مناجم مدينة حلب صفحات من كتاب “تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان، مطران الأرمن الأسبق في حلب* (5)

aleppo 

الفصل الثالث

مناجم مدينة حلب: مناجم المدينة ـ مناجم الحجر ـ فخار حلب

 

مناجم المدينة

      ليست حلب غنية بمناجم المعادن وبالكاد هناك بعض الصخور التي يبدو أنها تحتوي على الحديد ولم يكتشف أي معدن في القرنين الأخيرين قرب حلب أو في بقية المناطق في سوريا. ولكن هناك على الجهة الغربية من المدينة صخرة كبيرة تدعى “جبل النحاس” يُقال بأنها كانت تحتوي على معدن النحاس ولكن غلاء المحروقات حال دون استثمار الجبل. وبسبب قلة المعادن في البلاد كان الحديد بشكل رئيسي والتنك الأزرق يستوردان من بريطانيا وهولندا قبل قرنين. ومدينة آهلة بالسكان كحلب كانت أنواع النحاس المختلفة تصلها من آسيا الصغرى وخاصة Yevtogiaالغنية بمناجم النحاس والرصاص عن طريق قوافل البغال قبل قرون عديدة محملة بكميات هائلة من الآنية النحاسية ويقوم الحلبيون بتبييضها وتلميعها. وكانت الأشياء النحاسية المجلوبة من يفتوكيا على نوعين:النوع الواحد أغلى من الآخر لأن الحلبيين كانت لهم خبرة منذ القديم بأن النوع الأجود من الآنية يغلي فيه الماء بشكل أسرع.

 

مناجم الحجر

      إذا كانت الطبيعة بخيلة في منح حلب مناجم المعادن لكنها قدمت لها مناجم غنية جداً بالحجر التي ساهمت بشكل كبير في تشييد المدينة وتزيينها. وتوجد قرب المدينة مناجم واسعة للأحجار الحوارية الناصعة البياض وسهلة التقطيع التي تقسو تحت تأثير الطقس مع الوقت. وقد شيدت جميع أبنية حلب وضواحيها البعيدة والقريبة بهذه الأحجار منذ أقدم الأزمنة. والاستثناء الوحيد هو القسم الشمالي من سور المدينة الذي لم يتحمل عوامل الطبيعة والزمن طويلاً لأنه مبني بنوع معين من الفخار القاسي. أما مناجم الحجر القديمة فإنها اليوم عبارة عن تجويفات واسعة ومغارات كبيرة ولبعضها مدخل تحت الأرض.

وقد كانت هذه المغارات طوال قرون عديدة ولا تزال تستخدم كملاجئ في فصل الشتاء من قبل بعض العرب الرحل والغجر الذين كانت لهم عادة نصب الخيام خارج أسوار المدينة في بعض فصول السنة.

وكانت هذه المغارات تستخدم أيضاً كاسطبل للجمال والخنازير بينما في عهد الجنود الإنكشاريين استخدمت
لكل أنواع الرذائل. ومناجم الأحجار الحوارية المستخدمة في البناء تقع على الجهة الشمالية- الشرقية من المدينة وهي مناجم غنية. وعدا عن استخدامه في البناء فإنه يُخلط بكميات كبيرة مع المواد الأخرى على شكل “روبة” لتغطية سطح الأبنية بينما يستخدم الإسمنت في وصل أنابيب الينابيع الفخارية. ويستفاد من مناجم الحجر البازلتي الأسود القاسي
الواقعة على الجهة الجنوبية من حلب في تبليط شوارع المدينة بينما المناجم الموجودة
في الأنصاري والسبيل تستخدم الحجر الحواري. ويستخدم حجر المناجم الواقعة على بعد 2-3 كم إلى يسار طريق حلب-المسلمية (B) في بناء الجدران التي تفصل الغرف في البيوت لأنها بيضاء
وأكثر طراوة لذلك فإنها قابلة للنحت والصقل. وعلى بعد 2 كم من مقابر الأنصارى وفي حي الشيخ مقصود هناك مناجم واسعة تحتوي على نوع من الحجر الحواريpierre de taille يستخدم في أساسات البيوت بسبب قساوته.

وإلى الجنوب من محطة بغداد وبين حلب ومحطة الوضيحي هناك منجم لحجر يميل لونه إلى الأصفر (E) قريب من المرمر في صفاته لكنه أقل قيمة ويستخدم في تزيين الأبنية وتبليط أرضيات باحات البيوت الخاصة والأبنية العامة ودرجات البيوت الفخمة بسبب إمكانية تلميعها. وتقع مناجم المرمر الوردي اللون الثمين حول طريقي الوضيحي والمسلمية (FH) وتستخدم بشكل عام في الأبنية الخاصة والعامة الهامة كذلك في تزيين واجهات الكنائس والمساجد والحمامات وصنع الأعمدة (F,F’,H). ومناجم الأنصاري صغيرة بحجمها وتكفي لإعمار تلك المناطق فقط. وقد شيدت بعد عام 1930 في تلك المنطقة وعلى تلة الفيض مئات الدور الجميلة بالإضافة إلى أبنية المعهد الأمريكي(معهد حلب العلمي-المترجم) الواسعة بأحجار تلك المناجم. والمناجم  الواقعة في السبيل وعلى طريق أعزاز بالكاد تكفي لإعمار تلك المناطق وطرقها. وأوسع المناجم هي مناجم أحجار البازلت السوداء التي تستخدم لتبليط الشوارع والمشار إليها على الخريطة بحرف(A). والرمل الذي يستخدم أثناء تزفيت الشوارع يجهز من هذا الحجر بعد طحنه بالماكينات البخارية الحديثة (C).

مواقع مناجم الأحجار المختلفة

      هذه المناجم هي أملاك خاصة في العموم بينما مناجم الأنصاري والسبيل هي تحت إشراف الدولة. ومستثمر المناجم يقدم عامة قيمة عشر كمية الحجر المستخرج إلى صاحب المنجم وفي أحيان أخرى يتم الاتفاق بين صاحب المنجم والمستثمر على أن يدفع الثاني للأول مبلغ إجمالياً معيناً لمرة واحدة. وأصحاب المناجم بدورهم يدفعون ضريبة معينة تختلف من منجم إلى آخر حسب مساحتها.

     ابتداء من عصور بعيدة لا يمكن تذكرها تُبنى حلب ثم تهدم وتدمر وتتآكل منشآتها ويعاد ترميمها وبناؤها وترتفع مرات ومرات بالأحجار من كل نوع من المناجم التي لا تنضب كالفحم الحجري والبترول ومناجم المعادن في بلاد أخرى. ومن المناظر الجميلة رؤية الجمال وهي تحمل بلوكات الأحجار الكبيرة المنحوتة على سنامها في شارع السليمانية العريض الدائم الحركة والجمل هو المسافر الأبدي الصامت بين مناجم الحجر وطرق المدينة. وقبل عشرين عاماً عندما كنت أرى تلك الحيوانات الأنيسة تحمل الأحجار كنت أقول بيني وبين نفسي بأن مدينة حلب شيدت على سنام الجمال مدينة تمتاز بهندستها وذوقها الفني حيث كل شيء مبني بالحجر. ومع ذلك لا تقتنع الأذواق الناعمة بجميع هذه الأحجار المحلية الجيدة الثمينة لذلك تستورد أنواع المرامر من أمكنة بعيدة وذلك منذ أزمنة بعيدة. ومثالنا على ذلك أن المهندسين المعماريين الحلبيين يحصلون على المرمر الأحمر من دمشق ونوع آخر خشن من دمشق أيضاً وكلّس. ومدينة أنطاكيا كانت تصدر أحجارها الثمينة إلى حلب. واستورد الحلبيون المرمر الأبيض الإيطالي الثمين لاستخدامه في دورهم الغالية وذات الذوق العالي. والطلب بالنسبة للمرمر الأحمر والأسود كبير وغال إلى درجة يقوم المهنيون الحلبيون بتعريض مرمرهم العادي لظروف حرارية متوسطة في الفرن كي يشبه مرمر دمشق الأحمر بعد تجفيفه وفركه بالزيت.

فخار حلب

     كمية الفخار حول مدينة حلب قليلة وهي من نوعية سيئة وليست مناسبة لصنع أبسط أنواع الفخاريات كالجرار التي تتكسر بسهولة. وكان الفخرانيون الحلبيون يخلطون تراب فخار حلب بالتراب المستورد من دمشق وصيدا ويصنعون منها أجود الأواني الفخارية قبل قرنين.  وعلى الرغم من التوقف في استخدام هذه الأواني الفخارية لكن هناك بعض القرى المتأخرة تستخدم تراب الفخار في أقماط (كانوا يسمونه تراب “هلّلك”-المترجم) الأطفال كما كانت العادة في بعض قرى ومدن أرمينيا.

     إن الفخار المستخدم بشكل عام من قبل النساء في الحمامات هو من نوع معين ولزج ويجلبونه بكميات كبيرة من قرية تبعد عشرين ميلاً عن المدينة محملاً على ظهر الحمير لبيعه في شوارع المدينة. وتقوم نساء المدينة بصنع طابات أو حلقات صغيرة من هذا البيلون ويخلطونه بأوراق الورد اليابسة ويستخدمونه كصابون في الحمام لتنظيف الشعر بشكل خاص.  وصنع البيلون مهنة خاصة بالحلبيين ويرغب حتى سكان اسطنبول بالحصول عليه لاستخدامه عوضاً عن الصابون.

 

*ينفرد “ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر صفحات كتاب “تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان.

* من كتاب “تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان، مطران الأرمن الأسبق في حلب، (1925 ـ 1940)، ترجمه عن الأرمنية الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب وجمعية العاديات، حلب، 2006.

Share This