مائة عام على إبادة الأرمن “التواصل الثقافي والمطلب الإنساني”

download 

*د. عبد الوهاب خزعل ود. ياس خضر

تتباين فلسفات العيش والحياة والوجود الإنساني بموقفها من وجوده، فأقرت هذه الفلسفات بأساليب معيشته وتعددها وتباينها وسبل إدراك ماهيته وطبيعة وجوده وحقيقته الفعلية، وعلى الرغم من الاتفاق الإنساني بمختلف تعبيراته على أهمية التعاضد البشري للرقي بمستواه الوجودي، إلا أن هناك بعض التمظهرات دينية كانت أم أيديولوجية أو غير ذلك تبتسر هذا المبدأ (التعاضد البشري) بما يغلًب نزعتها الاستحواذية ومصادرة حقوق الآخر بمنطق سفسطائي المولد عنه أنماط سلوكية تتراجع بحدتها إلى مستوى البهيمية، بل أدنى من ذلك بحسب ما ثبته عالم الانثروبولوجيا الأمريكي جارد دايموند (J. Diamond) في كتابه “صعود الشمبانزي الثالث وسقوطه”.

وعلى ضوء ما تقدم يمكن أن نفسر الفعل الإبادي الجمعي  (Genocide collective action)بوصفه استهدافاً وجودياً تاماً وقصدياً (يفلسف) إبادة وجود إنساني غير متورع بارتكاب ما يحقق هذه القصدية الشاذة عن المتبنيات الأخلاقية السوية.

ولا يخفى على المهتمين بتتبع مراحل التطور الإنساني ما نظًر له كبار المفكرين بشتى مشاربهم بارتقاء الانسان عبر تاريخه (بالضرورة والحتمية التطورية) إلى مرحلة التعايش المجتمعي بعد أن مر بمراحل معتمة سادت فيها الصراعات الدموية، وهذا يعني على ضوء أطروحات (أوغست كونت وفيكو وكارل ماركس وغيرهم) أن الركون إلى الصراعات هو تقهقر بمستوى الإرتقاء الإنساني، وبذلك يكون الفعل الجينوسايدي فعلاً نائياً عما حققته الإنسانية من تقدم بكل الأصعدة لاسيما فيما انبثق عنها من تشريعات وقيم وأديان تعزز وحدة الوجود الإنساني.

وعلى الرغم من (تفاؤلات) المفكرين آنفي الذكر ومن حذا حذوهم بمستقبل كوني مشرق التي تعد بمثابة (القانون)، إلا أن هذه التفاؤلات قد تقوضت بعض ركائزها الطامحة إلى الشمولية، بانبثاق نزاعات التدمير والفتك بمقومات الوجود العيني والثقافي في بعض المجتمعات الحديثة ضد مكونات معينة والمؤطرة بما بيّنا، وكانت الإبادة ضد الأرمن إبان نهايات العصر العثماني أول ما يمكن عدّه (إبادة جماعية) في العصر الحديث (1915) التي يقدّر المهتمون بها وقوع أكثر من مليون ونصف المليون ضحية لم يميز القائمون بها بين رضيع أو مسن، إمرأة أو رجل، سقيم أو صحيح… ناهيك عما صاحب عمليات القتل الجماعي-بأبشع الوسائل- من تهجير وتسخير بربري واستئصال للرموز الثقافية والدينية وما إلى ذلك…

(على قاعدة من فمك أدينك، أثبت كثير من الوثائق التركية وقوع الإبادة الجماعية ضد الأرمن وما رافقها وتلاها من عمليات استئصال منها على سبيل المثال لا الحصر: تانير أكتشام، “عمل مشين، الإبادة الأرمنية وقضية مسؤولية تركيا”، ويوسف حلاج أوغلو، “تهجير الأرمن، 1914-1918 (الوثائق والحقيقة)”، ترجمة أورخان محمد علي، و”مذكرات أنور باشا” التي حررتها حفيدته عام 1914 والمترجمة في عدة دور نشر عربية).

وأمام هكذا أهوال يعجز البيان الكلامي والرمزي عن تمثل صورة من صورها يحق للقارئ أن يتساءل وخصوصاً الأرمني ومن يماثله ممن وقعت عليه أو على أجياله السابقة مروعات الإبادة الجماعية: ما قيمة ما سُطر من مقالات وأبحاث ودراسات وتوصيفات في التاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع والفن ومختلف مخاضات العلوم الإنسانية، وما زالت آثار الإبادة ماثلة، حتى أن مساحة الاعتراف القانوني بها ولو معنوياً ضيقة؟ (بلغ عدد الدول التي اعترفت بالإبادة الجماعية بحق الأرمن 22 دولة فقط).

ونحن مع هذا التساؤل ويحق لنا الإجابة بالاستناد إلى المنطق السياسي العام الذي يقضي بتغليب ما يدره الاعتراف أو الإدانة من مصلحة مع أطراف العلاقة. وبذلك تكون القرارات السياسية محددة بهيئات (رسمية) قد تشط عن الأخلاق العامة ما لم تواجه ضغطاً شعبياً يسيّرها مبدأ (وحدة المصير الإنساني).

ولعل أول خطوة عملية للوقوف ضد أفعال الإبادة الجماعية في مختلف أصقاع الأرض الشروع بتأسيس تشكيل ثقافي عالمي غير رسمي يضم بعضويته كل من يقف ضد هذه الأفعال، ليشكل تنظيماً عالمياً يطمح إلى القيام بحملات تواصلية مباشرة، وافتراضية عبر موقع الكتروني موحد ليصل صوت ملاييني إلى أصحاب القرارات التي تدين كل أنواع الإبادات في العالم، وتمنع تكرارها. هو طموح قد يبدو يوتيوبياً ولكن ما تولد عن اليوتيوبيا عبر التاريخ كثير ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.

* أساتذة في قسم الأنثروبولوجيا التطبيقية – كلية الآداب – الجامعة المستنصرية- العراق، وأعضاء اللجنة العلمية للمؤتمر الدولي لإحياء الذكرى المئوية للإبادة الجماعية الأرمنية في العراق.

(مقالة صدرت في العدد الخاص الذي أصدره ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية في 24 نيسان 2015 بمناسبة الذكرى المئوية للابادة الأرمنية)

Share This