إخفاء وثائق الأرمن وراء حرق المجمع العلمي بالقاهرة

مندور

محمد مندور*

تحل ذكرى مئوية مذابح الأرمن التي ارتكبتها القوات التركية أثناء الحرب العالمية الأولى وتلاحق مرتكبيها عدة جرائم جديدة، ففي 24 نيسان يكون مر قرن كامل على مذابح الأرمن، تلك القضية تعدّ أهم فضائح تاريخ الأتراك في القرن الماضي.

وعلى مرور هذه السنوات الطوال لا زال الأرمن يجمعون كل ما يتعلق بتاريخ المذابح لتقديمها للمجتمع الدولي إلا أن مذابح الأمس لا زالت تمارسها تركيا ضد الأرمن وكل ما يؤكد الانتهاكات التي ارتكبت بحقهم، فها هي مؤشرات جديدة تكشف تورط تركيا في حرق مبنى المجمع العلمي وما به من وثائق تدين المجازر التركية بحق الأرمن.

وتعدّ مصر كنزاً ثرياً بالوثائق التي تؤكد وقوع المجازر التركية بحق الأرمن، ولعل أرشيف مؤسسة الأهرام، وما به من مئات التقارير والأخبار توثق لحظة بلحظة مذابح الإبادة التركية ضد الأرمن، وكلها من شأنها أن تكشف للعالم كله حقيقة تركيا وتفتح الباب واسعاً للشعوب التي قهرها الأتراك، واغتصب أراضيها وحقوقها وانتهك آدمية أبنائها، مثل اليونانيين والأكراد والسريان والبلغار والعرب وغيرهم ليطالبوا باستعادة أراضيهم، وبالتعويضات المادية والأدبية.

داخل أرشيف الأهرام والمراكز البحثية في مصر توجد ملايين الوثائق أرسلها الدبلوماسيون الغربيون بالأستانة والولايات العثمانية إلى وزراء الخارجية التابعين لها مثل بريطانيا، الولايات المتحدة، فرنسا، ألمانيا، النمسا، روسيا وغيرها.

وهذه الوثائق كما يؤكد الدكتور محمد رفعت الإمام أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بكلية الآداب جامعة دمنهور، توثق لحظة بلحظة ما جرى للأرمن من انتهاكات واضطهادات وملاحقات وتعذيب واغتصابات. باختصار، توثق كل المآسي التي ألحقها الأتراك والأكراد بالشعب الأرمني الأعزل.

وفي العالم العربي عموماً ومصر خصوصاً، آلاف الشواهد الدالة على فظاعة الجرم التركي بحق الأرمن والإنسانية. فهناك مئات من الصحف العربية التي سجلت يوماً بيوم آلام الأرمن والمذابح التي تعرضوا لها حتى انتهت بالإبادة في عام 1915.

ويكفي تصفح جريدة “الأهرام” منذ أن صدرت في 5 آب 1876 حتى نهاية مؤتمر لوزان 1923 ليدرك كل باحث بنفسه حجم الكوارث التي أصابت الأرمن، هناك الكتاب الأحرار والشرفاء الذين رفضوا انتهاك الإنسانية بهذه الصورة النكراء. نذكر من هؤلاء مصطفى لطفي المنفلوطي الذي كتب في النظرات “لا همجية في الإسلام”، ولي الدين يكن التركي الجنس العربي الهوية الذي كتب “المجهول والمعلوم”، فكري أباظة “الضاحك الباكي”.

إنكار تركي

ورغم تأكيدات المصادر التاريخية القتل المتعمد والمنهجي للسكان الأرمن من قبل الإمبراطورية العثمانية خلال وبعد الحرب العالمية الأولى من خلال المجازر وعمليات الترحيل والترحيل القسري، وهي عبارة عن مسيرات في ظل ظروف قاسية مصممة لتؤدي إلى وفاة المبعدين من قراهم ومساكنهم، إلا أن تركيا من جانبها ترفض الاعتراف بهذه الجريمة وتتهم آخرين من المشاركين في تلك الحرب، بارتكاب المجزرة، التي يحييها الأرمن في شهر نيسان من كل عام.

عام 1915 قام أجداد أردوغان في ظل تخاذل دولي بتنفيذ أكبر مذابح في التاريخ البشري للأرمن المعروفة باسم المذبحة الأرمنية أو الجريمة الكبرى. ويبدو أن مذابح الأرمن في تركيا على يد أجداد رجب طيب أردوغان تلوح في الأفق مع تطلعات أردوغان في إعادة العهد الدموي للعثمانيين في بعض دول الجوار لتركيا ومحاولاته قيادة أو دعم مليشيات إرهابية في سوريا ومصر للقضاء على كل ما هو مخالف أو مقاوم لأحلامهم أو سياساتهم.

 إلا أن الشيخ نبيل نعيم مؤسس جماعة الجهاد في مصر، فجر مفاجأة من العيار الثقيل، بالكشف عن السر الحقيقي في إحراق المجمع العلمي، في أحداث مجلس الوزراء، والمتهم فيها عدد من النشطاء والمنتمين لجماعة الإخوان، مؤكداً أن تركيا هي المحرّض الرئيسي لإحراق المجمع من خلال دفعها ملايين الدولارات للجماعة الإرهابية.

هذا المكان كان الوحيد الذي به وثائق إدانة للدولة التركية، لارتكابها مذابح الأرمن التي قام بها الأتراك، وبالتالي كانت تركيا تريد منع محاكمتها دولياً في حالة الكشف عن هذه الوثائق، لذا حرضت على حرق كل محتويات المبنى الأمر الذي يتطلب ضرورة مطالبة مصر بمعاقبة تركيا على هذه الجريمة. التي لا تقل بشاعة وفجراً عن مجازر الأتراك بحق الأرمن، تلك القضية تعد أهم فضائح تاريخ الأتراك في القرن الماضي.

لكن أردوغان الذي حرّض على حرق المجمع العلمي بالقاهرة لن يجرؤ على إعادة سيناريو جريمته في متاحف أخرى عالمية لا زالت تحتفظ بوثائق تكشف حقيقة جرائم تركيا، فهناك وثائق وعشرات الآلاف من الصور في متحف خاص في الفاتيكان، يتضمن المكاتبات الصادرة من سفراء وقناصل الدول في عاصمة الخلافة العثمانية “اسطنبول” يصفون ما جرى حينها من فظائع ضد الإنسانية، وصور للإعدام الجماعي تحتوي مشاهد مفزعة مثل صلب النساء عاريات، وإبادة قرى بأكملها وإجبار مئات الآلاف على الفرار والهرب من جحيم الحملات التركية.

تاريخ العلاقة بين الأرمن والدولة العثمانية بدأت عام 1514م عندما استولى العثمانيون بقيادة السلطان سليم الأول على أرمينيا بعد إلحاق الهزيمة بالفرس الصفويين في معركة سهل جالديران، ويعتبر هذا التاريخ تاريخاً أسود بالنسبة للأرمن فقد استغلهم الأتراك لكونهم متعلمين وحرفيين كما أرهقوهم بكثر الضرائب، فالعلاقات بين الأتراك والأرمن بدأت تزداد سوءاً شيئاً فشيئاً فاضطر كثير من الأرمن إلى الهرب من بطش الأتراك إلى البلاد المجاورة، واستوطن عدد كبير منهم في سوريا، حيث وجدوا الأمان، وعملوا في المهن الحرفية الدقيقة والصناعات، كما انتقلت أعداد منهم إلى مصر و لبنان وفلسطين والأردن.

خلال القرن التاسع عشر، تحسنت أوضاع الأرمن لتصبح أكثر طوائف الدولة العثمانية تنظيماً وثراءً وتعليماً، وعاشت النخبة من الأرمن في عاصمة الإمبراطورية العثمانية مدينة اسطنبول، حيث تميزوا بالغناء الفاحش وكان لهم نفوذ اقتصادي كبير في الدولة.

 مذابح 1915

تعرض الأرمن في عهد الدولة العثمانية إلى عدة اعتداءات كان أبرزها مذابح الأرمن خلال الحرب العالمية الأولى، ففي عام 1915 تم اعتقال أكثر من 250 من أعيان الأرمن في اسطنبول وبعد ذلك، طرد الجيش العثماني الأرمن من ديارهم، وأجبرهم على المسير لمئات الأميال إلى الصحراء وتم حرمانهم من الغذاء والماء، المجازر كانت عشوائية.

 وقامت الدولة العثمانية، بحسب الدكتور أرمين مظلوميان عضو لجنة إحياء الذكرى المئوية للإبادة الأرمينية، بعمليات قتل متعمد ومنهجي للسكان الأرمن خلال وبعد الحرب العالمية الأولى، وقد تم تنفيذ ذلك من خلال المجازر وعمليات الترحيل، والترحيل القسري وهي عبارة عن مسيرات في ظل ظروف قاسية مصممة لتؤدي إلى وفاة المبعدين، ويقدّر الباحثون أعداد الضحايا الأرمن ما بين 1 مليون و1.5 مليون نسمة.

 عاش الأرمن سنوات الشتات إلا أنهم استطاعوا تكوين جاليات كبيرة، حافظت على علاقاتهم الاجتماعية وطقوسهم وتاريخهم الأرمني حتى استطاعوا تكوين دولتهم فيما بعد، ونالت أرمينيا استقلالها عن الاتحاد السوفيتي السابق عام 1991.

لا تزال أرمينيا تتمتع بجالية كبيرة في مختلف دول العالم، ولا تزال الجالية الأرمنية بمصر من الجاليات الأكثر ارتباطاً بتاريخ مصر، فتاريخهم يعود إلى عصر الدولة الفاطمية، كما زاد أعداد الوافدين من الأرمن إلى مصر عقب المذابح الأرمنية خلال القرن العشرين وحصلوا على الجنسية المصرية، ورغم تأسيس دولتهم عام 1991 إلا أن أرمن مصر تعلقوا بمصريتهم ولا زالوا يعيشون بها ويشاركون أهلها أحزانهم وأفراحهم وثوراتهم.

 أهمية الاعتراف بالإبادة

الحديث عن القضية الأرمنية في الوقت الحالي أصبح أمراً في غاية الأهمية، فالمشاركة في المصلحة الواحدة والتاريخ الواحد تدفعنا للحديث عن ضرورة انضمام مصر والدول العربية التي أضرتها تركيا، في الماضي والحاضر، إلى ضرورة دعم القضية الأرمنية والتوقيع على وثيقة الاعتراف بمذابح الأتراك التاريخية بحق الأرمن.

قضية الأرمن اعترفت بها 24 دولة، واعتراف الحكومة المصرية بمذابح الأرمن سيكون بمثابة ضربة لتركيا، خاصة أن الشعب يطالب بطرد السفير التركي لتمادي بلاده في تشويه مصر خارجياً وسعيه لتمويل منظمات إرهابية داخل البلاد تدعم جماعة الإخوان التي رفضها الشعب في ثورة 30 يونيو، والظروف حالياً تتطلب أن يكون القرار المصري على قدر طموحات الشعب للرد على تركيا بضربة قوية.

دعم القضية الأرمنية ليس من باب المصلحة الآنية، وليست مجرد خطوة يمكن التراجع بعدها بتحسن الأوضاع والسياسات مع تركيا، بل هي قضية لا بد من دعمها والاستمرار في تقديم هذا الدعم مستقبلاً، فالمذابح التركية ضد الأرمن نموذج لانتهاك آدمية وحقوق الإنسان، وبغض النظر عن الجنس والعرق واللون لا بد أن تنظر الحكومات والشعوب إلى تلك القضية بعين الاعتبار، فهي قضية محورية تدور حول حقوق الإنسان.

لا شك أن المناخ السياسي في مصر مهيأ الآن للتواصل مع الجالية الأرمنية واللجنة الدولية لدعم الاعتراف بمذابح الأتراك ضد الأرمن، فالشعب المصري بلغ حداً كبيراً من الغضب والثورة تجاه سياسات تركيا لن يقبل معه انتهاكات سيادة وإرادة الشعب، كما أنه حان الوقت الآن أن تعترف مصر بجرائم الإبادة المنظمة تجاه الأرمن عام 1915 مع تبني الدول العربية قرار إنشاء نصب تذكاري لضحايا المذبحة في كل عاصمة عربية كما فعلت عاصمة الاتحاد الأوروبي.

استنكار مصري

وتفتخر مصر بريادتها بمسألة توثيق المذابح والإبادة التي لحقت بالأرمن. ففي نيسان 1909 أصدر شيخ الجامع الأزهر الشريف فتوى بتحريم قتل الأرمن لأن هذا يلحق العار بالإسلام والمسلمين، مؤكداً في فتواه أن الدين الإسلامي الحنيف ليس به أي نص يحض على قتل المخالفين في الدين. وفي تشرين الثاني 1916، أصدرت جريدة “المقطم” القاهرية كتاب المحامي السوري فايز الغصين وعنوانه “المذابح في أرمينيا”، وهو أول كتاب في العالم يتحدث عن هذه الإبادة البشرية ويفضح الانتهاكات التركية، ويبرئ الإسلام من الحض على ارتكاب المذابح والإبادات في حق البشر، كما تناولت الصحف الغربية موضوع الإبادة نقلاً عن هذا الكتاب وخير شاهد على ذلك صحيفة “نيويورك تايمز” عام 1916.

لكن مصر وكما وثقت لهذه المذابح أسهمت أيضاً في إنقاذ الأرمن الناجين من المذابح والإبادة، حيث استقبلت مصر آلاف اللاجئين الأرمن من المذابح الحميدية وعاشوا في رحاب الشعب المصري الكريم والمضياف. وفي 15 أيلول 1915 استقبلت مدينة بور سعيد 4500 أرمني رفضوا تنفيذ قرار الترحيل واعتصموا بجبل موسى في أنطاكية يقاومون السلطات العثمانية لمدة 45 يوماً حتى أنقذهم الأسطول الفرنسي في البحر المتوسط ونقلهم إلى بورسعيد وقد عاشوا هناك أربع سنوات حتى انتهت الحرب وعادوا إلى ديارهم سالمين آمنين، وأثناء حكومة الشعب ورئيسها سعد زغلول 1924 سمح بدخول 1000 بينهم أرمن من القدس واليونان إلى مصر كي يتربوا بين أحضان الأسر الأرمنية في مصر كأبناء لهم.

لا شك أن تأثير اعتراف مصر بمذابح الأرمن على تركيا سيكون كبيراً، لأنها سوف تُثبت مصر للعالم بأنها تساند بقوة كل الشعوب المقهورة. وربما تتجه دول عربية أخرى للاعتراف بالإبادة تيمناً بـ”الشقيقة الكبرى” ودينياً برغم أن مصر دولة إسلامية فإنها من هذا المنطلق حريصة على ألا يلصق العار بالإسلام والمسلمين بتهمة إبادة المسيحيين. وكما أدان الأزهر هذه الإبادة 1909، فإن اعتراف مصر بعد ثورة 30 يونيه بهذه الإبادة، يُكمل الموقف المصري ويتوج عظمته.

كما أنه لا شك أن الوثائق التي تدين تركيا أصبحت مثل العصا والشوكة في ظهر أردوغان، فالعديد من الدول تستخدمها للوي ذراع تركيا، ومن أبرز هذه الدول إسرائيل التي هددت في عام 2009 بنشر وثائق سرية تحتفظ بها تل أبيب وتثبت أن تركيا نفذت مذابح ضد الأرمن.

*كاتب صحفي مصري في “صدى البلد” المصرية، له العديد من المقالات عن القضية الأرمنية.

(مقالة صدرت في العدد الخاص الذي أصدره ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية في 24 نيسان 2015 بمناسبة الذكرى المئوية للابادة الأرمنية)

Share This