرد خسائر كبيرة. وقد حدث أثناء إحدى الزوابع أن تكسّرت ألواح زجاج منازل عديدة وصلت مساحتها إلى 1200 متر مربع.

     نقدم ترجمة لوصف القنصل البريطاني الدكتور ألكسندر راسل الدقيق في كتابه

Dr. A. Russelll (The Natural History of Aleppo) I, p. 64-72

حول مدينة حلب في عام 1740 حيث يشير بإسهاب إلى طول المدينة ونهر قويق ووادي الملح والجب العجيب قائلاً: (حلب العاصمة الحالية لسوريا تعتبر المدينة الثالثة المرموقة في الامبراطورية العثمانية بعد القسطنطينية والقاهرة من حيث الموقع والجمال والسكان والغنى ولكنها تضاهيهما من حيث مناخها الصحي وأبنيتها المتينة الباهرة الخاصة وشوارعها الجميلة النظيفة. وعلى الرغم من فقدانها لكثير من تجارتها المزدهرة إلا أنها لا تزال تحافظ على موقعها الهام في مجال التجارة الدولية. وتقع مدينة حلب على خط عرض 35. 11. 36 ويصل طولها الشرقي عن غرينويتش إلى 37. 9 درجة ويصل ارتفاعها عن سطح البحر إلى 380م. ومدينة اسكندرون التي كانت مرفأ لها في يوم من الأيام تقع على بعد 60-70 ميلاً=120 كم والمسافة من حلب إلى اسكندرون عبر أنطاكية تصل إلى 90-100 ميلاً. ويمكن مشاهدة قمة جبل كاسيوس وقسم من سلسلة جبال أمانوس من نقاط مختلفة في حلب عندما يكون الجو صحواً. وعلى بعد 30 ميلاً إلى الجهة الشمالية-الغربية من حلب يُرى جبل الشيخ بركات المخروطي الشكل. أما على بعد 10 أميال باتجاه الجنوب-الشرقي نرى سلسلة التلال الصخرية التي تسمى الجبال البيضاء من قبل الأوروبيين قرب الجبول أو وادي الملح. وجميع هذه السلاسل الجبلية لا تؤثر في تلطيف مناخ حلب في الشتاء بقدر جبال الأمانوس عندما تغطيها الثلوج. وأقرب سفوح سلسلة جبال الآمانوس تقع على مسافة 30-40 ميلاً. وتحيط حلب سلسلة من التلال غير العالية على بعد عدة كيلومترات لكنها أعلى من مواقع عديدة للمدينة والمراعي القريبة منها. وهذه التلال صخرية بشكل عام ولا يتفجر من خلالها أي ينبوع وهي جرداء وخالية من أي نوع من النباتات ومع ذلك تشكل مراع ممتازة لقطعان الخراف والماعز وتوجد حولها بعض الأراضي الصالحة للزراعة أيضاً. وتربة المنطقة حمراء أو بيضاء وهي غنية وخصبة ولكنها تحتوي على حجارة صغيرة سطحية كثيرة. وهذه النوعية من التربة تمتد في المناطق المرتفعة نسبياً بينما قمم التلال صخرية-حوارية وعارية. ويجري نهر قويق بهدوء وبطئ على الجهة الغربية من المدينة. وهذا النهر الذي يقال بأنه يتشكل قرب عينتاب يدخل مناطق حلب عبر الوادي المنخفض لقرية حيلان. وبعد جريانه بين البساتين باتجاه جنوب-شرق يقترب تدريجياً من حلب وقبل الوصول إلى بوابات المدينة الغربية بربع ميل يزحف بسرعة تحت جسر المشارقة الجميل وبعد جريان ربع ميل آخر نحو الجهة الجنوبية-الغربية يعود إلى المدينة من خلال التلال وبعد ترك جبل النحاس على يمينه يجري مسافة 3-4 أميال جنوباً ويصل إلى واد مزروع قبل دخوله إلى المدينة. وهناك حيث تنتهي بساتين حلب تلبس ضفتا النهر حلة خضراء وعلى هذه البقعة الجميلة يضرب الفرنسيون والأوروبيون خيامهم أثناء نزهاتهم. ومع اقتراب نهر قويق إلى المدينة يتحول تدريجياً إلى نهير لأن كميات كبيرة من مياهه تستخدم على الطريق بعد خروجه من عينتاب بدءاً من حيلان وحتى بساتين حلب عدا فصل الشتاء عندما يجري هذا النهر بسرعة بسبب مياهه الغزيرة وعدم الحاجة إلى سقاية الحقول والبساتين. لقد كنت شاهد عيان على الطوفان الفظيع لهذا النهر في بضعة فصول شتوية عندما غطت مياهه البساتين المحيطة وجرت فوق جسوره. وفي مثل هذا المناخ تجتمع رفوف كبيرة من طيوراللقلاق بينما في سنوات أخرى بالكاد ترى الطيور بأنواعها إنْ لم تضل عن طريقها طبعاً. وتحدث هذه الفيضانات الاستثنائية في فصول الأمطار الغزيرة أو بعد هطول الثلوج الكثيفة في المنطقة الشمالية. وحوض النهر الذي يمتد عبر البساتين يجف بالكامل صيفاً حتى الربيع المقبل عندما يمتليء بمياه نبع رجب باشا الذي يقع على بعد 7 أميال عن المدينة. وعندما يفكر المرء بظاهرة جفافه يستغرب كيف لعب هذا النهر البسيط دوراً مصيرياً كبيراً للجيوش المسيحية التي ضربت خيامها على ضفتيه عندما كان الفرنجة يطوقون المدينة أثناء الحروب الصليبية. وفي اليوم الثامن لحصار حلب في عام 1223م وعندما أوشكت المدينة على الاستسلام فاض نهر قويق فجأة وغطى جنباته وجرف الخيام ومات خلق عديدون مسبباً خسائر مادية أيضاً. وقد جرت هذه الحادثة في الساعة الثالثة من بعد الظهر. ويتجه نهر قويق بهدوء نحو المدينة ماراً عبر سلسلة من التلال. والجهة المقابلة من المدينة منبسطة في أغلب مناطقها وتصل حتى سفوح تلك التلال بينما المناطق الجنوبية ذات طبيعة صخرية وغير مستوية. وتحتل مدينة حلب وضواحيها ثمان تلال صغيرة غير متساوية بوديان فيما بينها ومساحات واسعة من الأراضي الجرداء وجميعها محصورة في محيط يصل إلى 7 أميال. ويؤكد بعضهم أن الجولة حول المدينة تحتاج إلى ساعتين وأربع دقائق على ظهر الخيل ولكنني أميل إلى القول بأن الخيول غير المحمّلة تقطع مسافة 4 أميال في ساعة أو ساعة ونصف. ولا يتعدى محيط المدينة أكثر من 3,5 ميلاً وهي محاطة بسور قديم.

     على بعد 18 ميلاً وفي الجهة الجنوبية-الغربية من المدينة يقع سهل واسع يعرف عامة ب “وادي الملح” Terra Saluginosa أو “بحيرة الملح”. وهذا الوادي محاط على بعض أطرافه بالتلال الصخرية المنخفضة بينما على الجهة المقابلة منه وعلى مد البصر تمتد الصحراء بمسحاتها القاحلة. ويتشكل نهر الذهب قرب الباب وعلى بعد بضعة أميال منها بمياه الأمطار الموسمية والجداول الصغيرة الناتجة عن الفيضانات ومياه النبع الرئيسي ثم يشكل بدوره بحيرة واسعة سطحية مع مياه ينابيع الوادي. وعندما تتبخر مياه البحيرة في فصل الصيف ينفصل الملح عن التربة مشكلاً طبقة بللورية ويبدو للناظر إلى البحيرة عند شروق الشمس في شهر آب كأن مياهها قد تجمدت وغطت سطحها طبقة رقيقة من الثلج. وتقوم جماعات كبيرة من الرجال والنساء والصبيان بتكسير طبقة الملح التي تصل سماكتها بين 0. 5-2 إنتشاً وعزلها عن التراب ثم تكديسها على شكل كومات ونقله في أكياس إلى جمارك الجبول حيث يقومون بغربلته كالقمح بعد تجفيفه وفي النهاية يشكلون منه أكواماً صغيرة. وتكون أجود أنواع الملح ناصعة البياض وهي غالية الثمن جداً. وتتشكل المنطقة من التربة الفخارية المالحة ومع ذلك فإن مياه جميع الينابيع فيها حلوة. ويؤكد السكان المحليون على وجود نبع بمياه مالحة في وسط البحيرة ولكنني لم أجده شخصياً. والطبقة الملحية في هذا القسم من البحيرة مقارنة بالأطراف الأخرى أسمك تصل إلى 3 إنتشاً وهي بقطع كبيرة وتميل بلونها إلى الأحمر والأصفر الجميلين. وقد عثرنا على نبات الكالي ونباتات أخرى مغطاة بالملح في موقع غير بعيد عن ضفة البحيرة. وبما أن البحيرة تتشكل من مياه الأمطار عامة فإن كمية الملح المستخرج مرتبطة بوثاقة بكمية هذه الهطولات في الشتاء. وكمية الملح في البحيرة قرب قرية الجبول كبيرة جداً ولكن يُصعب استخراجها بسبب صعوبة فرزها عن التربة في مواقع عديدة.

      إلى الجهة الجنوبية من قرية عين جارة الواقعة غربي حلب وعلى بعد 11 ميلاً عنها هناك كهف يؤمه زوار قليلون وهو عبارة عن بئر بيضاوي الشكل منقور في صخرة قاسية يصل قطره إلى 100 ياردة وعمقه إلى 40 ياردة. وهناك منحدر على بعد 20 قدماً منه يتجه نحو القاع وينتهي بدرج وطريق وحيد يؤدي إلى الكهف لكن لا يمكننا الوصول إليه راكبين.  ونجد في منتصف الطريق كهفاً منقوراً في الصخر يصل ارتفاعه إلى 4 أقدام وطوله إلى 30 قدماً ويقع في حقل قرب جبل الشيخ بركات على الجهة الشمالية-الغربية منه. والصخرة المحيطة بهذا الكهف البديع مشكلة من عدة طبقات أفقية يصل سمك الواحدة منها حوالي 14 قدماً ونجد بينها شقوقاً وتجويفات تخدم مأوىً للطيور والسناجب والحشرات المجنحة. وقد تشكلت الصخرة من المرجان والأصداف البحرية المختلفة ودُعمت بمادة كلسية ناصعة البياض كالثلج تقريباً عدا الأقسام التي تبدل لونها بسبب جرف الأمطار للتراب. وليس النزول إلى قاع هذا الكهف بسلام أمراً يسيراً عدا الجهة الشرقية حيث توجد طريق متعرجة ضيقة بدرجات غير منتظمة إلى جانبها وفجوات وأقواس يمكن المرور من خلالها. ونجد في قاع الكهف أحجاراً منحوتة بانتظام عدا الصخور التي تدحرجت وهناك بئر أو مستودع للحبوب وكهف لمبيت قطعان الخراف والماشية. ولا يُعرف من أين ظهرت فكرة الفرنجة بأن هذا الكهف نتج عن زلزال. وليس لدى الأهلين مثل هذه الرواية ويعتقدون بأن الكهف قديم قدم الخليقة ويشبه بشكله العام فوهة البركان ولكن لا وجود للحمم بالقرب منها أو حولها تدل على ذلك ولكن يذكر بعض المسافرين عن بركان يقع على بعد تسع ساعات عن اسكندرون.

     على مسافة 12 ساعة عن طريق اسكندرون توجد ينابيع مياه دافئة بين أرميناس وأنطاكية قرب قرية قصر دبّين. ويذكر Texier أنه أثناء سفره من حلب إلى اسكندرون بات ليلتين قرب نهرين:أحدهما يحتوي على مياه كبريتية وتتميز مياه الأخر بأنها طبييعية وحلوة على الرغم من وقوعه على بعد 4 خطوات عنه فقط. ويوجد نبع على سفح تلة غير بعيدة عن مدينة كلّس تمتاز بمياهها المعدنية الباردة. ولا يستخدم سكان حلب هذه المياه المعدنية على النقيض من سكان كلّس الذين يشربونها كدواء وخاصة لعلاج الإمساك.  . .

      نظراً لمناخ سوريا الجاف الصحراوي وغياب الأمطار مدة ستة أشر سنوياً تُجمع مياه الأمطار الغزيرة في أحواض واسعة للشرب واستخدامها للحاجات المنزلية طوال العام.  واستخدام مياه الأمطار عادة شائعة منذ القدم في سوريا وحلب على وجه التحديد لذلك فإن جميع الدور الحلبية القديمة وحتى الأبنية الجديدة تحتوي دون استثناء على صهاريج لاستخدام مياهها العذبة طوال فصل الحر الذي يدوم مدة 5-6 أشهر ويوصي الأطباء بشربها كمياه صحية شريطة الاهتمام بنظافة الصهاريج)).

     طوال مدة 16 سنة لبقائي في حلب شربت ماء صهريج المطرانية دون عواقب صحية وهضمية أو استخدام الثلج لتبريدها. وقد أوصى طبيب حلب الأشهر أسادور آلطونيان طوال 70 عاماً على شرب مياه الصهاريج. ويشرب سكان حلب من مياه الآبار الحلوة ولكن لا ينصح الأطباء بذلك صحياً لأن آبار عديدة تقع قرب مجاري المياه الآسنة ويمكن اتساخ مياهها.

الصورة: منظر عام لحلب وقلعتها رسم درموند عام (1749)

من كتاب “تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان، مطران الأرمن الأسبق في حلب، (1925 ـ 1940)، ترجمه عن الأرمنية الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب وجمعية العاديات، حلب، 2006.

Share This