جامع حلب الكبير…صفحات كتاب “تاريخ حلب “للأسقف أردافازت سورميان (11)

الجامع2

الفصل الثامن

 

جامع حلب الكبير

ليست حلب التاريخية غنية بقلعتها وأسوارها وأبوابها المشهورة فحسب,بل كونها مركزاً إسلامياً كبيراً فإنها غنية أيضاً بجوامعها الشهيرة العديدة ومنها على وجه الخصوص الجامع الأموي. وكان موقع هذا الجامع في العهد البيزنطي حديقة ومقبرة ومُلكاً للكنيسة اليونانية.  ويُنسب بناء هذه الكنيسة إلى الامبراطورة هيلانة والدة الامبراطور البيزنطي قسطنطين مؤسس مدينة القسطنطينية إلى جانب كنائس عديدة أمرت بتشييدها في سوريا. وسنتحدث حول هذه الكنائس لاحقاً. وعندما فتح العرب المسلمون حلب أكرهوا البيزنطيين,بناء على اتفاق خاص,بالتنازل عن أرض الجامع الكبير الحالي لهم. ويقول ابن الشحنة بأن الجامع شيد على موقع كان الله وحده يعبد عليه. ويقول ابن الشداد:((روى لي بهاء الدين محمد الحسن بن إبراهيم بن سعيد بن الخشاب من حلب:سمع الشريف أبو جعفر الحلبي الهاشمي من أسلافه بني صالح بوجود مقبرة للكنيسة بنتها الملكة هيلانة على الجهة الشمالية من الجامع الكبير)).

يقول المؤرخ العربي الآخر ابن العديم: (علمت من القاضي شمس الدين أبي عبد الله محمد بن يوسف بن الخضر بأن جامع حلب الكبير ينافس جامع دمشق الكبير بزخارفه وألواح الفسيفساء. وقد سمعت بأن باني الجامع هو سليمان بن عبد الملك الذي لم يوفر جهداً أو مالاً لمساواته مع الجامع الكبير في دمشق الذي أمر بتشييده شقيقه الوليد. وهناك روايات تؤكد على أن الوليد ذاته بنى جامع دمشق الكبير لأنه أمر شخصياً بنقل جميع أحجار كنيسة سيروس  Cyrus (موقع النبي هوري الحالي شمالي حلب قرب الحدود التركية-المترجم) وأشياء أخرى والتي كانت تعتبر إحدى عجائب الدنيا. ويقال أيضاً بأن امبراطور بيزنطة رغب بالحصول على أعمدة هذه الكنيسة الثلاثة لقاء مبلغ
كبير هو 70,000 ديناراً ذهبياً ولكن الوليد رفض طلبه. وعندما هدم العباسيون جميع الأنصاب الأموية في سوريا قاموا بنقل جميع مرامر هذه الكنيسة ومتاعها ووضعها في جامع حلب الكبير التي بقيت في حال جيدة حتى عام 962م عندما شن الامبراطور نيكيفور هجوماً على حلب. وقد نجا أثناء هذا الهجوم جميع الذين لجؤوا إلى القلعة. وقد هاجم شقيق الامبراطور بعد ذلك القلعة ولكنه قتل بحجر رمتها امرأة عليه من سور الحصن فقام نيكيفور بالثأر لمقتل شقيقه وقتل معظم الأسرى المسلمين وأحرق الجامع الكبير والمدينة ثم غادر المكان. وسيف الدولة الذي كان قد لجأ إلى قنسرين عاد إلى المدينة وبادر إلى ترميم الجامع جزئياً. وعندما توفي الأمير الحمداني وأصبح ابنه أبو المعالي سعد الدولة صاحب المدينة قام بتشييد قبة للنافورة الواقعة في وسط الجامع التي تستند على أعمدة بعلو سبعة أشبار. وكانت بركة كبيرة وجميلة جداً مصنوعة من المرمر تقع تحت القبة ويقال بأنها كانت تستخدم في هيكل إحدى الكنائس. وقد كانت هناك كتابة يُقرأ عليها:”شيد القسم الشرقي من الجامع قضاة بني عمار أمراء طرابلس السورية الكبار”)).

أحرق الإسماعيليون في ليلة الأربعاء 24 تموز عام 1169م الجامع الكبير في عهد نور الدين إلى جانب جميع الأسواق المجاورة. وقد قام نور الدين بإعادة بناء هذا النصب التاريخي بكل همة بأحجار مناجم حلب الرئيسية الواقعة على الجهة الشمالية لأحياء حلب قرب ينابيع عين التل وبعادين حيث تم تجهيز أعمدة الجامع الصفراء من مناجم الموقع الثاني وجلب بقية الأعمدة من جامع قنسرين. وكانت جميع أعمدة جامع حلب الكبير من المرمر الأبيض فلم تتحمل حرارة الحريق العالية فانهارت جميعها على الأرض لذلك استخدام المرمر الأصفر في بنائها. وكانت بعض التيجان ملقاة على قواعد الأعمدة في باحة المجامع فقاموا بجمعها ووضعها في أمكنتها الأصلية على الجهة الغربية من الرواق. وكان نصف هذا القسم عبارة عن سوق بالقرب من سوق البزة (سوق تجار الألبسة والأقمشة) خصص للجامع كوقف لذلك لم يكن مسقطه مستطيلاً في ذلك الوقت. ورغب نور الدين بضم السوق إلى الجامع فاستشار العالم الحقوقي محمد الغزناوي بن علاء الدين أبي الفتح عبد الرحمن فقدم له هذا فتوىً بجواز تغيير المعالم فهُدمت السوق وضُمت إلى الجامع وتوسعت مساحته وأصبح أكثر بهاءً. ويقول ابن العديم:((رأيت شخصياً الفتوى التي حررها الغزناوي بيده)). وقد خصص نور الدين بعد ذلك أوقافاً عديدة للجامع.

عندما أصبح المغول أصحاب حلب احتل ملك المملكة الأرمنية في كيليكيا  Levon الثاني (لاون حسب لفظ المؤرخين العرب-المترجم) مدينة حلب وحرق الجامع الكبير عام 1260م ثم قام قره سنقر بإعادة بنائه عندما أصبح حاكم حلب. وقد عُين القاضي شمس الدين بن صقر من حلب للإشراف على الإنشاءات فتم ترميم الجامع الكبير في أيلول عام 1285م. ويُعتقد أن جدار المصلى الشمالي الذي ينتهي عند الرواق يعود إلى عهد نور الدين.

عندما أصبح الأمير ألتونباغا الصالحي حاكم المدينة أعاد إنشاء الرواق الشرقي. والرواق الغربي الذي كان مغطىً بسقفين خشبيين rampants انهارا في عام 1421م فقرر أمير حلب يلبغا اليوسفي إزالتهما وتشييد قبة عوضاً عنهما وكان كل شيء جاهزاً عندما وافته المنية. وقد شيد هذا القسم في الجامع بالحجر لاحقاً.

عندما احترق الجامع أثناء الهجمات المغولية بنى ابن صقر أقواساً أغضب حاكم حلب.  وفي عهد الملك الظاهر جقماق وعندما كانت كل السلطات محصورة في المدينة بيد زين الدين عمر بن الصفا وقع خلاف بين المعماريين حول الجدار الذي فُتحت فيه أبواب تؤدي إلى المصلى. وكان رئيس المعماريين في ذلك الوقت علي بن الرحال الشخص الذكي والمحنك. ولم يكن لهذا الجدار مثيل في جماله ومتانته ولا في المواد الجيدة التي تم استخدامها أثناء بنائه.  وقد مال القسم الأوسط من البناء إلى الأمام ولوحظت شقوق على الأقواس وكانت تتساقط بعض الحجارة الناعمة وقطع الملاط من الجدار الشمالي للمصلى. وفي أحد الأيام عندما كان الجامع مزدحماً بجموع المصلين سقطت حجارة عليهم فارتعدوا بشدة وخالوا أن الجدار بدأ ينهار فهرعوا إلى خارج الجامع. وأسرع حاكم المدينة الحمزاوي بصحبة ابن الصفا وكبار القوم والمهندسين والبنائين وبينهم الحاج محمد شُقير الذي كان إنساناً تقياً وصاحب خبرة في مهنته. وقد أكد الجميع على خطورة وضع الجامع ولكنهم لم يصلوا إلى اتفاق في كيفية الترميم.  وكان البعض يقترح هدم الجدار لإنقاذ المئذنة لأن المئذنة القديمة كانت تقع على الجدار الغربي الذي ينتهي عند الجدار الشمالي للمصلى. وبعد مداولات وتفكير طويل ظهر بأن السبب الحقيقي لكل ما جرى هو تجمع المياه في الصهريج الواقع تحت الرواق. ومع ذلك افترق الجميع دون الوصول إلى حل جذري سوى أمر الحاكم بتفريغ المياه. وقد أكدت التنقيبات فيما بعد بأن الجدار بني على أقواس. ثم يتحدث ابن الشداد حول الصهريج الواقع في وسط الجامع. وهناك رواية حول هذا الصهريج تقول:((في وقت ما عُين شخص مرموق في حلب مشرفاً عاماً على أوقاف الجامع الكبير. وفي إحدى الليالي طرق امرئ غريب بابه فسلمه 1000 ديناراً ذهبياً وطلب منه تخصيص المبلغ لأعمال الإحسان. وقد استلم المشرف المبلغ وبدأ يفكر بكيفية صرف المبلغ بناء على طلب المحسن وتوصل إلى نتيجة بإمكانية بناء مستودع كبير تصب فيه جميع الأقنية لأن جميع مياه ينابيع حلب كانت مالحة وعلاوة على ذلك بإمكان العدو المغير إيقاف جريان الماء في قناة حيلان فقرر حفر أرضية الرواق واشترى الحجر والكلس وأوعز إلى البنائين ببناء صهريج كبير. ولكن قبل انتهاء العمل أُنفق كامل المبلغ ودخل اليأس إلى قلبه. وعاد هذا الغريب إليه ثانية في هذه الأثناء وطرق باب داره وقدم له ما يحتاجه من المال لإتمام العمل. وكان الصهريج بعد إتمامه واسعاً جداً ويقال بأن المياه لم تنضب فيه أبداً على الرغم من كثرة استخدامها من قبل السكان والسقائين. وقد هاجم سكان حلب هذا المشرف لدى حاكم المدينة متهمين إياه بسوء الأمانة. وكان من الطبيعي أن يطلب الحاكم منه كشف حساب وعلم بالنتيجة أن المشرف لم يصرف درهماً واحداً من أموال الوقف في بناء الصهريج. وقال المشرف:((يعلم الله بأنني لم أصرف من واردات الجامع بل وصلني المبلغ من شخص كان يريد عمل الخير)). ثم روى له ما جرى. ويقال بأن ذلك الإنسان الذي جرت معه هذه الأحداث يدعى ابن الأيسر. ويشير المؤرخون المعاصرون الذين كانوا يروون هذه الحادثة بأن المنجم الحلبي الإكليلي بن الفضل قال لهم:((عندما قاموا بحفر الصهريج الكبير تحت رواق الجامع الكبير وجدوا تمثال أسد حجري يتجه إلى القبلة)). وكان الصهريج مغلقاً لا يستخدم في أيام المؤرخ ابن الخطيب.

يصف ابن الشداد مئذنة الجامع بعدئذ قائلاً: ((روى لي بهاء الدين أبي محمد الحسن بن أبي ظاهر إبراهيم بن أبي البركات سعيد بن يحيى بن محمد بن أحمد بن الحسن بن عيسى بن الخشاب بأن عمه الكبير القاضي فخر الدين أبي الحسن محمد بن يحيى بن محمد بن الخشاب أكمل تشييد مئذنة الجامع الكبير في عام 482 هـ=1090م كما جاء على كتابة نقشت عليها.  وقد تم بناء الجامع بجهود أبي الحسن محمد وكان من الأحداث المشهود لها في تلك السنة.  وقد شيدت المئذنة مكان البرج القديم بأحجار معبد لعبادة النار تم تحويله إلى بيت نار أحد الحمامات فقام بعض الحاسدين باتهامه لدى الأمير وتحريضه عليه فاستدعى القاضي ووبخه.  ورد عليه القاضي:أيها الأمير كان معبد النار هذا قد حول إلى بيت نار أحد الحمامات فأقمت بأحجاره معبداً إسلامياً لسماع اسم الله تعالى ثم قمت بنقش اسمك عليه مكافأة لك وإذا لم يعجبك ذلك وسمحت لي بشراء أحجارك وتعود المكافأة إلي سأقوم بإطاعة أوامرك. وقد استغرب الأمير من رد القاضي وقيّم عمله عالياً فقال له: لا! إفعل ما تشاء ولتبقى المكافأة لي.  وكان الشخص الذي افترى على القاضي يدعى أبو نصر بن النحاس من أعيان البلد. وقد تم حفر الأساسات حتى قاعدة المئذنة وتم الوصول إلى المياه.  وبعد تفريغ المياه تم تمتين الأساسات بوصل الأحجار بمخالب حديدية crampon وانتهت هذه الأعمال الإنشائية في عهد قاسم الدولة أقسنقر. ويصل ارتفاع المئذنة إلى 97 ذراعاً وعدد درجاته إلى 174 درجة)).

روى زين الدين بن العجمي الحلبي بأنه في ليلة الإثنين من 7 آذار عام 1180م حدث زلزال هائل انهدمت على إثره منازل وسبب ضحايا بشرية عديدة. وعلى الرغم من سلامة المئذنة فقد قُذف الهلال المثبت عليها مسافة 600 قدماً وتحطم. وقد بنى هذه المئذنة القاضي عيسى جد أبي الحسن بن الخشاب الذي ترك حصن الأكراد وجاء ليقطن في حلب وكان لأسلافه تأثير كبير على حكام وملوك حلب وكانوا من مستشاريهم. والقاضي عيسى هو الذي بنى جامع الجرن الأصفر أيضاً وقد تم جلب أحجاره من مكان بعيد. وقد أقام القاضي أيضاً مدفناً عام 1114-1115م أمام دور العائلة يمتاز بأحجاره الكبيرة وهندسته الرائعة وخصص حمام البيلوني وقفاً له. وكانت واردات الوقف مخصصة لغايات شتى والمبلغ الزائد لمعوزي عائلات بني الخشاب. وكان الإفرنجة كثيري الإغارة على حلب وكان أبو الحسن بن الخشاب يدعم المحاصرين ويصرف من ماله عليهم لكن قتله أحد أعدائه قرب داره في ليلة من ليالي عام 1125م فخلفه ابنه أبو الحسن يحيى الذي استمر مفتشاً للمدينة في أعمال البر كوالده.

يقدم ابن الشحنة التفاصيل التالية قائلا:ً((عندما احتل المغول حلب,ليخمد الله همتهم, دخل ملك الأرمن لاون Levon الثاني إلى الجامع الكبير في يوم الأحد 26 كانون الثاني عام 1260 فقتل أناساً عديدين وأحرق القسم الغربي للجامع. وقد امتد الحريق نحو الجنوب والغرب واحترقت المدرسة الحلوية القريبة كذلك سوق القماش والألبسة. وقد أعلم عماد الدين الغزناوي هولاغو خان زعيم المغول بأن الأرمن قاموا بحرق الجامع الكبير ولكنهم لم يمسوا كنائس المسيحيين بسوء. وأمر هولاغو بإطفاء الحرائق وقتل سكان سيس, (عاصمة مملكة كيليكيا الأرمنية-المترجم)ولكن لم يتمكنوا من إطفاء الحرائق في حلب فأرسل الرب تعالى أمطاراً غزيرة  وأطفأها. وقد استلم رجل الدين الصوفي نور الدين يوسف بن أبي بكر بن عبد الرحمن السلمسي مهمة تنظيف الجامع ودفن القتلى المسلمين في الحفرات الموجودة تحت الرواق الشمالي ووهب عز الدين أحمد كل ما يملك إلى الجامع وقدم شقيقه قسم من أمواله إلى الفقراء والباقي لترميم الجامع وقدره 18,000 درهماً فضياً و2000 درهماً للفوانيس والأغطية)).

يعتقد المسلمون بأنهم يحتفظون برفات القس زكريا والد القديس يوحنا المعمدان في الجامع الكبير أو جامع زكريا. وكما يظهر في الصورة فإن الجامع الكبير مشهور أيضاً برواقه المعمّد والجميل والواسع والمبلط من جهاته الثلاث حيث يصلي عدد كبير من المؤمنين في العراء في جميع ساعات النهار. والمئذنة المربعة التي يصل طولها إلى 54م تعكس بشكل كامل فن برج الجرس في البازيليكا البيزنطية. ومن الأقسام المشهورة داخل الجامع محرابه المنقوش والمطعّم برقائق العاج وخلفه القبر الذي ينسب إلى زكريا وعليه سجادتان نادرتان.  وجميع أبواب الجامع الأربعة تُفتح على الأسواق المجاورة. J. Sauvaget (Les Perles Choisies d’Ibn ach-Chihna)) I, Beyrouth-1939, p. 56

ينفرد “ملحق أزتاك العربي للشؤون الأرمنية” بنشر صفحات كتاب “تاريخ حلبللأسقف أردافازت سورميان.

* من كتاب تاريخ حلب” للأسقف أردافازت سورميان، مطران الأرمن الأسبق في حلب، (1925 – 1940)، ترجمه عن الأرمنية الدكتور ألكسندر كشيشيان، عضو اتحاد الكتاب العرب وجمعية العاديات، حلب، 2006.

Share This