مخطط مدينة حلب وتوسعها ..وتمركز الأرمن في أحيائها (صفحات من كتاب “تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان)* (6)

aleppo tagher 

الفصل الرابع

مخطط مدينة حلب وتوسعها: بداية مدينة حلب هي قلعتها ـ أحياء حلب المختلفة

 

بداية مدينة حلب هي قلعتها

     ليس هناك أدنى ريب أن بداية ظهور وتشكل حلب كان من القلعة. وكان التل الأولي يقع في موقع القلعة الحالية حيث شيد حصن توسع وكبر مع الزمن وتحول كامل مساحة التل إلى قلعة دفاعية كبيرة بنيت فوقها تدريجياً قصور الأمراء أصحاب القلعة إلى جانب منشآت عسكرية مختلفة. وكما سنرى مفصلاً في فصول قادمة كانت القلعة محاطة بخندق عميق ويملأونه بالماء في الحقب القديمة أثناء الدفاع عنها. والتلة بيضوية الشكل ويصل طولها إلى 500م وعرضها إلى 400م. وقد خُربت القلعة مرات عديدة ثم أعيد ترميمها أو بناؤها. ولكن عندما زاد عدد السكان في المدينة التي تشكلت حول القلعة أصبح من الحيوي بمكان تعزيز دفاعات القلعة. ولم يكن في وسع القلعة في ذلك الوقت إيواء جميع السكان والدفاع عنهم أثناء الهجوم الخارجي لأن القلعة كانت بعيدة عن أسوار المدينة الأصلية القديمة التي نرى بعض آثارها ماثلة أمامنا حتى يومنا هذا وتقدم لنا معلومات حول حدود المدينة القديمة. وهذا السور المنيع الذي سنتطرأ إليه مفصلاً في فصل قادم أعيد بناؤه دون شك في القرن 12م على أساسات السور البيزنطي القديم الذي تعرض إلى ترميمات عديدة بين القرنين 13-15م وخاصة في القرنين 14م و 15م وزاد جمال القلعة وتحصينها بعد تشييد الأبراج العديدة.

      فُتحت بوابات دفاعية عديدة على سور المدينة الحصين وكانت تغلق عند المغرب ولم يبق منها مع الأسف سوى عدد قليل. وعلى الرغم من زوال بعض هذه البوابات ولكن مع ذلك بقيت أسماؤها باسم أحياء حلب القديمة الحالية. ولسور المدينة شكل مربع شبه منتظم وتقع القلعة في وسط النصف الشرقي للمربع تقريبا. وقد جرى هذا الميل بسبب الرغبة للوصول إلى حوض نهر قويق وتوسيع المدينة غرباً. وأقرب حي للنهر هو حي باب الجنان بينما الباب الذي يتجه شرقاً يدعى بباب أنطاكية. وهذا الباب وباب الحديد باقيان في حال جيدة مقارنة بالأبواب الأخرى بينما لم يبق من بقية الأبواب سوى بعض الأطلال.

     كانت مدينة حلب حتى القرنين 16 و17 تعيش خلف هذه الأسوار المحصنة ولا تزال بعض أحيائها تحافظ على شكلها القديم حتى أيامنا. وهذه الأحياء هي عبارة عن أزقة ضيقة وبيوت قليلة النوافذ. وهذه الدور ذات المظهر البائس من الجهة الخارجية هي في معظم الأوقات قصور واسعة بباحات كبيرة وباهرة وتحتوي في الغالب على حدائق وأحواض ماء. ثم بدأت المدينة بالتوسع على محورين:في الفترة الأولى على محور شمال وشمال-غرب وتشكلت أحياء المسيحيين في الجديدة والكَتَّاب وكان سكانهما من التجار بشكل عام. وظهر الحي الثاني على الجهة الشرقية والجنوبية والجنوبية-الشرقية للقلعة وأنشئت أحياء جديدة للسكان المسلمين قطنها بشكل عام الفلاحون والبدو الرحل وصلوا في المدة الأخيرة إلى حلب واستوطنوا فيها وهم على الغالب من المزارعين. وتوسعت المدينة مرة أخرى في نهايات القرن 19 باتجاه الشمال والشمال-الغربي بشكل رئيسي فتشكل حي العزيزية والجميلية الحديثين وشيد الأخير على ضفة نهر قويق الغربية. وتوسعت الأحياء الإسلامية الجنوبية- الشرقية والشرقية أيضاً.

      تم وصل مدينة حلب في بداية القرن 20 مع بيروت ودمشق من جهة ومع مناطق الأناضول من جهة أخرى بخط حديدي. وقد تأسست محطات قطار حلب على الضفة الغربية للنهر فعاش السكان والأحياء في غربي المدينة ازدهاراً جديداً. واستمر توسع رقعة المدينة بفضل تشييد الأبنية العصرية الجديدة العديدة وبدأت الأحياء الغربية للمدينة تستقبل سكان أحياء حلب القديمة المسلمين رغبة منهم بتملك بيوت مريحة وعصرية. وقد شهدت الجميلية والعزيزية بناء أبنية عصرية عديدة. وكان سكن الضباط والموظفين الفرنسيين في حلب محرضاً لبناء أبنية جديدة من قبل الملاكين وخاصة بسبب الارتفاع الكبير للآجارات. وانطلاقاً من تلك الأوضاع تشكل حي السبيل الجديد كذلك البيوت العديدة الجديدة حول محطتي دمشق وبغداد. وبكلام آخر بدأت المدينة القديمة تنتقل نسبياً وتتحرك غرباً باتجاه الرياح الشمالية-الغربية الباردة الملطفة لقيظ صيف حلب الحار.

    بسبب استيطان عشرات الآلاف من الأرمن المهجرين في مدينة حلب اتخذت المدينة منحى جديداً في مسألة التوسع بعد عام 1922. فقد وصل معظم الأرمن الناجين من مناطق الأناضول وكيليكيا إلى حلب وانتشروا في مدن سوريا ولبنان الهامة المزدهرة. وبسبب أحوال المهجرين التعيسة في حلب قررت عصبة الأمم مساعدتهم في الاستيطان في حلب وتحسين أحوالهم فابتاعت الأراضي ووزعتها عليهم بأسعار رمزية تم إيفائها على دفعات من قبلهم وأصبح معظمهم أصحاب بيوت بسبب نشاطهم وتوفيرهم. وعوضاً عن تلك الأكواخ القديمة المغطاة بسقوف من الخشب أو الصفيح ظهرت في الآونة الأخيرة بيوت جديدة متينة مبنية بالحجر الأبيض وشيدت قرى وأحياء أخرى للمهجرين كحي السريان الذي يسكنه الأرمن بعد خط محطات القطار وقرية “الداودية” الأرمنية (الأشرفية الحالية-المترجم) التي تقع شمالي ثكنة السبيل ثم قرية الشيخ مقصود وقرية بستان الباشا وقرية الهللك وجميعها قرى أرمنية والثلاث الأخيرة تقع خارج محيط المدينة.

     سندرس في الصفحات القادمة بشكل مسهب حول الأوضاع الحالية لجميع أحياء هذه المدينة الهامة ونتطرأ بشكل خاص للتغييرات التي جرت عليها خلال القرون الأخيرة.  وسيكون مفيداً طبعاً تجهيز لوحة إحصاء لتبيان أحوال المنازل التي شيدت منذ عام 1921 والإشارة إلى عدد رخص البناء الممنوحة سنوياً من قبل المحافظة.  

أحياء حلب المختلفة

      بما أن القلعة تشكل قلب ومركز المدينة فمن الطبيعي أن نرغب بالحديث أولاً حول الأحياء التي تحيط بها في المدينة القديمة.

    يذكر ابن الشحنة المؤرخ العربي من القرن 15 أثناء تكلمه حول حارات حلب وشوارعها وقصورها وبساتينها وينابيعها والخانات القديمة والجديدة حول

الحارات الموجودة داخل الأسوار أولاً:

(1) هناك ساحة قرب القلعة حيث قصر الحكومة وسوق الغزل(سوق خيوط الذهب والفضة) الذي قام جكم بهدمها ثم مدرسة السلطان حسن لحفظ القرآن التي بدورها هدمت من قبل جكم ودير القصر والمدرسة السلطانية وزاوية الطواشي ومدرسة الملك الحافظ.  (2) وحارة الغربي(3) وحارة الذهبي (4) وحارة الدلة أو زقاق المبلط (5) وساحة سوق الخيل التي كانت تدعى “بابا القوس” في القرن 15. ونرى في هذا المكان اليوم الحمام الناصري والأسواق الجديدة والمدفن الأرغوني ومدرسة التغري وجامعي الأطروش والدامرداش.  (6) وحارة البحاد (7) وحارة باب النيرب (8) وحارة القصيلة (9) وحارة جامع ألتونباغا حيث كان يقع “الميدان الأسود” لسباق الخيول (10) وحارة باب المقام (11) وحارة الحوارنة (12) وحارة التركمان (13) وحارة ساحة بزة

(14) وحارة الأصفري (15) وحارة طومان (16) وحارة البياضة (17) وحارة جامع الصروي (18حارة الكلداوي) (19) وحارة الجُبيل أو التلة (20) وحارة المعقلية (21) وحارة باب النصر(22) وحارة بحسيتا (23) وحارة الدباغة (24) وحارة اليهود (25) حارة باب النصر(26) حارة المصابن (27) حارة الجنان (28) حارة العقبة (29) وحارة القسطل (30) وحارة باب أنطاكية (31) وحارة قلعة الشريف (32) وحارة باب قنسرين (33) حوارة الجرن الأصفر(34) وحارة الجلوم (35) وحارة البيمارستان (36) وحارة السهلية أو سويقة حاتم (37) حارة فندق العيشة (38) وحارة سوق الهوا (39) وحارة السقطية (40) وحارة بني شداد.

      ثم يعدد ابن الشحنة

الأحياء الواقعة خارج أسوار المدينة وذلك على الشكل التالي:

(1) حارة المقام (2) وحارة الأرشاد (3) وحارة الأكراد (4) وحارة (5) وحارة بن جاجا (6) وحارة الحجاج (7) وحارة باب النصر الخارجية (8) وحارة الهزازة (9) وحارة النصارى التي تسمى “الجديدة” (10) وحارة الزجّاجين (11) وحارة الصفا (12) وحارة المشارقة (13) وحارة الكلاسة (14)وحارة المغاير.

     على الطرف الجنوبي والجنوب-الشرقي للقلعة تقع حارات باب الأحمر وساحة الملح والعجم والقصيلة والحوارنة التي تقع ضمن حدود سور حلب القديم. ونجد هنا أيضاً باب المقام وباب النيرب.

  1. Sauvaget (Les Perles Choisies) Ibn ach-Chihna,I, Beyrouth-1933,p. 185-187

وتقع الحارات التالية خارج سور حلب القديم على محور شرق ـ جنوب:

الكدّانة وبريد المسلخ والدودو ومحمد بك وعلي بك والصالحين والبكّارة والمعادي والسخانة وهي مسكونة بالسكان المسلمين كاملة وهم من أصل فلاحي بشكل عام ويعملون في البساتين حول المدينة. وهناك مزارعون بينهم أيضاً. ونجد في هذه الحارات أهم المنشآت والصروح.

     على الجهة الجنوبية من سفح القلعة شيد قصر جديد أو سراي الحكومة يعمل فيه الحاكم أو محافظ حلب وحيث تركزت جميع المكاتب الحكومية والمحاكم وهو أحدث وأكبر بناء في حلب وله ثلاث طوابق وجناحان. وكانت هناك انتقادات عديدة أثناء بنائه ووجد بعضهم أن المكان غير مناسب لتشييد بناء حديث أمام القلعة. ونعتقد أن سبب بناء السراي على ذلك الموقع هو واضح لأن السراي السابق كان موجوداً قرب السفح الغربي للقلعة ويعتبر السراي رمزاً لوحدة الماضي بالحاضر والأهم من كل ذلك لتسهيل أمور معظم السكان وخاصة تجار السوق المغطاة الكبيرة. وعلى الرغم من عدم تطابق فن السراي الحديث مع الجوار إلا أن القلعة الكبيرة ستبقى دائماً محل انطباع كبير مقارنة بالقصر. ومن المؤسف أن المنتقدين يتناسون بذرائع سياسية ودينية تلك الحقيقة أن المدينة بدأت تخرج من غلافها وتتوسع غرباً وشمالاً لذلك فمن غير المنطقي تشييد هذا السراي المُكلف خارج الدائرة الأهلة بالسكان.

بناء سراي الحكومة

      عدا هذا القصر الرحب هناك عدد كبير من الجوامع في الأحياء الإسلامية بعضها أثري.  وبيوت هذه الأحياء غير مهمة بشكل عام على الرغم من أن بعضها يحتوي على باحات كبيرة وحدائق. وهناك بعض الخانات وصروح تجارية أخرى. وكانت القوافل تبيت في هذه الخانات وتفرّغ بضائعها فيها. وليست بيوت هذه الأحياء مربحة تجارياً بسبب ضيق شوارعها وقلة نوافذ بيوتها المطلة على الشارع.

     الشارع الذي يحيط بخندق القلعة وأمام السراي هو من الشوارع الرئيسية وستقوم السلطات بتوسيعه على حساب تغطية قسم من الخندق بهدف تسهيل السير دون المساس بهذا الصرح التاريخي العسكري.

     يلتقي شارع سوق الجمعة بشارع القلعة وشارع آخر يؤدي إلى باب المقام. ولكن أهم الشوارع هو ذلك الذي يوصل باب المقام بباب النيرب حتى معهد Weigan ودائرة الشؤون الصحية. ولكي يكون هذا الشارع في وضع جيد وآهل بالمارة يجب أن تجرى عليه إصلاحات جدية ضرورية. وبتوسيع الطريق الضيقة المؤدية إلى باب النيرب ومد شارع سوق الجمعة سينتظم السير فيهما بشكل كبير. وعلينا أن نذكر هنا أيضاً المقبرتين الإسلاميتين الأولى منهما على الجهة الجنوبية والأخرى على الطرف الشرقي.

     على الجهة الجنوبية والجنوبية-الغربية للقلعة وداخل الأسوار تقع أسواق المدينة القديمة يسميها الأرمن “السوق الداخلية” أو”المدينة الداخلية”. وهذه البقعة في المدينة هي الأهم من حيث التجارة وهي عبارة عن سوق مغطاة كبيرة تشبه سوق مدينة اسطنبول الكبيرة بجميع ميزاتها.  وهذه الأسواق الشرقية مشكلة من أزقة ضيقة مغطاة وعلى جانبيها دكاكين صغيرة. وقد غطيت الأزقة بطبقة سميكة من التراب للوقاية من الحرارة والبرودة الشديدتين. وهناك في بعض المواقع نوافذ فُتحت على الأقواس ترسل ضوءاً غير كاف. وفي هذه السوق التي تشكل منظومة هندسية غير منتظمة تتقاطع فيها الحارات الضيقة والواسعة نسبياً ومع ذلك فإنها السوق الأوسع والأكثر ارتياداً من قبل سكان المدينة والريف حيث أسواق الحذائين والحبال والخياطين والصباغين واللحامين والتوابل والخضار وغيرها. ومن الصروح الهامة في هذا القسم من المدينة الجوامع وكنيسة سابقة ومستشفى حكومي وميتم-مشغل. ومن المفيد أن نعلم أيضاً بأن هذا الحي المبني على طول السور الغربي القديم للمدينة تسكنه الطبقة العليا من السكان وخاصة التجار مقارنة بالأحياء الشرقية الأخرى حيث يقطن التجار أيضاً إلى جانب المحامين والأطباء. وجميع سكان هذه الأحياء هم من المسلمين عدا الخانات الموجودة حول كنيسة Terra Santa حيث تعيش منذ القديم بعض العائلات الأوروبية المسيحية الغنية كماركوبولي وبوخه وهم على الأغلب من التجار والقناصل الفخريين وتحولت دورهم إلى متاحف عبر السنوات الطويلة.

     على الجهة الشمالية والشمالية-الشرقية من القلعة وداخل الأسوار القديمة توجد أحياء المستاديمية والفرافرة وغيرهما ونجد في الحي الأخير بيوت باهرة على الطراز العربي تشبه القصور في جمالها. وبعيداً عن السور القديم شرقاً تقع أحياء جوز الكرمان وأغاجيك وقاضي عسكر وباتجاه الشمال والشرق نجد حي طاطارلار وقرلق والدلاّلين. وإلى الشمال والغرب من الثكنات التركية يوجد حي قسطل المشط وقسطل الحرامي والأغيول والألمجي وجميع سكانها من المسلمين ويسكنون في بيوت قليلة النوافذ المطلة على الشارع العام لذلك يدخلها الهواء وأشعة الشمس من الجهة الداخلية. ومن حسن الحظ أنه بُديء بفتح شوارع عريضة عديدة في الآونة الأخيرة وأولها شارع الخندق الطريق المستقيمة العريضة التي افتتحت رسمياً في عام 1916. ويبدأ هذا الشارع من الباب الأحمر بالقرب من سور المدينة القديم ويحيط بالقلعة ثم يمتد غرباً ويتقاطع معBoulvard de France (شارع بارون الحالي-المترجم) ويصل حتى محطة دمشق. وشارع السراي يوصل شارع الخندق بالطريق الضيقة المحيطة بالقلعة. ومن الصروح الهامة في هذه المنطقة السراي والمقر الرسمي للشرطة وسجن المدينة. وخارج سور المدينة القديم وعلى الجهة الشرقية منه نجد مقطع الطريق المحلّق Tour de Ville حيث أبنية المسلخ وسوق البقر. وفي هذا الموقع تفترق طريقا الباب ودير الزور الملكيين. ونظرة عامة على حلب ومخططها تكشف لنا كم كمية الهواء وأشعة الشمس قليلة في هذه الحارات لذلك فإن فتح طرق عريضة حاجة ملحة لتسهيل المرور والانتقال. وهذه الأحياء مسكونة بشكل عام من قبل المزارعين ومربي الأغنام والأبقار والعمال والتجار الصغار. وهناك بعض التجار المرموقين,الأمراء الحقيقيون للحي,الذين يعرفون كيف يستخدمون امتيازاتهم. وقد جرت مشادات عنيفة عديدة مؤلمة بين العائلات المتنافسة والحارات المعادية. وتحافظ هذه الأحياء على سماتها الشرقية كاملة دون التعرض لتغييرات التحديث.

      على الجهة الغربية لهذه الأحياء السابقة وداخل السور يقع الجامع الكبير وحارة العقبة وقسطل الحجارين وبحسيتا وبندرة اليهود التي مقارنة بالأحياء السابقة جرت عليها تحسينات كبيرة. وتحيط بالجامع الكبير الأسواق الواسعة وهي المركز التجاري الهام للمدينة. ومن جهة أخرى تتمركز في حي قسطل الحجارين المصارف وتجار الجواهر والصياغ والمنسوجات والسجاد وغيرهم. وقد افتتحت هنا حديثاً طريق هامة قرب خان الجفتليك انطلقت من باب الجنان حتى شارع السراي ومنه إلى باب السجن ويعتير شق هذه الطريق تطوراً هاماً من حيث تسهيل المرور والعناية بالصحة العامة بسبب الهواء النقي وأشعة الشمس الكافية.

      لحي العقبة بانوراما جميلة فقد شيد على تلة صغيرة ويطل على الطريق التي شُقت بمحاذاة سور المدينة القديم بدءاً من الكلاسة وحتى باب الجنان مارة بباب أنطاكية. وهذا الحي الذي كان مسكوناً قبل 30 عاماً من قبل الأغنياء الأرمن الحلبيين من المرجح بسبب هوائه النقي وطلته الجميلة يقطنها الآن مواطنون مسلمون معظمهم من التجار والموظفين. وعلى الرغم من شوارعه العريضة نسبياً إلا أن بيوته تحافظ على طرازها الشرقي.

      يمتد شارع الخندق على طول سور المدينة القديم ويصل حتى باب الفرج أو ساحة الساعة بسبب وجود برج الساعة. وتعتبر الساحة التي شيدت فيها المكتبة الوطنية الحكومية في عام 1940 نقطة التقاء بين المدينة القديمة والجديدة وتحوز على أهمية حيوية كبيرة في تسهيل حركة المواصلات. ويقع حي بحسيتا الذي يمتد حتى باب النصر على الطرف الشرقي من الساحة وهو حي يقطن فيه معظم  يهود حلب وفيه حوانيت عديدة والتجارة فيها نشيطة. لذلك يمكننا التأكيد بأنه كلما ابتعدنا غرباً عن القلعة كلما كانت الأحياء أكثر غنى وهامة من الناحية التجارية. وهناك بعض الأحياء ككرم الجبل وقسطل الحرامي حول ثكنة ما يسمى الأتراك يسكنها السكان المسلمون.

     لنصف الآن أحياء حلب الجديدة التي مرت بمرحلة تطور هامة بعد الحرب العالمية الأولى. الصليبة هي الحي المسيحي الأقدم وتقع على الطرف الشمالي من المدينة وتتمركز فيها كنائس جميع المسيحيين ومطرانياتهم كالأرمن والروم والموارنة والأرمن الكاثوليك والسريان. ويعتبر حي الصليبة من الأحياء الحلبية الشيقة بحاراتها الضيقة المقنطرة والبيوت العربية الباهرة التي تشبه القصور بجدرانها الخارجية العالية ونوافذها المشبكة بإحكام وجمال.  وعلى الرغم من وقوعه خارج أسوار المدينة إلا أن الحي بعيد في طرازه المعماري عن هندسة المدن الجديدة. وأحياء حلب الجديدة بهندستها المعمارية الحديثة مسكونة بالحلبيين من جميع الطوائف وخاصة بالمسيحيين. وقد شُيدت الأبنية هنا على الطراز الأوروبي وشُقت فيها شوارع عريضة انطلاقاً من معايير هندسة العمارة الأوروبية وتتطابق مع ارتفاع الأبنية التي شيدت على طرفيها. ويقع على الجهة الغربية من ساحة باب الفرج حي بستان كل آب الذي إلى جانب أبنيته العديدة والحديثة جداً هو مركز مهني وميكانيكي هام وموقع لمرائب السيارات ومتاجر لبيع جميع أنواع قطع تبديل السيارات. ويقع على الطرف الغربي من هذا الحي شارع غوروRue Gouraud (شارع بارون الحالي-المترجم) وهو من أكبر وأوسع شوارع حلب حيث المقاهي ودور السينما والفنادق الفخمة. ويعتبر هذا الشارع وBoulvard de France (شارع القوتلي الحالي-المترجم) امتداد شارع الخندق ومركز المدينة الرئيسي ويترك هذا المركز انطباع المدن الأوروبية ليلاً بسبب المقاهي ودور السينما العديدة وأضواء المتاجر الباهرة وحركة السير الكثيفة وخاصة في أيام الجمعة عندما يندفع الشبان المسلمون من أحياء حلب القديمة لدخول السينما أو التنزه في حدائق الجميلية. وقد تمت تغطية نهر قويق في هذه المنطقة وتحول سطحه إلى شارع عريض مشجّر يبدأ من بولوار ده فرانس وينتهي عند جسر الناعورة على الجهة المقابلة لمتحف حلب. وقد تغيرت معالم هذه المنطقة وتحولت إلى منطقة تجارية متطورة بفضل الأبنية ذات الخمسة طوابق والبيوت الحديثة البيضاء والمتاجر الواسعة في السنوات 4-5 الأخيرة.

     على الطرف الشمالي-الغربي للمدينة يقع شارع العزيزية الجديد العريض والمشجّر الذي يمتاز بأبنيته ذات 3-5 طوابق مبنية حسب الشروط الصحية والراحة. ويتقاطع الشارع مع Boulvard de France من جهة وشارع التلل من طرف آخر. وهذا الشارع الذي يمتد شرقاً حتى نهر قويق وشمالاً حتى محطة بغداد يحتوي على القنصليات الرئيسية وقصر ممثلية المفوضية العليا والحديقة العامة المرتبة جداً. وهنا تقع أيضاً المقابر القديمة للسكان المسيحيين واليهود التي أزيلت في عام 1926 وشيدت على قطعة من أرضها كاتدرائية اللاتين قبل ستة أعوام إلى جانب الدير. وسنتطرأ أيضاً إلى موضوع بناء الأحياء على ضفة نهر قويق اليمنى.

      على الجهة الشمالية من حي الصليبة المسيحي هناك حي الجديدة وفيه سوق نشيطة يؤمها سكان المدينة الحديثة صباح كل يوم لشراء حاجاتهم الغذائية.

      بعد وصف هذه الأحياء سنقدم الآن صورة مختصرة حول الأحياء الأرمنية التي تشكلت بعد عام 1922 في حلب التي يستمر توسعها (تفاصيل إنشاء هذه الأحياء في الجزء الأول حول أرمن حلب). ونكتفي بالقول بأن أعداداً كبيرة من أرمن الأناضول وكيليكيا الناجين حتى عام 1922 وصلوا إلى حلب براً وبحراً وتمتعوا بالحماية الثمينة للرايتين السورية والفرنسية وابتنوا لهم في الفترة الأولى أكواخاً من الخشب والصفيح في أحياء النيال والسليمانية والرام والجابرية وخاصة الميدان (القرية) ثم هُدمت وشيدت في الموقع ذاته أبنية حجرية من طابق واحد أو إثنين بعد مدة غير طويلة. وقد ساهم وصول 60. 000 مهاجراً أرمنياً إلى توسع المدينة بشكل لا يصدق بسبب حيويتهم ونشاطهم الكبيرين( كان عدد سكان حلب من جميع الطوائف 240,000 في ذلك الوقت-المترجم).

     على الطرف الشمالي من المدينة يقع أيضاً حي المستشفى العسكري وجامع الشيخ أبو بكر القديم على تلة منخفضة وغير بعيد عنه.

     للاستمرار في تبيان طبيعة توسع المدينة نعود إلى الضفة الغربية لنهر قويق. ويقع في هذه المنطقة شارعان كبيران:شارع الجميلية الحديث والبولفار ده فرانس حيث المدرسة السلطانية وليسيه اللاييك الفرنسية. وعلى الطرف الجنوبي من شارع الجميلية أو كامل باشا القدسي هناك حي الكتّاب المسيحي والمشارقة الإسلامي وبذلك ينتهي البولفار ده فرانس عند محطة دمشق. ويمتد شارع الجميلية على الطريق الملكية التي توصل أنطاكية بدمشق. وقد شيدت على طرفي هذا الشارع بيوت حديثة وجميلة عديدة مشكلة استراحة صيفية لحي تل الفيض حيث يسكن المواطنون المسلمون. ونجد قرب سفح هذا التل معمل لحلج القطن والصوف ومستودعات محروقات المحافظة الخاصة كذلك معامل ممكننة للمنسوجات. ومن هنا تتفرع طريق الأنصاري التي تتجه جنوباً نسبة للتل حيث شيدت فيلات جميلة وحديثة من قبل السكان المسلمين بسبب هواء المنطقة النقي واتخاذها سكناً دائماً لهم. وتتفرع طريق مشجرة وعريضة على يمين الطريق الملكية المؤدية إلى أنطاكية غير البعيدة عن الخط الحديدي وتشكل القسم الغربي من الطريق الدائري وتحاذي التلال الصخرية الموجودة على الطرف الغربي من المدينة وتمتاز بموقعها العام الباهر الجميل وهوائها النظيف وخاصة في فصل الصيف لذلك فهي مكان مناسب للتنزه. وبسبب جمال الموقع ومناخه الصحي بُديء ببناء المدرسة الأمريكية(معهد حلب العلمي-المترجم) وبعض المنازل على تلاله الجنوبية. وتقع ثكنات العتاد والهندسة العسكرية وساحة التدريب العسكرية الجديدة وبعض الفيلات على الطريق المحلّق وخاصة على أراضي عائلة هلال الخاصة التي بيعت على شكل قطع.

      على الطرف الشمالي لحي الجميلية وبين الخط الحديدي وحي العزيزية وبعيداً عن Boulvard de France تقرر تشييد حديقة باهرة على قطعة أرض واسعة غير أهلة تعود للأوقاف الإسلامية ويمر عبرها نهر قويق بعد إنهاء أعمال التنظيف والترتيب على ضفتي النهر. وبفضل هذه الحديقة سيتغير مظهر تلك البقعة من المدينة بشكل ملحوظ وستزول المياه الآسنة فيها ويصبح المكان صحياً.

      شُقَّ شارع في المدة الأخيرة على الجهة الشمالية من بولفار ده فرانس وقرب الخط الحديدي ومستودعات شركة الكهرباء والحافلات يمتد حتى حديقة السبيل على الطرف المقابل للخط الحديدي ثم شيدت على طرفيه فيلات وأبنية كبيرة وبدأت المدينة تتوسع في هذا الاتجاه أيضاً. وقد شق شارع السبيل بين تلين وتمر الرياح الشمالية-الغربية من خلال هاتين الكتلتين الصخريتين وترطّب المناح كثيراً وخاصة في فصل الصيف.

      يقع شارع محطة بغداد(باسم محطة القطار)على الجهة الشمالية من المدينة بين نهر قويق والخط الحديدي. ومحطة القطار بناء كبير وواسع وتقع حوله منشآت الخط الحديدي الهامة. وقد شيدت أبنية عصرية على هذا الشارع العريض المشجّر والفروع التي تنطلق منه.

    على الجهة المقابلة للخط الحديدي وإلى يمين طريق السبيل تقع مدرسة Freres Maristes الهامة وثكنة قوات الصباهيين المراكشيين(في حيّيي  VincqوMussy) واسطبلات خيولهم.  وغير بعيد عن هذه المنطقة وعلى تلة صخرية أنشئت قرية للمهجرين السريان الذين نزحوا إلى حلب مع المهاجرين الأرمن من كيليكيا وخربوط وماردين وفضلوا السكن في هذا الحي كمكان آمن. وتسكن إلى جانبهم 60 عائلة أرمنية أيضاً حول الكنيسة-المدرسة المكرسة للقديس يعقوب. وإلى الشمال من هذه المنطقة وعلى تلة صخرية أوسع شُيد حي الداودية الأرمني(حي الأشرفية الحالي-المترجم) الذي تكلمنا عنه سابقاً.

يمتد الخط الحديدي شمالاً. وفي هذا الموقع من المدينة تقع مستودعات القطارات وورشاتها. وبعد هذه المنطقة بمسافة قليلة توجد تسع مقابر مسورة خاصة بالطوائف المسيحية المختلفة والمقبرة الفرنسية الواسعة على الجهة الشرقية منها.
وعلى الطرف الشرقي من هذه المقابر شُيدت في المدة الأخيرة أحياء أرمنية جديدة: الشيخ مقصود وبستان الباشا وكيرمانيك الجديد أو هلّك داغ. ويتصل الشارع الدائري للمدينة بالمقابر المسيحية ويصل إلى حي الميدان عبر جسر الصيرفي الذي بني على نهر قويق في عام 1937.

    هذه هي أحياء حلب في مجملها حارة بعد حارة وهذه هي طبيعة المدينة. وقد شيدت جميع مناطق المدينة الغربية والشمالية بعد الحرب العالمية الأولى 1914-1918 مما يؤكد على توسع كبير وهام تعرضت له المدينة خلال 30 سنة الماضية.

Charles Godard (Alep. Essai de Geographie Urbaine et d’Economie Politique et Sociale) Alep-1938, p. 1-23

      يذكر قنصل حلب الفرنسي Chevalier Laurent d’Arvieux في ثمانينيات القرن 17 في مذكراته جميع أحياء حلب باسمائها وحاراتها مفصلاً قائلاً:((يحتوي حي أسد الله على 290 باباً أو بيتاً بينها المساجد والقصور والخانات(وهذه الأخيرة كانت تستخدم نزلاً للأجانب السابقين) والقيصريات وهي بيوت من نوع آخر للأجانب أو للعرب والبدو الذين يسكنون في المدينة وهناك الحمامات العامة والأفران والطواحين والأسواق وذلك على الشكل التالي:العقبة 162 بيتاً والجلوم الكبرى  542ً والجلوم الصغرى 167 وباب قنسرين 168 وقلعة الشريف 190 وساحة بزة 421 والقصيلة 244 وباب المقام 231. وألتون بوغا 167 والبياضة 161 والبندرة 186 والدباغةالعتيقة 133 141 وحارة المصابن  162 وبحسيتا 477 وزقاق الحجارين 155 وغيرها.

ويستطرد دارفيو قائلاً بأن حيين من أصل هذه الأحياء ال 24 أُلحقت إلى المدينة كونها قريبة منها. وهذا القنصل الذي كان مهتماً بالمدينة وشعبها ونظامها الحكومي طوال سنوات بقائه فيها يقدم معلومات مفيدة ووثائقية حول 40 أو 50 ضاحية من ضواحي حلب التي منذ سنوات تشكل قسماً من المدينة بينما كانت ضواحي منفصلة قبل قرنين من تاريخنا:((المغاير 133 بيتاً والأعشار 145 والخشاشة 166 والدودو 145 وجيوب كرمان 201 والبلاّط 166 والأبرك 194 وطاطارلار 147 وهاينتسه بك 174 والهرلك 223 والمشاطية 225 ودبلان 167 والقازنجي 133 وحارة الجديدة 222 وقسطل عرب 224 وتشاكر محلليسي 116 وحارة شيخ الحياك 192 وحارة ابن عيد 122 والسرّاين 125 وحارة التركمان 98 وحارة الفرن 154 وحارة الشيخ راضي 134 وحارة الشيخ يبرق 116 وأغيول 214 وحارة ابن المرعشلي 220 وزقاق يعقوب 211 وقسطل حرامي 242 وحارة البساتنة 214 وحارة الألمجي 161 وحارة شرعسوس 139 وخان السبيل 117 وحارة الحكاك 100 وحارة باب النصر 279 والجديدة 410 وزقاق الأربعين وحارة الكنيسة وجميعها 339 والقناص 191 وقسطل زيربان 195 وزقاق الشمائين 198 وكفر الزلاحف 159 وكلاسة 523 وحارة أوغلان بك محمود 212 وباب النيرب 208 والصوغانجي  وغيرها 275).

       بناء على دراسات دارفيو في عام 1680 كان عدد الأبنية العامة 777 والخاصة 13,360 والعدد الإجمالي 14,137. وحسب هذه الإحصائية أيضاً كان هناك 272 جامعاً كبيراً وصغيراً و 5 كنائس مسيحية وكنيس يهودي واحد و35 دائرة حكومية و68 خاناً و187 قيسرية و67 حماماً عاماً و 36 فرناً و 37 مطحنة تدار بقوة البغال وصومعتين للدراويش و 8 مدارس ابتدائية وثانوية وسجن واحد و 8 مسالخ و 4 مصانع صابون و 6 مصابغ.

Chevalier d’Arvieux (Memoires) Paris-1734, IV,p. 440

*ينفرد “ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر صفحات كتاب “تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان.

* من كتاب “تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان، مطران الأرمن الأسبق في حلب، (1925 ـ 1940)، ترجمه عن الأرمنية الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب وجمعية العاديات، حلب، 2006.

Share This