شهداء القيم الأخلاقية

images 

د. محمد نور الدين*

تثير الذكرى المئوية للإبادة التي تعرض لها الأرمن في الدولة العثمانية في العام 1915 الكثير من الشجون وتطرح العديد من الأسئلة.

بداية يجب توجيه التحية لهذا الشعب العصي على الذوبان والإندثار والذي ضرب المثل في التضحية كما في العطاء حيثما وجد، سواء في الأناضول أو القوقاز أو في بلدان شرق أوسطية وفي العالم. فالشعوب لا تقاس بعددها ولا بثروتها المالية ولا بقدراتها العسكرية أو حتى الإقتصادية. إنما الشعوب هي قيم ومثل تزداد سمواً كلما توغلت في الأعماق الإنسانية تبعاً لما قاله الشاعر المصري الكبير من أصل كردي، أحمد شوقي “إنما الأمم الأخلاق..”.

قدّم الأرمن نموذجاً على التشبث بالذاكرة لا حفاظاً عليها بل إحياء لها واستلهاماً منها لمقبل الأيام والسنون. ولأن القيم الإنسانية هي الأساس كان الارتعاش التركي الدائم منذ حصول الإبادة وحتى اليوم.

وهو تعامل كان يعتمد سياسة الهروب إلى الأمام وإخفاء الجريمة بدلاً من وقفة مع الذات ومراجعة الماضي وغسل الآثام.

ليست الإبادة مجرد محطة أو حدث منعزل عما قبله أو بعده. بل هي نهج بدأ مع المخالفين للسلطة من عهد السلطان سليم الأول وابنه سليمان وصولاً إلى السلطان عبد الحميد الذي رفع شعار “الجامعة الإسلامية” فاصطدم بالمكونات غير الإسلامية في السلطنة العثمانية، ومن ثم أضاف إليها حكام جمعية الاتحاد والترقي عنصر النزعة القومية المتطرفة التي عرفت اصطلاحاً بالنزعة الطورانية، فاجتمعت النزعتان الدينية- المذهبية مع النزعة القومية لتنتج ما عرف في التاريخ التركي الحديث بـ “الطرح القومي- الإسلامي”، أي مناهضة كل ما هو غير تركي وكل ما هو غير إسلامي. ومن أجل توصيف أكثر موضوعية فإن مصطلح “الإسلامي” يقصد به لدى العقل السياسي التركي النزعة المذهبية الخاصة بالإسلام التركي، وبالتالي مناهضة كل مكون لا ينتمي إلى  المذهب الأكثري في تركيا.

وفقاً للطرح التركي- الإسلامي رفع مصطفى كمال أتاتورك شعار “هنئياً لمن يقول أنا تركي”، وعمل حتى قبل أن يؤسس الجمهورية على خلق أمة صافية تنتمي إلى العرق التركي.

 في هذا الإطار كانت عملية تبادل السكان مع اليونان في العام 1922-1923 وتهجير مجموعات عرقية أخرى إلى أماكن بعيدة عن مواطنهم الأم، كما استهدف البلغار في تراقيا (القسم الأوروبي من تركيا). حتى اليهود  لم يسلموا من تصفية الأتراك الذين هجّروهم من أماكن سكناهم في تراقيا على مراحل في سنوات الثلاثينيات.

وفي الواقع إن مسألة التطهير العرقي شملت البشر والحجر والإقتصاد بحيث تمت مصادرة ثروات وأملاك كل من بقي في تركيا من المجموعات غير المسلمة ولا سيما في الحرب العالمية الأولى وما عرف بـ “ضريبة الثروات” في عملية تتريك إقتصادية لا تقل عن عمليات الإبادة والتتريك البشرية.

وكانت آخر حملة كبيرة على غير المسلمين في 6-7 أيلول 1955 حيث هوجمت بيوت ومحلات اليونانيين والأرمن واليهود في منطقة باي أوغلو وشارع الاستقلال فسقط قتلى وجرحى.

وبعدما كان عدد غير المسلمين في الأراضي التي تشمل حدود تركيا الحالية 20 في المئة في العام 1912 تراجع إلى 2.64 في العام 1927 وإلى أقل من واحد في المئة الآن. ولقد اعترف وزير الدفاع التركي وجدي غونيل في العام 2006 أنه لو لم تحدث عملية التطهير هذه لما كان هناك الآن أمة تركية واحدة. “لو كان اليونان يستمرون في العيش في إيجه والأرمن في مناطق كثيرة من تركيا فهل كان لتركيا اليوم أن تكون دولة الأمة نفسها؟”، (10 تشرين الثاني 2008).

لقد حاول الأتراك العثمانيون ومن بعدهم كل ورثاء هذا النظام إخفاء جريمة الإبادة لكن الصحف الأميركية حينها كانت المرآة التي نجحت في عكس “المحو المنظم” للأرمن على يد عصبة وعصابة الاتحاد والتركي. ومن نافل القول أن تقارير القناصل الأميركيين في تركيا والمنطقة حفلت بأدلة أخرى كثيرة على “شمولية” المجازر للرجال والنساء والأطفال. لم يعد موضعَ نقاش حصولُ الإبادة. هذا بات مضيعة للوقت.

عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002 لم يكن واضحاً ما الذي سيفعله تجاه مختلف القضايا. لكن في وقت قصير وخلال السنوات الأولى من حكمه أظهر الحزب بزعامة رجب طيب أردوغان مرونة انفتاحية تجاه العديد من القضايا والمشكلات المزمنة، ومن ذلك الموقف من القضية الكردية ومن المسألة العلوية ومن الإصلاحات. ومن تلك القضايا التي أظهر أردوغان وحزبه رغبة في التعاطي معها بشكل مختلف المسألة الأرمنية وما يتصل بها من امتدادات مثل العلاقة مع أرمينيا والموقف من أزمة ناغورنو قره باغ.

ولقد كان الأمل كبيراً في حدوث اختراق في جدار هذه المسألة، وبات المناخ الداخلي أكثر تفهماً وانفتاحاً على مناقشة هذه المسألة فانعقد أكثر من مؤتمر للمرة الأولى في اسطنبول حول المسألة الأرمنية وذهب عدد كبير من الكتاب والمفكرين إلى الحديث إما عن “إبادة” أو عن “كارثة كبرى”.

ووصلت التحولات إلى ذروتها عبر تبادل زيارات المسؤولين في تركيا وأرمينيا على مستوى الرؤساء في كسر لجدار العداء المعنوي وصولاً إلى توقيع اتفاقية زيوريخ بين الطرفين التركي والأرميني في العاشر من تشرين الأول من عام 2009. لكن كل هذه المناخات ذهبت أدراج الرياح حين عادت انقرة وربطت المصادقة على الاتفاق في البرلمان التركي بانسحاب أرمينيا من ناغورنو قره باغ وأراض في أذربيجان، في حين أن ذلك لم يرد في اتفاقية زيوريخ. وما لبثت أرمينيا أن اعتبرت في مطلع العام الحالي 1915 أن هذه الاتفاقية التي لم تمر في البرلمان الأرميني باطلة، كأنها لم تكن.

لقد بان أن حزب العدالة والتنمية كان يريد اللعب على الوقت تجاه كل المشكلات التي تنتصب أمام تركيا وخصوصاً قضايا الأقليات الأرمنية والعلوية والكردية. وما كان يحاول الإيحاء به لم يكن سوى مخاتلة. لقد حاول أردوغان وعصبته في الحزب أن يوحوا للأوروبيين أنهم خلاف الحكومات السابقة. كل ذلك من أجل تمكين سلطتهم في وجه المؤسسة العسكرية لحسابات داخلية، وإذ تيسر لهم ذلك عادوا لممارسة هوايتهم المتجذرة في إنكار هويات الآخرين وحقوقهم، بل إن النزعة العنصرية عندهم تجاوزت سابقيهم من عصابة أنور وجمال وطلعت.

وغالباً ما كان مسؤول تركي يبدي امتعاضه من أن يكون له أصل أرمني سواء لجهة الأم أو الأب، ويعتبر ذلك إهانة له. وقد أعطى أردوغان مثالاً على احتقاره للأرمني وخجله من أن يكون له صلة أرمنية ما بقوله: “ما الذي يقولونه عني. قالوا إنني “كرجي” (من جورجيا). وخرج آخر يقول، واعذروني، أشياء أكثر قبحاً بالقول أنني أرمني”. (6 آب 2014). وكان استخدم تعبير “اعذروني” أيضاً عند الحديث عن اليونانيين (10 حزيران 2011).

ليس الاعتزاز بالانتماء القومي ما يؤخذ على أي إنسان، لكن أن يحوّل أحد، مثل أردوغان، انتماء “الآخر” القومي أو الديني أو المذهبي إلى إساءة وتحقير فهذا ما لا يليق بالنفس البشرية.

أن تكون أرمنياً في زمن سقوط المعايير الإنسانية فهذا ما يشرف كل إنسان. وفي ذكرى الإبادة يمكن لأي ظالم أن ينتزع منك بيتك وأرضك وحتى روحك، لكن أحداً لا يقدر أن ينتزع منك ذاكرتك، ومن التاريخ شهادته على فظاعة الإبادة والمبيدين العثمانيين، قدامى القرن العشرين أو جدد القرن الحادي والعشرين.

سيبقى الأرمن شهداء القيم الأخلاقية وشهود تاريخ يمهل لكنه لا ينسى ولا يهمل.

* أستاذ التاريخ واللغة التركية في الجامعة اللبنانية.

(مقالة صدرت في العدد الخاص الذي أصدره ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية في 24 نيسان 2015 بمناسبة الذكرى المئوية للابادة الأرمنية)

Share This