مناقشة حول الإبادة الأرمنية في “الفيسبوك”

ara ashjian

آرا سركيس آشجيان*

لقد تسنى لي الاطلاع على مناقشة جرت في موقع التواصل الاجتماعي “الفيسبوك” حول الإبادة الأرمنية. وقد تركز هذا النقاش بين أشخاص يمثلون اتجاهين رئيسيين، وأستعرض هنا آراء كل اتجاه، ومن ثم أعلق عليها ليتسنى للقارئ الكريم الاطلاع عليها.

الاتجاه الأول: لقد ذكر الأشخاص المدافعون عن هذا الاتجاه أنه تطلعت العديد من الشعوب الخاضعة لسيطرة الدولة العثمانية إلى نيل الاستقلال، من ضمنهم الأرمن. وتم طرح السؤال الآتي: هل ارتكب العثمانيون مذابح للأرمن، أم أن الأرمن هم مَن ارتكبوا المذابح للمسلمين ؟!

وجاء الجواب بأن الدولة العثمانية لم ترتكب هذه الجريمة، بل أن الأرمن كانوا ضحية لدسائس الانكليز وقياصرة الروس آنذاك الذين كانوا يريدون اقتطاع هذا الجزء (يقصد به أرمنستان أو أرمينيا الغربية، آ.س.آ) عن الدولة العثمانية. وطرح السؤال الآتي: لماذا لم تثار هذه المواضيع ضد تركيا طيلة هذه السنين، بل وأصبحت تركيا الحليفة القوية للولايات المتحدة الأميركية في حلف الناتو؟ لماذا لم يحاسب الضباط الذين ارتكبوا هذه الجرائم إبان الحكم الكمالي أي بعد سقوط الدولة العثمانية، بل إنهم تقلدوا مناصب عليا في تركيا الكمالية ورحبت الدول الأوروبية واعترفت بتركيا دولة علمانية.

الأوروبيون ارتكبوا جرائم أبشع بحق شعوب المناطق التي استعمروها، ومنهم الشعب الجزائري.

وقد تقلد الأرمن مناصب رفيعة في الدولة العثمانية، فكان منهم وزراء وأعيان تجاوز عددهم الخمسة عشر شخصاً. وذكر أن الأرمن لم يشكلوا أكثرية في أي مكان من الدولة العثمانية لكي يقيموا دولة خاصة بهم، وقد طالبوا بذلك في وقت عصيب كانت الدولة العثمانية تواجه فيه شتى التحديات والمخاطر. وتحالف الأرمن مع الروس والبريطانيين وقاموا بالعمل المسلح لزعزعة الأمن والاستقرار وقتلوا من المسلمين عدداً غير قليل، فكان ما كان من مصيرهم.

من المخجل ان يتكلم الشرقي عن مثل هذه المزاعم عازفاً على وتر الغرب المستعمر الذي كان تاريخه ولم يزل دموياً قائماً على احتلال أراض للشرق ونهب ثرواته وخيراته وقتل أهله.

وحاولت الدولة العثمانية حل الموضوع بتهجير الأرمن إلى الأقاليم الأخرى من الشام والعراق لإبعادهم عن الوجود الروسي البريطاني. الضباط الذين شاركوا في هذه المذبحة كانوا ينتمون إلى حزب الاتحاد والترقي وتقلدوا مناصب عليا في الحقبة التي أعقبت سقوط الدولة العثمانية.

ولم يقتل من الرضع ولشيوخ والنساء أحد .. فهذه من مفتريات الغرب. ولم يقتل إلا من سار في ركبهم ووافقهم الخيانة. والدليل هو بقاء الأرمن حتى يومنا هذا ولو كان القصد إبادتهم جميعاً لما بقي منهم احد.

لا أغمط الشعب الأرمني حقه في أن يكون له وطن، لكن ليست بهذه الصورة التي قاموا بها مستندين إلى العمالة ومستغلين ضعف الدولة العثمانية في أصعب الظروف التي مرت بها في حينها.

القول بأن الدولة العثمانية شيدت على القتل والنهب والسلب غير مطابق للواقع ولا يقبله العقل!!، مع عدم النفي بوقوع حالات وتصرفات غير مقبولة، فهم بشر وليسوا مجتمعاً ملائكياً. الدولة العثمانية خدمت الإسلام والمسلمين 700 سنة منذ فتح القسطنطينية على يد محمد الفاتح. وقد دقت جيوشه أبواب أوروبا استجابة لنداء الشعوب الأوروبية لتحريرها من الحكام الفاسدين الظالمين. لا يجوز أن يكون للأرمن دولة مستقلة بحسب الشرع الإلهي. أما بالشرع الوضعي الغربي، فهذا ممكن طالما تريد تقطيع وتفتيت الدول الإسلامية تحت أغطية ومسميات مختلفة.

الاتجاه الثاني: يقبل الأشخاص في هذا الاتجاه بالحقائق التاريخية وبارتكاب العثمانيين حملات إبادة للأرمن، وبقيام السلطان عبد الحميد الثاني بارتكاب المجازر ضد الأرمن، خلال الأعوام من 1894-1896، وبقية الشعوب المسيحية الخاضعة لحكم الدولة العثمانية.

ودعا الأشخاص الذين يمثلون هذا الاتجاه إلى الابتعاد عن التعصب وقول كلمة الحق حتى ضد نفسه أو أبناء جلدته، إذ قال تعالى “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا”. ومن الظلم محاولة الإخفاء لجريمة الدولة العثمانية بقتل مليون ونصف المليون أرمني وتشريد الآخرين في بقاع الأرض بعد سلب أراضيهم عن طريق حملات الإبادة العرقية المنظمة!!!

ومن المؤسف والمخجل أن يتقبل شخص ما قتل مليون ونصف المليون إنسان أغلبهم من الأبرياء والشيوخ والأطفال والنساء. فضلاً عن محاولة التسويغ لهذه الجريمة النكراء، إذ لم يكن كل أرمني تم ذبحه على أيدي العثمانيين متورطاً بما كان يفعله نازار بك أو جمعية خنجاك! وهل يعتقد أن الأطفال الرضع الذين ذُبحوا كانوا يحملون السلاح؟!!. الأرمن كقومية وشعب لهم الحق في امتلاك دولة مستقلة، ومن الإجحاف القول عن شعب  قتل منهم مليون ونصف المليون شخص بأنهم لم يشكلوا تواجداً مكثفاً!

إن تولي 15 شخصية من الأرمن مناصب عليا في الدولة العثمانية لا يعني شيئاً، فكل محتل غاصب ينصب حفنة قليلة من منافقي الشعب المحتل ومرتزقته ليكونوا بطانة للمحتل وليساعدوه في تحقيق أهدافه.

الدولة العثمانية كانت دولة ظالمة، إذ احتلت، وقتلت، وسلبت، ونهبت، وأثرت سلباً في مستقبل المسلمين، حالها في ذلك حال الدول الاستعمارية الأخرى. الفرق الوحيد أن الدولة العثمانية استخدمت غطاء الدين لخداع البسطاء من المسلمين! وقد تدهورت أحوال المسلمين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والصحية في ظل الهيمنة الاستعمارية لدولة بني عثمان!

وإنني هنا أؤيد ما قاله الأشخاص في الاتجاه الثاني وأكشف عن العديد من المغالطات في أقوال الأشخاص في الاتجاه الأول، وأؤكد على ضرورة الابتعاد عن التعصب والقبول بالحقائق التاريخية. فلم يكن مطلب الأرمن تشكيل دولة مستقلة، مع أحقيتهم بذلك مثل الشعوب الأخرى التي نالت استقلالها، ولكن كان مطلبهم تطبيق الإصلاحات المنصوص عليها في معاهدتي سان ستيفانو وبرلين عام 1878 التي وافقت عليها الدول العظمى والدولة العثمانية نفسها، ولكنها كانت تماطل في تطبيقها. لقد أطلق العثمانيون على الأرمن تسمية “الملة الصادقة” لفترة طويلة، وهو دليل آخر يدين الحكومة العثمانية وقادة حزب الاتحاد والترقي، بقيامهم بتهجير وقتل رعايا الدولة العثمانية، لا سيما أولئك الذين أطلقت عليهم تسمية “الملة الصادقة” !!

كما أعلن الأرمن العثمانيون بشكل واضح وقوفهم إلى جانب الدولة العثمانية وجيشها في حروبها، ومنها في الحرب العالمية الأولى، وانخرط 150 ألف أرمني جندي وضابط أرمني في الجيش العثماني، وقاتلوا واستبسلوا في الحرب ضد الروس بشهادة المسؤولين العثمانيين أنفسهم، وخدموا في المستشفيات العسكرية وشاركوا في المجهود الحربي العثماني. بيد أن جزاء هؤلاء كان القتل أيضاً على يد السلطات العثمانية تحت ظروف بشعة والقلة التي نجت من المذبحة أو الذين اختفوا منها بين أكوام الجثث رجعوا إلى مدنهم وقراهم وشاركوا بأعمال التصدي للجيوش العثمانية التي اقتحمت مساكنهم. وقد عرفت هذه العمليات بمعارك (فان وأورفه وشابين كاراهيسار وجبل موسى) الدفاعية. أما الذين قاتلوا إلى جانب روسيا القيصرية فكانوا من مواطنيها، ولا يمكن تسويغ قتل مليون ونصف المليون شخص من الأرمن العثمانيين من الشيوخ والنساء والأطفال بسبب قتال بعض الأرمن من مواطني روسيا إلى جانب بلدهم!.

إن تركيا دولة عضو في حلف (الناتو)، ولكن هذا لم يمنع دولاً رئيسية في الحلف من الاعتراف بالإبادة الأرمنية. فالأرشيفات الوطنية لهذه الدول، ولا سيما تلك التي كانت قريبة من أحداث الحرب العالمية الأولى، هي مصادرها لمعرفة حجم الجريمة المرتكبة بحق الأرمن، ما عدا بعض الدول، إذ برغم تضمن أرشيفاتها المواد الوثائقية عن إبادة الأرمن، إلا أنها ما زالت تفضل المصالح الاقتصادية والسياسية مع تركيا على الحقيقة التاريخية وتستمر بـ (ذبح) تركيا والحصول على التنازلات والقواعد العسكرية منها في مقابل تأخير اعترافها بالإبادة الأرمنية !!.

 واعترفت بعض الدول الأوروبية بواقع إبادة الأرمن، برغم متانة علاقاتها السياسية والاقتصادية بتركيا (حتى الآن اعترفت 23 دولة في العالم و44 ولاية أميركية، إلى جانب البرلمان الأوروبي واللجنة الفرعية للأمم المتحدة المعنية بمنع التمييز وحماية الأقليات، وهيئات وشخصيات عالمية كثيرة). وبرز موضوع الإبادة الأرمنية على نطاق واسع في عام 1965 مع إحياء الذكرى الخمسين للإبادة الأرمنية، ومن المعروف أن الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية لا تتقادم.

وتحاول تركيا توسيع نفوذها والتدخل بشكل سافر في شؤون الدول العربية لإحياء الإرث للدولة العثمانية (الرجل المريض) التي كانت وبالاً على مصير جميع الشعوب الخاضعة لها. ويبدو جلياً أن كل ذلك يجري بمساندة من قبل بعض الدول العربية والدول العظمى لغايات تحقيق مصالحها الذاتية على حساب المصالح لشعوب المنطقة. وعلى الشعوب التي جاءتها موجات “الربيع العربي”، أو الأصح المخطط لإعادة تشكيل الخريطة لمنطقة الشرق الأوسط، والتي ترى في النظام التركي أنموذجاً يمكن أن يحتذى به، أن تدرك المخاطر الناجمة عن إحياء الدولة العثمانية، بأي شكل من الأشكال، وتقرأ التاريخ جيداً.

ويتحدى الكثير من الأتراك، ومن بينهم أكاديميون بارزون، “الرواية الرسمية” التركية حول أحداث عام 1915، إذ يتحدى هؤلاء “التفسير الرسمي” لـ(نقل) السكان الأرمن من المناطق الحربية المتاخمة لروسيا (في الأناضول الشرقية) بحجة إبعاد الأرمن من المناطق الحربية بزعم التمرد، يتحدونه بواقع تهجير الأرمن وعقابهم جماعياً في كل مناطق الأناضول الشرقية والغربية، ومنها البعيدة عن جبهة القتال بآلاف الكيلومترات، ويتساءل هؤلاء عن السبب في تهجير النساء والأطفال والشيوخ وقتلهم أو تركهم يقضون نحبهم من الجوع والعطش خلال المسير الطويل في الصحارى طالما لم يشارك هؤلاء في التمرد المزعوم !!

وقد تمت محاكمة الاتحاديين المسؤولين عن جرائم إبادة الأرمن من قبل المحكمة العسكرية التركية عام 1919، ونشرت اعترافاتهم بالكامل في الصحف التركية الصادرة آنذاك، وتم إصدار أحكام الإعدام بحق بعضهم ونفذت، فضلاً عن إصدار أحكام الإعدام بحق بعض الهاربين من المجرمين من قادة حزب الاتحاد والترقي بعد خسارة الدولة العثمانية للحرب العالمية الأولى. كما جرت المناقشات العلنية في البرلمان العثماني بعد الحرب، واعترف النواب الأتراك بالجريمة المرتكبة بحق الأرمن. ونشرت هذه المناقشات والمحاكمات في الصحف التركية الرسمية آنذاك. كما اعترف مصطفى كمال أتاتورك بواقع قتل المسيحيين في لقاء أجراه معه صحفي أميركي عام 1926.

وتمتلك تركيا الإمكانيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والدبلوماسية والمصالح الإستراتيجية التي تربطها بدول كثيرة في العالم، فضلاً عن أنها تنفق ميزانية ضخمة على مشاريع تزييف التاريخ وشراء الذمم، ولم يفدها كل ذلك، لأن الحقيقة لا بد أن تنكشف مهما طال الزمن.

والأرمن في دول العالم كافة، وهم من سليلي الضحايا للإبادة الأرمنية، يبذلون كل ما في وسعهم من أجل تحقيق العدالة التاريخية واستعادة حقوقهم المسلوبة.

*كاتب عراقي أرمني مقيم في جمهورية أرمينيا، له العديد من المقالات حول القضية الأرمنية وتاريخ الأرمن في العراق.

(مقالة صدرت في العدد الخاص الذي أصدره ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية في 24 نيسان 2015 بمناسبة الذكرى المئوية للابادة الأرمنية)

Share This