قاعة كولبنكيان في المتحف الوطني للفن الحديث في العراق .. ترفع سارية الفن بعد طول غياب

logo
غادرها منذ سنين، وحملها في الغربة متاعا ومتعة من الذكريات التي حفظتها الذاكرة وغازلتها الضلوع كأنيس دائم، شغفه بالسفر وسحر المكان الذي يزوره لم يمنع القلب من الالتفات في كل يوم الى مرتع صباه، ونطق محبته الأول، خطواته المتلعثمة في الشوارع البعيدة لم تمنعه من أن يردد بصوت الحنين «واثق الخطوة يمشي ملكا» وهو يسترجع صورة خطواته في شوارع شاغلة القلب، عاد إليها «أحمد» المولع بالفن وفي حقيبة البال رزم من المشاريع التي تبحث عما تبقى من غزواته الأولى على طرق فاتنته بغداد، وكان أقسى ما يخشاه أن تكون ألوان لوحة ذكرياته قد غيرتها الأحداث ونهبتها مستجدات الحاضر بما تحمل من متغيرات، بعد يومين من وصوله توجه صوب (باب الشرقي) مارد بغداد الازلي بسحره بكنوزه، بشوارعه بمناطقه بشواخصه كانت الخطوة الأولى عند ساحة الطيران.

أحمد المولع بالفن كما أسلفنا تسارعت خطاه باتجاه جدارية فائق حسن «ثورة تموز» المنتصبة وسط الساحة وكأنها سارد يروي للأجيال حكايات الثورة ومفرداتها، وعلى الرغم من كونها وسط أمتار قليلة من الأرض، لكنها تشغل في مخيلته آلاف الكيلومترات من عبق الماضي، تمنى صاحبنا في تلك اللحظة أن يتسلقها ويقف على قمتها ويصرخ بصوت الفنان الراحل: «لا يشغلكم الخراب عني»، نعم هذا جل ما تمناه وهو يشاهد رائعة فائق تتوسط عربات خشبية للباعة المتجولين، صباغو أحذية، بسطيات بقالة، أصوات ناس، قلق عيون لعمال ينتظرون أكياس الرزق، ضجيج منبهات العجلات، أقدام مهرولة الى غاياتها، نساء يبحثن تحت جدارية ذلك الكبير عن البضائع الرخيصة، رائحة عربة الأسماك تمتزج مع عطور بسطيات الزينة، وجمل البائعين تملأ المسامع «الحاجة بألف»، «الله يزيدك يارخص»، «اتلث كيلوات بألف»، «تنزيلات»، صوت مكبر من بسطية لبيع الملابس يصيح «يحسين بضمايرنه» يوقظ أحمد من سبات الذاكرة ليردد معه «واحنه بيك آمنه» كان الزمن بدايات شهر محرم الحرام، والسواد يملأ المكان وألوان الجدارية تشارك الحضور بالوجود على الرغم من اشتياقها الذي يشاركها أحمد فيه أن تكون في موقع يليق بها وبمحتواها وبمكانة مبدعها، ودّعها أحمد وتوجه صوب غايته التي تشغله منذ الوصول قاعة كولبنكيان وسؤاله الكبير هل ما زالت تتبختر بلوحات الرواد وروائعهم أم انها غادرتنا معهم؟.

اخترق أحمد جموع الباعة التي احتشدت على رصيف مبنى القاعة المنشودة، ومن بعيد لاح له نصب لم يكن موجودا في زمنه، كان يتمنى أن يطير ليعرف من هذا المتسلطن في باب قاعة الرواد وسلاطنة الفن، وقف قبالة المولود الجديد للنصب العراقية، انه الفنان الراحل جواد خليل مالئ دنيا الفن وشاغل أهلها، نصب رائع لكن لماذا لا تزال تلك الحشود من العربات وبائعيها التي تشوه واجهة القاعة والقيمة الفنية للنصب، الذي يقول عنه مدير قاعة متحف الفن الحديث (كولبنكيان) الفنان علي الدليمي، إن النصب أقيم بمبادرة شخصية من قبل النحات العراقي خليل خميس، من غير دعم حكومي أو تكليف من أحد بحسب قوله، مضيفا ان النصب افتتح تزامنا مع إقامة المهرجان الثامن للخط العربي في الثامن من شهر تشرين الأول، ويضم أكثر من 200 عمل فني لأكثر من فنان لمختلف المحافظات، تناولت آيات من الذكر الحكيم وأحاديث نبوية وحكما وأبياتا شعرية وبمختلف أنواع الخط العربي، ومن ضمنها لوحة للخطاط غني العاني الذي يعد الخطاط العراقي الوحيد الذي منحه شيخ الخطاطين الراحل هاشم البغدادي شهادة الخط، والعاني يعيش الآن خارج العراق.

ويرى مدير القاعة انه لا يوجد ذلك الاهتمام بالخطاطين لذلك تجد أغلبهم يعيشون في تركيا التي تهتم بهذا الفن، أحمد كان يصغي باهتمام لحديث الدليمي ولكن عيونه وكل جوارحه كانت مبهورة بلوحات الخط العربي المعروضة في القاعة الداخلية المسماة (جواد سليم)، تقابلها قاعة أخرى باسم (فائق حسن)، وقف طويلا أمام لوحات بحروف كأنها نوتات موسيقية تتراقص بين إطاراتها، «من يجرب يزداد علما» و»لئن شكرتم لأزيدنكم»، ولوحات القباب الملونة بالآيات قد تكون المهيمنة على ما عرض، لاسيما ان المعرض أقيم مع إطلالة شهر محرم وهو مناسبة لتقديم فن يليق بالمناسبة.

كان أحمد بقمة السعادة وهو يتنقل بين اللوحات والمدير الدليمي يشرح بسرور اللوحات المخطوطة بشكل نحتي مازجة الخط مع فن النحت، مبينا انه لأول مرة في تاريخنا الفني يشارك الطلبة من خريجي أكاديمية الفنون الجميلة بلوحاتهم مع رواد هذا الفن وهو أول معرض يقام بهذه الظاهرة، بحيث كان عدد أعمال الطلبة 41 عملا منفردا ومتميزا وبإشراف ودعم من لجنة مشروع المهرجان المقام بإشراف وزارة الثقافة الني افتتحت المناسبة بحضور مدير عام دائرة الفنون التشكيلية الدكتور شفيق المهدي، ومدير عام دائرة العلاقات الثقافية فلاح العاني، حيث أكد المهدي أنّ هذا المهرجان الذي ظهر بهذه الصورة جاء بعد مفاوضات استمرت لأكثر من ستة أشهر مع المركز العراقي للخط العربي والزخرفة، لكي يخرج بهذه الصورة البهية والجميلة.

مبينا ان الاعمال نفذت على انواع الخامات «الخشب والكنفاص والنحاس والورق والطين، فيما أشار العاني الى أنّ هذا المعرض جاء بالتزامن مع خطوات الإصلاح الهادف والحكيم وفق القانون والذي أعلن عنه وزير الثقافة والسياحة والآثار فرياد راوندوزي لطرد المفسدين وفتح الأبواب لكلّ المثقفين والفنانين.

وأوضح الدليمي ان المهرجان تضمن ورشة بالخط العربي كجلسة حرة للمشاركين وورشة لفن الآبرو قدمها الفنان محمد الربيعي، فضلاً عن ورشة حرفية لأكبر لوحة عراقية طولها سبعة أمتار نفذها الخطاط جاسم حميد علوان.

من هو كولبنكيان؟

يضيف الدليمي وأحمد يستمع: ان المتحف كان يضم أكثر من ثمانية آلاف لوحة للفنانين الرواد، لكن أغلبها نهب بعد العام 2003، أما الآن فأغلب اللوحات انتقلت الى المتحف العراقي.

الدليمي وهو يتحدث كان أحمد يتابع بشغف حديثه وينظر بعين العاشق لمخطوطات في غاية الروعة للفنان محمد سعيد الصكار، وأذهلته أكثر رسائل الرسول لكسرى والى هرقل عظيم الروم والى المنذر، وغيرها من الرسائل المهمة، كذلك تضم القاعة قفصا زجاجيا يضم شعرة من رأس الرسول (ص)، وعدة نفائس يراها أحمد تستحق الاهتمام، القاعة الملونة بالمصابيح واللوحات يتحدث عن تاريخ تأسيسها محدثنا الدليمي والزائر احمد المهووس بالفن يصغي بفرح، حيث يبين ان المتحف أطلق عليه اسم (كولبنكيان) نسبة الى الثري الأرمني بريطاني الجنسية كالوست سركيس كولبنكيان الذي قام ببناء المتحف متعاونا مع الدولة، فضلا عن مساهمته ببناء ملعب الشعب الدولي ومعهد الفنون الجميلة وغيرها من الشواخص مقابل تعويضه بنسبة 5 بالمئة من نفط العراق حتى أطلق عليه اسم «مستر فايف، مبينا انه في أوائل العام 1959.

بدأت أمانة العاصمة بإنشاء مبنى يتوسط قلب مدينة #بغداد في الباب الشرقي، وحين انتهى البناء في أواخر العام 1961، أصبح فيما بعد (مركزاً للفنون) كما كان مرسوماً له أن يكون، وفيما كانت المداولات تجري ما بين (مديرية الآثار العامة) و(وزارة الإرشاد) آنذاك لتسلم الآثار التشكيلية التي كان يضمها متحف الفن الحديث الملغى من قبل الوزارة والقيام بمهام عرضها في متحف جديد، وهكذا تمت إجراءات التسليم خلال مدة قصيرة ودشنت بناية المتحف (رسمياً) في تموز من عام 1962 بافتتاح معرض الفن العراقي الذي أقيم بمناسبة الذكرى الرابعة لثورة الرابع عشر من تموز.

الراوي أول المدراء

أحمد الزائر والعاشق المثابر يشير الى أنه اطلع على تقرير لدار الفنون التشكيلية صدر العام الماضي يؤكد أن العام 1960 شهد تأسيس النواة الأولى للمتحف الوطني للفن الحديث من قبل مديرية المعارض الفنية في وزارة الإرشاد بمبادرة من الفنان الرائد نوري الراوي حيث أقنع الوزير بشراء أول مجموعة لوحات من الفنانين الرواد من بينهم جواد سليم وسعاد سليم ونزيهة سليم وعطا صبري وفائق حسن وعيسى حنا وشاكر حسن آل سعيد وإسماعيل الشيخلي وآخرون، واستمر الراوي يبذل كل جهوده الشخصية للحصول على منحة عالمية وبعد مراسلته حصل على منحة من مؤسسة كولبنكيان العالمية ومقرها لشبونة/البرتغال لبناء المتحف الوطني للفن الحديث «كولبنكيان» ليفتتح بعد ذلك ويكون هو أول مدير له.

ويعد المتحف الوطني للفن الحديث (كولبنكيان) صرحاً ثقافياً فنياً يضيء الوجه الحقيقي لحركة الفن التشكيلي في العراق، بل يعد مركزاً متدفقاً لكل متذوقي الفن التشكيلي، والمكان الأكثر حضوراً ونشاطاً في تقديم التجارب والبحوث التشكيلية وحتى طرح البيانات الفنية التي تبنتها بعض الجماعات الفنية، ويضم المتحف أربع قاعات خصصت كبراها لمتحف الفن العراقي الدائم، الذي يضم النماذج المختارة من أعمال الفنانين العراقيين في حقول الفنون التشكيلية.

لم يقتصر المتحف على إقامة المعارض التشكيلية كما يشير التقرير، بل تعدى ذلك الى صيانة الأعمال الفنية وإعداد أمسيات أسبوعية وندوات ثقافية استمرت طيلة العقد السبعيني، وفي العام 1971 اقترح الراوي تأسيس (الأرشيف التشكيلي) الذي يوثق كل ما ينشر من متابعات صحفية ومقالات نقدية وغيرها في الفن التشكيلي، وهكذا أدخلت بعدها أجهزة الإنارة، وتخصيص مخزن للأعمال الفنية التي تقتنيها الدولة من الفنانين، وبدأت المعارض الدولية تتبادل ما بين العراق والخارج من خلال إدارة المتحف مباشرة، بدعم من وزارة الثقافة، فضلاً عن تنظيم أسابيع وأيام لرواد الفن العراقي، ودعوة فنانين عرب وأجانب لإقامة معارضهم الشخصية، وواصل المتحف نشاطه الفني، حتى العقد التسعيني، حيث الظروف السياسية والحصار، ليتوقف نهائياً منذ الاحتلال الأميركي للعراق وحتى الآن.
وطمأن الفنان علي الدليمي مدير المعرض صاحبنا أحمد بقوله: إنه تم اختيار كادر كفوء من الفنانين الموظفين على ملاك دائرة الفنون التشكيلية، فضلاً عن تخصيص عناصر الجانب الأمني بالتعاون مع وزارة الداخلية، وتمت مفاتحة أمانة #بغداد لغرض إزالة كل المظاهر السلبية والظواهر المدانة الموجودة حول بناية المتحف، لاستعادة رونقها ومكانها الحضاري، وسيفتخر التشكيلي العراقي بعودة هذه القاعة إلى ما يتمناه أحمد وكل فنان عراقي همه النهوض بواقع هذا الرافد الإبداعي الذي تميزنا به منذ عقود.

يوسف المحمداوي

موجز العراق

Share This