الإبادة الأرمنية: أكبر “قنبلة هيروشيمية” صامتة

Saleh ZahradDin

د. صالح زهر الدين*

في الرابع والعشرين من نيسان هذا العام 2015، تبلغ جريمة الإبادة الأرمنية على يد الطورانيين الاتحاديين عمرها المائة…إنها “مئوية الإفناء” المنظّم والممنهج على يد قادة “جمعية الاتحاد والترقي”، حيث سقط من جرائها أكثر من مليون ونصف مليون أرمني، فضلاً عن مئات الآلاف من المهجّرين والمشرّدين والمختفين، فاستقبلهم العرب بالترحاب، لأن وحده الأصيل يقبل الأصيل.

أمام هذا الواقع، فقد ذهب البعض إلى وصف هذه المجازر الإبادية بحق الشعب الأرمني بأنها “هيروشيما الأرمن”، لكننا نحن نقول بأن هذه “الهيروشيما الأرمنية” صحيحة من ناحية التشبيه المجازي، أما في الحقيقة، فإن هناك فروقات هائلة بين “هيروشيما اليابان” ومجازر الإبادة الأرمنية، نستطيع إيجازها بما يلي:

أولاً: إن “جريمة هيروشيما” في السادس من آب 1945، نجمت عن إلقاء الولايات المتحدة الأمريكية “القنبلة الذرّية” الأولى على اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية، نتج عنها سقوط حوالي مائة ألف قتيل ياباني. وكانت “القنبلة الذرّية” الثانية في التاسع من آب 1945 (بعد ثلاثة أيام من قنبلة هيروشيما) على مدينة “ناغازاكي” اليابانية، سقط من جرائها حوالي ثلاثون ألف قتيل.

ثانياً: إن جريمة الإبادة الأرمنية على يد الاتحاديين الطورانيين العثمانيين بدءاً من 24 نيسان 1915، كانت بمثابة “القنبلة الديموغرافية الإفنائية” الأولى على يد بني عثمان في القرن العشرين، وقبل ثلاثين عاماً من “القنبلة الذرّية” الأميركية، ذهب ضحيتها أكثر من مليون ونصف مليون أرمني. باعتبار أنه عند الانهيار الكبير تنهار الركائز الكبرى وتغيب: العقل والمعرفة والقانون. وهذا ما فقده العثمانيون الطورانيون عند ارتكابهم للمجازر الأرمنية.

ثالثاً: إذا كانت “القنبلة الذرّية” الأمريكية أول جريمة ذرّية في القرن العشرين، فإن “القنبلة الإفنائية الديموغرافية” العثمانية هي أول وأكبر قنبلة إبادة منظّمة في القرن العشرين ذاته أيضاً، ولكن بكاتم صوت هو أحدث من كل كواتم الصوت المعروفة في عصرنا الحالي.

رابعاً: إن حجم مجازر الإبادة الأرمنية يعادل 15 مرة حجم جريمة هيروشيما الذرّية، من حيث عدد القتلى. وما يوازي 12 مرة حجم جريمة هيروشيما وناغازاكي معاً.

خامساً: إن “القنبلة الذرّية” الأمريكية عام 1945 طالت مدينة هيروشيما في البدء، ثم مدينة ناغازاكي. بينما “القنبلة الديموغرافية الإفنائية” العثمانية عام 1915، طالت مدناً ومقاطعات وولايات أرمنية بكاملها، تعادل أضعاف أضعاف مساحة ناغازاكي وهيروشيما.

 سادساً: إن عمر “القنبلة الذرّية” الأمريكية على هيروشيما عام 2015 يبلغ 70 سنة، بينما  عمر “القنبلة الديموغرافية الإفنائية” العثمانية يبلغ مائة عام في هذا التاريخ.

سابعاً: إن “القنبلة الذرّية” الأمريكية حصرت مفاعيلها الكارثية في هيروشيما وناغازاكي وحدهما، بينما “القنبلة الديموغرافية الإفنائية” العثمانية تجاوزت في مفاعيلها ونتائجها الكوارثية مدن الأرمن وقراهم في أرمينيا الغربية التي سيطرت عليها تركيا – ولا تزال – وقد وصلت مآسيها وفظائعها إلى صحارى سورية ومياه البوسفور والفرات، وبحار وأنهار أخرى. ولا تزال المآسي مستمرة.

ثامناً: إن مسؤولية “القنبلة الذرّية” واستخداماتها لأول مرة في التاريخ، تقع على عاتق الولايات المتحدة الأميركية، بينما مسؤولية “القنبلة الديموغرافية الإفنائية” العثمانية تجاوزت السلطنة العثمانية والطورانيين الاتحاديين إلى مسؤولية دولية مشتركة تمثلت بتواطؤ مباشر من دول أوروبية (كألمانيا مثلاً)، أو بصمتٍ ولا مبالاة من دول أخرى أوروبية كانت أم أمريكية، وإما بموقف المتفرّج من آخرين. وهنا تكبر الجريمة كما تكبر بالتالي المسؤولية إزائها.

تاسعاً: في الوقت الذي بلغ فيه عمر الإبادة الأرمنية مائة سنة، فإن تركيا -الدولة والنظام والحكومات المتعاقبة- لا تزال حتى اليوم تنكر حصول هذه المجزرة الإبادية وترفض الاعتراف بها، نظراً لما يترتب عليها من تبعات وتعويضات، بينما تعترف الولايات المتحدة الأمريكية بجريمتها الذرّية، وأنها الدولة الأولى في العالم التي استخدمت السلاح الذرّي في الحرب العالمية الثانية ضدّ اليابان، فأجبرتها على الإستسلام عام 1945. وتكفيراً عن ذنبها، فإنها ترسل في كل عام وفداً أمريكياً رفيع المستوى إلى هيروشيما في ذكرى نكبتها كدليل على الاعتراف بالجريمة والاعتذار عنها، بحجّة أنها “الحرب” التي لا تقيم وزناً للأعراف والقوانين الدولية، لا سيما بين الدول بعضها مع بعض، فكيف بالأحرى بين دول وأقليات قومية من نسيجها الوطني والاجتماعي؟.

عاشراً: رغم هول الكارثة اليابانية في هيروشيما وناغازاكي، فإن كارثة الإبادة الأرمنية تبدو أكثر هولاً وإجراماً. لكن حجم الإدانة لم يكن متساوياً بين الكارثتين. إذ أن الإدانة العالمية للولايات المتحدة وقنبلتها الذرّية كان أكبر بكثير من إدانة الطورانيين وجريمتهم الإبادية. إضافة إلى حجم “الطّمس” الذي تعرضت له المجازر الأرمنية بفضل السياسة الدولية المتواطئة أو الصامتة أو المتفرّجة، حيث مرّت عشرات السنين دون أن تظهر الجريمة الإبادية ضد الأرمن إلى العلن، في الوقت الذي لاقت فيه “القنبلة الذرّية” استنكاراً دولياً هائلاً – ولا يزال – على مختلف الصعد والمستويات، ومنذ اللحظة الأولى التي لامست فيها أرض هيروشيما وسكانها.

ومن الطبيعي، ونحن على مشارف “المئوية” من عمر القضية الأرمنية التي كانت “طابة أطفال”، أو “كرة قدم” أو “كرة باسكيت” في أيامها الأولى، فهي اليوم، مرجّحة إلى أن تصبح بحجم “الكرة الأرضية” كلها، وذلك بفضل نضالات وتضحيات أبنائها أولا، ومناصرة الشعوب لها ثانياً، إضافة إلى وقوف معظم برلمانات العالم ومجالس شيوخها وحكوماتها إلى جانبها من ناحية ثالثة. ولن يموت حق وراءه مطالب. فكيف إذا كان هذا المُطالب بهذا الحق، كالشعب الأرمني الذي لا تزيده العواصف والأعاصير والزلازل الدموية، إلا تصميماً على التشّبث بحقه لإحقاقه، مهما بلغت المصاعب والعقبات والتضحيات.

حادي عشر: إن الفارق الأهم بين القنبلتين الذرّية والديموغرافية الإفنائية، (الأمريكية والعثمانية) هو أن قنبلة الأمريكيين الذرّية أفنت الهيروشيميين في مدينتهم وأرضهم، بينما القنبلة الإفنائية العثمانية لم تكتف بقتل الأرمن وإفنائهم في أرضهم التاريخية، بل دفعت الناجين إلى الهجرة والتهجير والتشتيت والمنفى، لقناعتهم أن الهجرة والتهجير هي إحدى طرق الإعدام والإبادة، وأن طريق المنفى هي أيضاً طريق إبادة. والإبادة تصبح ممكنة عندما تترادف مع إبادة الأرض، وأن الهجرة تحمل بذور إبادة الأرض. وهكذا كان.

ثاني عشر: إن فارق الثلاثين سنة بين “القنبلة العثمانية” الإفنائية للأرمن، و”القنبلة الأمريكية” الإفنائية للهيروشيميين، ليس بهذا الفارق الزمني الهائل، حيث ينتميان معاً إلى القرن العشرين نفسه، وتحديداً إلى النصف الأول منه. لكن قاسماً مشتركاً واحداً يجمع “أرباب القنبلتين” ويوحّدهما في “إمتياز الإجرام الإفنائي”، وهو أنهم عاشوا في عالم – هو عالمهم – افترسه السياسيون والعسكريون معاً، والذين تعوزهم “حاسة التاريخ” أي “الضمير”، حيث لا يهمّهم على الإطلاق تحت أي عنوان وفي أية صفحة يدخلون التاريخ.

ثالث عشر: إنطلاقاً من مقولة أحد أضلع المثلث الاتحادي الطوراني (أو الثالوث) وهو جمال باشا السفاح، المعروفة: “سأفني الأرمن بالحديد والنار، وسأفني العرب بالتجويع”، نرى أن هذا القرار “الإفنائي” وكأنه ثأر من شعبين عريقين حضارياً في التاريخ، تجمعهما صداقة تاريخية ومستقبلية، إضافة إلى “الإنتقام” من العرب الذين اخترعوا “الرقم الصفر” وقبلوا علم الحساب، دون أن يدركوا أن الطورانيين الاتحاديين (الفاقدي الحضارة والمعادين لأية حضارة) سوف يحوّلون “مخترعي الصفر” وأصدقاءهم إلى أصفار: الموتى، والجياع، والمهجّرين، والمنفيّين، والسجناء، والمستعبدين. لا سيما في عصر اسمه “عصر الانهيار الكبير” للقيم والأعراف والتقاليد والأخلاق والعقل والضمير والقلب، النابضة جميعها بالمعرفة والعلم. في ظل طغاة لا يتلذذون فقط إلا باختراع فنون جديدة وابتكارات جديدة في “علم الإجرام” وسفك الدماء والتنكيل.

رابع عشر: إن الطيار الأمريكي الذي كانت تحمل طائرته “الولد الصغير”، (القنبلة الذرّية) ولم يكن على علم بهذا السلاح الذرّي الذي ألقى به على هيروشيما حاصداً مائة ألف قتيل وآلاف المشوّهين، لكنه أصيب “بالجنون” بعد علمه بما فعل، محمّلاً نفسه المسؤولية الكبرى، مع أنه كان ينفذ أمراً من القيادة السياسية والعسكرية الأمريكية. بينما أن مهندس “مشروع الإبادة الأرمنية” طلعت باشا (وزير الداخلية الطوراني الاتحادي) كان مع قادة آخرين يخطّط، وينفّذ عن سابق تصوّر وتصميم، دون أن يرفّ له جفن، أو أن يتعرّض لتأنيب ضمير. وفوق كل ذلك، فقد كان يدوّن “مذكراته” التي يعرض فيها بالأرقام والوقائع، فتوضح سياسة حكومته وجمعيته (جمعية الاتحاد والترقي). وقد صدرت هذه المذكرات بالفعل عام 2005، تحت عنوان “الكتاب الأسود لطلعت باشا” – أي بعد 90 عاماً على ذكرى الإبادة الأرمنية – (باللغة التركية في اسطنبول). ولأننا ننظر إلى هذه المسألة بـ “عين الوثيقة” وليس بـ”عين السياسة”، نستطيع أن نتساءل: فماذا عن هذه المذكرات؟ وكيفية نشرها؟

مهما يكن من أمر، تبقى وثائق ومذكرات طلعت باشا (الذي كانت له اليد الطولى في هذه المجازر) بمثابة الضربة المؤلمة على رأس الأتراك وحكوماتهم المتعاقبة لأنها تثبت حقيقة المجازر بحق الأرمن من جهة، كما تفضح المزاعم العثمانية والتركية منذ وقوع المذبحة حتى اليوم من جهة ثانية.

والجدير بالذكر، أن مذكرات طلعت باشا – مهندس المجازر والترحيل – والتي ظهرت ما بين عامي 2005 و 2008، تعدّ أول وثيقة اعتراف رسمي عثماني وتركي بالمجازر الأرمنية، وأول “إثبات دامغ” يعترف به صاحبه بخط يده حول “الحقيقة” من منبعها ومصدرها الأصلي، باللغة التركية أولاً، ونشر بعضها في جريدة تركية ثانياً، ثم في كتاب مستقل ثالثاً داخل تركيا، وليس خارجها. وهنا تكمن الأهمية البالغة لهذه المذكرات رغم الإنكار التركي المتمادي حول هذا الموضوع، وحقيقته البالغة الخطورة باعتراف صاحبها.

هذا، ومن الغرابة أنه بعد حوالي تسعين عاماً على المجازر، لم يكن قد ظهر بعد أيّ دليل أو أي اعتراف رسمي تركي على جريمة بهذا الحجم، ذهب ضحيتها أكثر من مليون ونصف مليون أرمني، عدا عن المنفيين والجرحى والمفقودين. إلا أنه في عام 2005 نشرت جريدة “حرييت” التركية أجزاء من مذكرات طلعت باشا، المهندس الحقيقي لترحيلات الأرمن ونفيهم. ثم بعد سنوات ثلاث (أي عام 2008) نشر المؤرّخ التركي مراد بارداكتشي مذكرات طلعت باشا في كتاب عنوانه “الوثائق الباقية لطلعت باشا”. وفي هذا الكتاب توثيق دقيق لحملة الإبادة الأرمنية في عامي 1915-1917، كما أطلق عليه أيضاً اسم “الكتاب الأسود لطلعت باشا”. وهو بالفعل، كتاب بخط اليد، من مذكرات أبرز قادة جمعية الاتحاد والترقي، ووزير الداخلية العثماني في عام 1915 (طلعت باشا). كما يعتبر أهم وثيقة لم يكشف عنها أبداً، تصف تدمير الأرمن في الإمبراطورية العثمانية بين عامي 1915و 1917، ويعترف رسمياً بالمجازر. إن هذا الكتاب يجيب إجابة شافية على الكثير من التساؤلات الخاصة بالسجلات العثمانية. كما يتضمن قسماً أساسياً حول ترحيلات الأرمن في الفترة المذكورة أعلاه. مع العلم أن “الكتاب الأسود” هذا لم يكشف عنه أبداً أثناء حياة طلعت، أو ضمن مذكراته التي نشرت بعد وفاته مغتالاً في عام 1921. وقد احتفظت أرملته “خيرية” بهذا الكتاب ثم أعطته للمؤرخ مراد بارداكتشي سنة 1982، وقد قال: “لم يكن من الممكن أبداً أن أنشر هذا الكتاب من عشر سنوات. ولو فعلت لكنت قد نوديت بالخائن. واليوم تغيّرت العقلية”. هذا، ووفقاً لهذه الوثائق، كان يعيش في الإمبراطورية العثمانية 1.256.000 من الأرمن قبل عام 1915، وهبط الرقم إلى 284.157 بعد عامين. كما أن الإحصاءات الخاصة بالقضاء على الأرمن في “الكتاب الأسود” مقسّمة إلى أربع فئات تغطي 29 منطقة (ولايات وسناجق) من الإمبراطورية العثمانية: 1-السكان الأرمن في كل منطقة في عام 1914، 2-الأرمن الذين لم يتم ترحيلهم (المفترض في عامي 1915 – 1916)، 3-الأرمن الذين تم ترحيلهم ويعيشون في أماكن أخرى (1917) ، 4-الأرمن الذين هم أصلاً من خارج الإقليم الذي يعيشون فيه (1917).

ومما يجدر ذكره هنا، أن الأرقام الموجودة في كتاب طلعت باشا لا تقدّر بثمن، حيث تجيب على كثير من الأسئلة الأساسية حول المجازر، مع العلم أن إثنين من هذه الأسئلة يختصّان بطبيعة الترحيلات الفعلية لعام 1915، والمصير المحدد لهؤلاء المرّحلين وهم يُدفعون إلى صحراء دير الزور، إحدى المناطق الرئيسية المحددة لإعادة التوطين. كما تتناقض معلومات طلعت باشا مع الفرضية التركية الرسمية بأن الترحيلات كانت عملية منظّمة تحكمها القوانين والنظم العثمانية، أو أن المرحّلين تم توطينهم بنجاح فعلاً في دير الزور. ومن المثير للإهتمام أن “الكتاب الأسود” هذا يبيّن أيضاً أن عدد الأرمن في الإمبراطورية العثمانية كان أعلى كثيراً مما تفترضه الأرقام الرسمية.

تؤكد أعداد طلعت باشا أن معظم الأرمن العثمانيين خارج القسطنطينية قد تمّ ترحيلهم بالفعل، وأن معظم هؤلاء المرّحلين قد اختفوا بحلول عام 1917. وفي المتوسط، تم ترحيل 90 بالمئة من الأرمن المقيمين في الأقاليم، و90 بالمئة من هؤلاء المرّحلين قُتلوا. وعدد الناس الذين فُقدوا كان أكثر من 95 بالمئة بالنسبة لمقاطعات مثل طرابزون وأرضروم والرها ودياربكر ومعمورة العزيز وسيفاس.

وهذه الأرقام تبيّن بوضوح أن الترحيلات كانت ترقى إلى حكم الإعدام، حيث أن المرحّلين إلى منطقة دير الزور مثلاً قد مات معظمهم. وفي الوقت الذي تذكر فيه بعض السجلات ترحيل حوالي 400 ألف أرمنياً إلى هذه المنطقة، تظهر سجلات طلعت باشا وجود 6.778 من الأرمن في هذه المنطقة عام 1916. ومما لا شك فيه، أن وجود هذه المعلومات في كتاب مهندس الترحيلات الأرمنية – طلعت باشا – يثير مرة أخرى قضية هامة جداً تتعلق بالحشد الكبير من الوثائق الأرشيفية التي كانت تدعم هذه البيانات (بعد أن بقي الأرشيف العثماني والتركي أكثر من سبعين عاماً بعيداً عن أعين الباحثين وممنوعاً عليهم الإطلاع على محتويات وثائقه وأسراره).

كما يبين من جهة أخرى، تلك التفاصيل الواقعية عن عملية القضاء على الأرمن بين عامي 1915 و1917. ومن جهة ثالثة، يفضح زيف التوكيد الرسمي التركي بأن الترحيلات كانت عملية منظمة لنقل وإعادة توطين الناس وفق القوانين والنظم العثمانية. وباختصار، تؤكد وثائق طلعت باشا هذه اختفاء 972 ألف من الأرمن العثمانيين من سجلات السكان الرسمية في الفترة من 1915 إلى أواخر 1916.

ومهما يكن أمر “الصمت التركي” إزاء نشر هذه الوثائق، إلا أن بعض المراقبين قالوا إن هذا الصمت كان علامة على أن الموضوع لا يزال من الموضوعات المحرّمة. وهذا ما أكده الأكاديمي التركي مراد بيلجيه، في مقال بالصحيفة اليومية “طرف” الليبرالية (في كانون الثاني 2009) قائلاً إن “أهمية الكتاب واضحة من حقيقة أنه لم تكتب أية جريدة سطراً واحداً عنه عدا ملييت”. أما المؤرخ والخبير في الإبادة الجنسية للأرمن هيلمار كايزر، قال إن “السجلات التي نشرت في الكتاب كانت دليلاً دامغاً من السلطة العثمانية نفسها على أنها قد سعت إلى سياسة محسوبة للتخلّص من الأرمن. إذ فجأة تجد على صفحة واحدة توكيداً للأرقام، وكأنك تلقيت ضربة بهراوة على رأسك”. وقال كايزر: إن الأرقام القبلية والبعديّة تعتبر “سجلاً بالموتى”، ثم أضاف: “ليس ثمة سبيل آخر للنظر إلى هذه الوثيقة، فلا يمكنك إخفاء مليون إنسان بكل بساطة”. أما دونالد بولكزام، مؤلف كتاب: “اللعبة الكبرى لإبادة الجنس: الامبرالية، والقومية والقضاء على الأرمن العثمانيين”، قال: “هذا ما يثبت ما كنا نعرفه بالفعل”.

على هذا الأساس، لا يسعنا إلا أن نشكر جرأة مراد بارداكتشي الكاتب المولع بالتاريخ، والخبير في قراءة وكتابة النصوص العثمانية، والملاحة في ماضي تركيا المكتوب. مع العلم أن والده كان عضواً في نفس الحزب السياسي لطلعت باشا، كما عرفت عائلته العديد من الشخصيات السياسية المهمة في تأسيس تركيا. ومن خلال هذا العمل، أثبت بارداكتشي شجاعة فائقة في تسليط الضوء على كنز وثائقي لا يقدّر بثمن، وكشف من جهة أخرى مساوئ الحملة العدائية الرسمية للنسيان، حيث أغلقت تركيا على أقبح جزء من ماضيها بعيداً عن العيون، ومنعت أي ذكر للأحداث في كتب المدارس والروايات الرسمية. وقد استطاع مراد بارداكتشي فعلاً أن ينفض غبار السنين وأوحالها عن حقيقة المجازر التي غطيت بعباءة فقدان الذاكرة هذا الكم من السنوات. ومؤكداً أيضاً أن التنصّل من جريمة المجازر هذه، ورفض الاعتراف بحقيقة وجودها، لا يقللّ من الحقيقة، لأن الحقيقة في النهاية كالجوهرة، تحتفظ بقيمتها وأهميتها مهما يعتريها من غبار الزمن وأوحال السنين. يضاف إلى ذلك، كمّ هائل من الوثائق والبرقيات التي بعث بها طلعت باشا إلى بعض ولاته في الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، بشأن مسألة الترحيل والنفي للأرمن العثمانيين. وهذا ما تضمنته الكثير من المراجع والمصادر الخاصة بالقناصل والسفراء الأجانب، كما بكتابات بعض الموظفين من العرب والأتراك، الذين شغلوا مناصب حسّاسة، وكان معظمهم شاهد عيان على هذه القضية.

وتأتي وثائق “الكتاب الأسود” لطلعت باشا اليوم كدليل موثوق آخر على حجم الكارثة المأساوية ضد الأرمن في ظل النكران المستمر “وعدم الاعتراف” الرسمي بها -تركيا- حتى أيامنا هذه، بالرغم من مبادرات التقارب رسمياً بين أرمينيا وتركيا مؤخراً، كللت بزيارات متبادلة من الجانبين، بعد خطوات جريئة من بعض الجماعات المثقّفة في تركيا، عبّر عنها بيان يحمل اعتذاراً عن إنكار المذابح، وقّع عليه حوالي 29 ألف شخص في شهر كانون الأول 2008.

ويبقى أخيراً أن نقول في ذكرى “مئوية الإبادة الأرمنية” أن هذه القضية دخلت التاريخ وخرجت من الجغرافيا. وليس هناك من قوة في الكون قادرة على إخراجها من التاريخ وإعادتها إلى شرنقتها الجغرافية، لتدفن نفسها فيها كدودة الحرير، لأن الشعب الأرمني خلق ليحيا لا ليموت، باعتباره خلّاقاً وخلوقاً بامتياز… والموت لا يليق به… ولكن مع كل هذا، فالإنسان يغادر الوطن، لكن الوطن لا يغادر إنسانه… فكيف إذا كان هذا الإنسان “أرمنياً” يحمل وطنه في قلبه وعقله ووجدانه وجوارحه تماماً كما يحمل اسمه، أينما كان وأينما رحل؟… وكما يحمل أيضاً “ذاكرته” التي تختصر الزمان، وتخترق الجغرافيا، لتبقى مع التاريخ توأمين، علّها تستفيق “الذاكرة التركية” في ذكرى “مئوية الإبادة” هذه، وتتذكر تلك المأساة -الفاجعة- فيستفيق إثرها الضمير، معلناً الاعتراف بها، كمقدمة ضرورية لمحو عداوات وأحقاد، وفتح صفحة جديدة من المحبة والتعاون والتفاهم، لما فيه خير الشعوب والإنسانية بأجمعها…

أخيراً نستطيع القول، أن الأمة العربية أنقذت الأمة الأرمنية من “الإنقراض”، تماماً كما أنقذتها من “الذوبان”، ولم تكن عملية إحياء مئوية الإبادة هذه إلا الحصيلة الطبيعية لهذا الإنقاذ… وإلا كانت الأمة الأرمنية قد شهدت “هيروشيمات” عدّة، صامتة، أو “بكواتم صوت” مختلفة، وفي قرن واحد هو القرن العشرون. يستحيل بعدها إحياء أية ذكرى إبادية، مئوية كانت أم غير مئوية..

ومن صميم القلب والعقل والوجدان، نخاطب الرئيس رجب طيّب أردوغان (الذي غيّر ذكرى معركة غاليبولي من 18 آذار، كي يحتفل بها في 24 نيسان)، قائلين: إن مال العالم لا يمكن أن يشتري لكم تاريخاً مغايراً… كما أن كل مساحيق العالم لا تقدر أن تبيّض لكم تاريخكم الأسود، الذي يخجل سواد الليل والفحم من سواده… لأنه الصفحة الأكثر سواداً في تاريخ الإنسانية جمعاء…

*باحث ومؤرخ لبناني، له عدد من المؤلفات في التاريخ والسياسة والاستراتيجيا، أستاذ في الجامعة اللبنانية، وفي كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان في الجيش اللبناني، له عدد من المؤلفات عن الإبادة الأرمنية.

(مقالة صدرت في العدد الخاص الذي أصدره ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية في 24 نيسان 2015 بمناسبة الذكرى المئوية للابادة الأرمنية)

Share This